إن العودة للتاريخ تعطينا نكهة وفي نفس الوقت اكتشافا وكأننا في رحلة خيالية نحو الماضي، من الصعب وضع صورة لجزائر سنة 1836 ولم يمض على احتلالها من قبل الفرنسيين إلا ست سنوات، والمقاومة الوطنية بقيادة الأمير عبد القادر في أوجها في منطقة الغرب الجزائري وفي الشرق أحمد باي يعد العدة للصمود والتصدي للحملة التي كانت تعد لاحتلالها، ولكن الحياة كانت تمضي والزمن يسير إلى الأمام ورمضان الشهر الذي يقدسه المسلمون لأنه شهر عبادة يصومونه كل سنة فكيف كان استقبال شهر رمضان تحت مظلة الاحتلال في سنواته الأولى؟ المصادر العربية ومراجعها قليلة وشحيحة في التقاط صور اجتماعية مقروءة عن كيفية استقبال رمضان خلافا لما جرت عليه العادة في المشرق العربي من استعدادات لهذا الشهر العظيم من خلال الأسواق والفوانيس والمسحراتي والمقاهي وغيرها من الحياة الاجتماعية، أما في المغرب العربي فقليل هي تلك الوصفات التي تنقل لنا هذه الطقوس الاجتماعية، لكن هناك بعض الوصفات التي التقطت لنا هذه الصور ووصفت لنا رمضان في سنة 1836 ومن هذه الوصفات ما كتبه الرحالة الألماني موريتس فاغنر الذي قدم الى الجزائر ومكث بها مدة سنتين والتقط لنا هذه الصور عن رمضان الجزائر، حيث صور لنا بدقة وبعين الغريب التي تريد أن تتفحص الأشياء والحركات وتفهم البلد الذي تزوره حتى تكتشفه، ففاغنر لاحظ أن قدوم شهر رمضان في مدينة الجزائر باستقباله وتأكيد دخول هذا الشهر العظيم عند المسلمين بإطلاق مائة طلقة وطلقة من مدفع كبير أقيم في الميناء، ولعل هذا التقليد كان جارياٍ العمل به قبل سقوط مدينة الجزائر في عهد التواجد العثماني بها، لكن هذه الطلقات حسب هذا الرحالة الألماني لم تكن مجانية ولا ابتهاجا من السلطات الفرنسية التي كانت تحتل المدينة وإنما كانت هذه السلطات تجبر سكان الجزائر العاصمة على دفع خمسة فرنكات مقابل كل طلقة. الطلقات المدفعية التي تعلن بداية رمضان الكريم ويعرف المسلمون من خلالها دخول شهر رمضان وهذا الدخول يتم التبشير به من خلال إنارة المصابيح الكثيرة فوق منارات المساجد التي تضيء الهلال الذي يتوج رؤوسها. ويصف فاغنر الهيئة التي يكون عليها المؤذن فإنه يأتي في ثياب جميلة وسط أضواء المصابيح ويصعد المئذنة ليرفع العلم الأبيض ثم يشرع في الآذان داعيا المؤمنين إلى الصلاة، في هذا الحين يسارع الجميع لتلبية النداء فلا الشيخوخة ولا الثروة تحول بين المسلم وبين المضي إلى بيت اللّه. كان عدد المساجد أيام تواجد هذا الرحالة الألماني بمدينة الجزائر تسعة وثلاثين مسجدا، وكانت هذه المساجد دائما مكتظة بالمصلين. الرحالة الألماني كان معجبا كثيرا بالطقوس الإسلامية وبصوت المؤذن وهو ينادي المؤمنين إلى الصلاة وهذا ما دفعه في كثير من المرات إلى تلبية هذا النداء والذهاب إلى المسجد والمشاركة في صلاة الجماعة على طريقته الخاصة لأن المسلمين لا يمنعون أحدا من دخول مساجدهم، إلا أنه على الزائر أن يحترم هذه المساجد لأنها أماكن للعبادة وذلك بخلع حذائه حفاظا على طهارة المكان، كما التقط لنا هذا الرحالة صورة عن الجامع الكبير، حيث تضاء فيه عدة مصابيح. فاغنر أعجب كثيرا بالجزائر في رمضان وبالجزائريين خاصة في رمضان فهو يصف إقامة الصلاة، حيث كان يؤم الناس فيها شيخ الإسلام، ويرى أن هذه الصفوف المرصوصة لأداء الصلاة جديرة بالاعتبار، حيث رأى المسلم الفخور المعتز بنفسه ينحني أمام ربه بخشوع العبد المذنب المرتعد، فالمصلون يصطفون خلف الإمام دون أن يقيموا وزنا للمكانة أو الأصل والنسب. ومن الصور التي رآها هذا الرحالة وانطبعت في ذهنه هي أن المسلمين كانوا يلفون مسبحة حول أيديهم أثناء الصلاة، وقد كانت المسبحة موجودة بكثرة، حيث كانت ترى بأيدي الأئمة والمرابطين وشيوخ البدو، وهناك عدد من أولياء هذه البلاد المشهورين ومنهم الأمير عبد القادر لا يكادون يتركون المسبحة من أيديهم.