لاشك أن كل من يزور الجزائر سيشعر حتما بأنه أمام متحف تضرب جذوره في التاريخ، لا لشيء إلا لكونها الأرض التي تعانقت فيها الحضارات القديمة تاركة وراءها حجرا يروي قصة شعوب بتفاصيل عن الثقافات والأساطير.. وفي الوقت الذي يشكل فيه الجمال نقطة مشتركة في عدة ولايات، يعد تدني الحس البيئي قاسما مشتركا أيضا، حيث تكاد النفايات تغطي وجه العديد من المواقع السياحية...''المساء''زارت بعض ولايات الشرق الجزائري في إطار رحلة استكشافية نظمتها وزارة السياحة بالتنسيق مع الديوان الوطني للسياحة، فقامت بالإضاءة على هذا المشكل من خلال استطلاع آراء المهتمين بشؤون السياحة. من عنابة، مرورا بسوق أهراس وانتهاء بقالمة، كانت الرحلة السياحية التي قادت وفدا صحفيا من 26 إلى 29 سبتمبر المنصرم بمثابة شريط وثائقي عن عصور غابرة، وجمال طبيعة تأسر القلوب، وحضارات مرت من الجزائر ذات يوم، تتحول إلى بقايا تاريخ تسحر الألباب.. لكن تلك الطبيعة الفاتنة بمعالمها العتيقة هي اليوم بأمسّ الحاجة إلى من يزيح عن وجهها نفايات الحياة الحديثة... هذا هو الانطباع الأول الذي تبادر إلى أذهننا إثر الجولة الاستكشافية، وفي طياته نقاط استفهام: هل أن السياحة والنظافة صارا أمرين لا يلتقيان في الجزائر؟.. ومن يتحمل مسؤولية أكوام النفايات التي باتت تغزو عدة مواقع سياحية، وكأنها جزء من الديكور الطبيعي؟ فالمعروف أن السياحة تعتبر اليوم من أكثر أهم القطاعات في التجارة الدولية، كونها قطاع إنتاجي يسهم في تحقيق التنمية المستدامة نظرا لدورها المهم في زيادة الدخل القومي وجلب العملات الصعبة وامتصاص البطالة. وتعتمد السياحة في الوقت الراهن على المحيط المادي النظيف والبيئات المحمية لجلب السياح، ولهذا ظهر حديثا مصطلح السياحة البيئية ليعبر عن نوع جديد من النشاط السياحي الصديق للبيئة الذي يمارسه الإنسان حفاظا على الموروث الطبيعي، الحضاري والثقافي للبيئة التي يعيش فيها. وباختصار، تتعلق السياحة البيئية بتنفيذ قواعد السياحة المستدامة عموما وبحماية البيئة خاصة، فهي تشمل جميع أنماط السياحة المتوجهة للمناطق الطبيعية نظرا للترابط الكبير بين السياحة والبيئة، وتأثيرات ذلك على درجة استقطاب السياح.
إشكالية بحاجة إلى حلول جذرية بداية، تقول السيدة ''آمال نواورية بوحريس''، مختصة في علم الآثار''، يبدو لي من خلال تجربتي في المجال السياحي أننا أصبحنا أقذر شعب في العالم''.. وتروي أنها ذات مرة سألت بعض المواطنين بحمام دباغ بقالمة عن سبب عزوفهم عن التطوع لتنظيف هذا الموقع الذي تغزوه النفايات، فأجابوا بأنها مهمة البلدية!!. هذه الذهنية الاتكالية تدفع بالمواطن للتهرب من مسؤولية المشاركة في نظافة المحيط.. وليت المشكل يتوقف عند حدود عدم المشاركة في تنظيف المحيط، إنما يتعداه نحو المساهمة في نشر النفايات في المواقع التي يزورها. تضيف السيدة نواورية. وتستطرد المختصة في علم الآثار أن أهمية وجاذبية الهياكل السياحية لا تكمن في عدد نجوم الفنادق فحسب بقدر ما تكمن في نظافة محيطها.. ومع ذلك، يجب الإقرار بأن النظافة ليست قضية المواطن لوحده، فالأمر يتعلق بمشكلة بيئية بحاجة إلى حلول جذرية لا تتوقف عند حدود حملات التنظيف، وهو ما يقع على عاتق السلطات المحلية من خلال اتخاذ إجراءات ردعية يخوّلها القانون على غرار فرض عقوبات مالية على كل من يرمي النفايات، لاسيما وأن بعضها مثل القوارير البلاستيكية لا تتحلل إلا بعد مرور 300 سنة. ومن جانبها، ترجع السيدة ''ذهبية حماني''، مكلفة بالتسويق بالديوان الوطني للسياحة، ظاهرة انتشار النفايات إلى نقص وعي المواطن، لافتة