أصدرت محكمة الجنايات الدولية أمس أمرا قضائيا لاعتقال العقيد الليبي معمر القذافي ونجله سيف الإسلام ومدير جهاز مخابراته عبد الله السنوسي بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في قرار سوف لن يزيد إلا في تعقيد سبل تسوية الأزمة الأمنية في ليبيا بالطرق السلمية. ويبدو أن لويس مورينو اوكامبو المدعي العام في هذه المحكمة اختار توقيت إصدار هذه الأوامر وبكيفية تعرقل كل الجهود الدولية الرامية إلى إجلاس فرقاء الحرب في هذا البلد إلى طاولة المفاوضات على أمل التوصل إلى حل سياسي. فقد جاء القرار غداة تصريحات اللجنة الإفريقية للمساعي الحميدة في ليبيا التي اجتمع أعضاؤها بمدينة بريتوريا الجنوب افريقية وكشفها لأول مرة عن موقف العقيد الليبي بعدم المشاركة في أية مفاوضات مع المعارضة المسلحة حول مستقبل بلاده في مؤشر ايجابي يمكن القول انه يهدف إلى عدم التأثير على تغليب الخيارات الدبلوماسية لإنهاء هذه الأزمة. والأكثر من ذلك أن إصدار المحكمة الدولية لهذه الأوامر جاء أيضا عشية انعقاد القمة السابعة عشر للاتحاد الإفريقي بدولة غينيا الاستوائية في الثلاثين من هذا الشهر والتي سيكون ملف الأزمة الليبية وتداعياتها وكذا سبل إنهائها بالطرق السلمية في أعلى جدول أعمال رؤسائها. ولا يستبعد نتيجة لذلك أن يكون اختيار توقيت الكشف عن اصدار هذه الأوامر مقصودا ويخدم حسابات الدول الغربية المنضوية تحت مظلة الحلف الأطلسي التي تصر على رحيل القذافي ومحاكمته بدلا من إيجاد حل لأزمة دخلت شهرها الخامس دون أن يتمكن الخيار العسكري الذي تبنته هذه الدول في حسم معركة يبدو ان تسويتها بالآلة الحربية يبقى أمرا مستحيلا. ورغم أن الدول المشاركة في العملية العسكرية اعترفت بفشلها في تحقيق هدفها الظاهري بحماية المدنيين الليبيين عبر لائحة مجلس الأمن الدولي 1973 وغاياتها المستترة بقتل العقيد الليبي ضمن خطة لتسهيل الإطاحة بنظامه فإن الاتحاد الأوروبي أيد أمس مسعى اوكامبو وأكد أن رحيل القذافي يبقى أمرا حتميا. ويذهب مثل هذا الموقف غير العقلاني إلى نقيض زعم هذه الدول بالسعي إلى حماية المدنيين الليبيين بدليل أنها ركبت رأسها وتصر على مواصلة عمليات قصفها وبالتالي إفشال كل الجهود الدولية الأخرى الهادفة إلى إجلاس فرقاء هذه الأزمة إلى طاولة التفاوض لحسم خلافاتهم بالطرق السلمية والإقناع وبعيدا عن أي ضغط عسكري. ويكون مثل هذا الموقف الرامي إلى تأجيج نار الحرب في ليبيا هو الذي جعل الرئيس الجنوب إفريقي جاكوب زوما يقر أن دول الحلف الأطلسي خرقت كل شرعية لنص اللائحة الأممية لفرض منطقة حظر جوي علي ليبيا بعد أن خولت لنفسها صلاحية اغتيال العقيد الليبي. وعندما نعلم أن مثل هذا المسعى جاء في وقت كشفت مصادر تونسية عن اتصالات مكثفة بين وزراء في الحكومة الليبية وأعضاء من المجلس الانتقالي الليبي المعارض في جزيرة جربة التونسية يتأكد معها أن الدول الغربية تريد أشياء أخرى من وراء التخفي وراء حماية الديمقراطية في ليبيا . ولو كانت هذه الدول تريد فعلا مصلحة الشعب الليبي لكانت اول الداعين إلى تغليب لغة الحوار بدلا من التعنت والإصرار على القوة العسكرية وخاصة وان العقيد معمر القذافي أعطى مؤشرا ايجابيا في هذا الاتجاه عندما اسر لأعضاء لجنة الوساطة الإفريقية انه لا يريد أن يكون طرفا في أية مفاوضات محتملة مع المعارضة المسلحة. وهو عرض كان يجب أن يؤخذ محمل الجد وخاصة وان احتمالات مغادرة العقيد الليبي لبلاده أصبحت مستحيلة بعد أن تمسك بخيار الموت في بلاده بدلا من مغادرتها مرغما وهو الأمر الذي أصبح أكثر من مؤكد في ظل المذكرة الدولية التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية ضده. ويبدو أن حسابات الدول الغربية ابعد أن تكون مجرد الاكتفاء بالإطاحة بالنظام الليبي وهو الذي جعلها تعمل على إفشال كل المساعي التي بادرت بها تركيا وروسيا والاتحاد الإفريقي لإنهاء الاقتتال بين الإخوة الأعداء في هذا البلد بل أنها شجعت المعارضة المسلحة على مواصلة الحرب وكان يمكن أن تستغل عرض السلطات الليبية بوقف إطلاق النار والبحث عن نقطة التقاء توافقية من اجل وضع خطة انتقالية للخروج من حالة الاحتقان الحالية.