إلى أن عدم وجود سلات المهملات في العديد من المناطق السياحية لا يبرر السلوكات التي تشوه صورة المواطن الجزائري قبل صورة السياحة. وتشير السيدة ''حماني'' إلى أن تحول العديد من المواقع السياحية عبر مختلف الولايات إلى مفرغات في الهواء الطلق، هو مسؤولية السلطات بدءا بالبلديات وانتهاء بوزارة تهيئة الإقليم والبيئة. وتتساءل المتحدثة في هذا السياق عن سبب إدارة السلطات المعنية ظهرها لهذا الواقع البيئي المؤسف قائلة: ''هل هذه اللامبالاة تحطيم لقطاع السياحة''؟ وفي نفس الاتجاه تقريبا، يذهب المرشد السياحي ''نور الدين بوعناني'' ليؤكد أن هذه المشكلة التي استفحلت لتأتي على المدن والقرى والمواقع السياحية عامة، مؤشر على غياب الوعي لدى المواطن بالدرجة الأولى، والذي يؤثر باعتدائه على البيئة على مسعى ترقية السياحة. ويبرز المرشد السياحي أن هذه الظاهرة المشوهة للبيئة والمؤثرة على الواقع السياحي، تتنافى تماما وتعاليم الدين الإسلامي الذي يقوم على قاعدة ''النظافة من الإيمان والوسخ من الشيطان''. ويستكمل السيد بوعناني حديثه داعيا إلى تكثيف الحملات التحسيسية في الوسط التربوي والجامعي، أملا في تكوين أجيال واعية بالسلوكات التي تضر البيئة. وتعليقا على الموضوع يقول السيد ''نور الدين نافع''، مدير السياحة والصناعة والتقليدية لولاية عنابة، أن مشكلة عدم نظافة المواقع السياحية تعود إلى لامبالاة المواطن الذي يلقي بمخلفاته في أماكن السياحة بعد الأكل والشرب، موضحا أنه رغم المجهودات التي تبذلها البلديات للتنظيف، إلا أنها سرعان ما تذهب هباء منثورا، لتغزو النفايات المواقع مجددا في غياب الثقافة السياحة لدى المواطن، كونه لا يملك حاليا الوعي الكافي للمساهمة في عملية الحفاظ على نظافة المحيط، والذي ترتكز السياحة عليه. وتساهم في الموضوع الصحفية '' نعيمة ترخاش'' من وكالة الأنباء الجزائرية، والتي كانت ضمن الوفد الصحفي الذي زار الشرق الجزائري، حيث ترى أن الجزائر بمختلف ولاياتها تزخر بإمكانيات سياحية هائلة يمكن أن تضاهي الدول المجاورة التي حققت تقدما ملحوظا في هذا المجال بمؤهلات سياحية أقل من تلك التي تتوفر عليها الجزائر، إلا أن نقص المرافق السياحية، لاسيما الهياكل الفندقية في سوق أهراس على سبيل المثال، وكذلك تدني مستوى الخدمات ناهيك عن التدهور البيئي، قد حال دون تحقيق هذا المستوى نطمح إليه لجعل القطاع السياحي مجالا للاستثمار وتحقيق التنمية المستدامة من خلال استقطاب السياح المحليين والأجانب. وتابعت الصحفية لتطلق نداء موجها إلى كافة السلطات المحلية التي تعاني مناطقها من التدهور البيئي إلى أخذ هذه الإشكالية البيئية بعين الاعتبار، ذلك أنها أضحت العلامة المميزة للعديد من المواقع السياحية الهامة في الجزائر. يبدو عموما وكما تدل عليه الآراء التي جمعتها ''المساء''، أن السواد الأعظم من المواطنين مازالوا بعيدين بسلوكاتهم المعادية للبيئة عن تجسيد مفهوم السياحة البيئة، في الوقت الذي يستهوينا جميعا الاستمتاع بجمال المناظر الطبيعية والمواقع الأثرية والهروب إلى أحضانها بعيدا عن ملوثات العصر وضوضائه وضغوطاته الكثيرة، وهو ما لا يتحقق -طبعا- إلا بالحفاظ على البيئة. فإشكالية التدهور البيئي وتأثيراته على قطاع السياحة، هي قضية الجميع التي يتوقف حلها على الالتزام بالنظافة مرآة التحضر، وحبذا لو جعلناها على الدوام مرآة عن رقي سلوكياتنا، فكما نهتم بشكل بيوتنا الداخلي، لا بد أن نهتم أيضا بالمحيط الخارجي الذي نعيش فيه، خصوصا وأن نظافة مواقعنا وأقطابنا السياحية هي قبلة الاستثمار والتنمية المستدامة.