طيلة عدة عشريات، وقبل دخول خدمة المنبه في الهاتف النقال، اعتاد الناس الاستيقاظ على أصوات منبهات ميكانيكية في أغلبها مزعجة. لكنّها في النهاية، تسدي خدمة الإعلان عن صباح جديد، وفيما أصبحت تلك الأصوات مفتقدة اليوم في العديد من البيوت الجزائرية، يصر البعض الآخر على عيش لحظات من زمن ولى على وقع رنينها.. لتظل المنافسة قائمة بين الميكانيكي والالكتروني إلى حين! يتقدم الزمن بسرعة، فارضا الحداثة الّتي أدت إلى استحداث مهن وتراجع أخرى، طالما أنّ الناس تميل للعيش حسب ظروف العصر.. مهن كثيرة أصبحت كالعملة النادرة، يتطلب العثور على أصحابها الكثير من التجوال والسؤال، حيث مازالت تقاوم تطور الزمن استجابة لمتطلبات شريحة من الناس يستهويها العيش على طريقة الماضي. فأسواق العاصمة مثلها مثل أسواق الدول الأخرى، توسعت وتنوعت بالمحلات التجارية المتخصصة، منها محلات أجهزة التكنولوجيا الحديثة، كالكمبيوتر والهواتف النقالة، وغيرها من متطلبات العصر. ويأتي المنبه الميكانيكي في مقدمة الوسائل التي استبدلها العديد من الناس، لاسيما الشباب، بالمنبه الالكتروني الّذي يحتويه الهاتف النقال منذ الألفية الثالثة.. وفيما يسود الاعتقاد بأنّ معظم البيوت تكاد تخلو من المنبه الميكانيكي في أيامنا هذه، يؤكد صاحب محل قديم فتح أبوابه بشارع باب عزون منذ الاستقلال، أنّ الإقبال على شراء المنبه الميكانيكي، بعد أن ظهر الهاتف النقال وانتشر بين مختلف شرائح المجتمع، كاد يصبح شبه معدوم في السنوات الماضية، مرجعا ذلك إلى تفضيل المواطنين، لاسيما الشباب منهم، منبه جهازهم النقال على المنبه الميكانيكي. لكنّ سرعان ما عاد رنين صوته الصباحي إلى بيوت تخلت عنه، في ظل انتشار الوعي بالمخاطر الصحية التي قد تسببها الأشعة المنبعثة من الهاتف النقال، وفقا لما تشير إليه بعض الدراسات الحديثة، التي تحث على تجنب تقريبه من الرأس عند النوم. لذا فإنّ المسنين ليسوا الفئة الوحيدة التي تتردد على محله لشراء المنبهات الميكانيكية، بل هذه الأخيرة ما زالت مطلوبة حتى من طرف بعض شباب اليوم الذي يتجنب بحكم وعيه المنبه الالكتروني، يضيف محدثنا البائع. وعن قلة عدد محلات الساعاتيين، يكشف: ''إنّ غلاء قطع الغيار أثر على هذا النشاط الّذي لم يعد مدرا للأرباح، كما كان الحال عليه في عقود خلت''.. ويروي ل ''المساء'': ''منذ مدة، جاءني زبون وحكى لي أّنّه اشترى منبها ميكانيكيا بسعر 400 دج، وعندما تعطل، طلب منه أحد الساعاتيين نفس المبلغ لتغيير إحدى قطعه! فما كان منه إلاّ أن قرر التخلي عن منبهه. وهذا هو الحال الآن مع معظم الناس، إذ يفضلون شراء الجديد بدل تصليح القديم''. ويتواصل الحديث ليكشف صاحبه أنّ غلاء قطع الغيار يهدد بتراجع حرفة تصليح الساعات، كونها لم تعد تضمن لقمة العيش، لاسيما وأنّ السوق غارقة بالمنبهات الرخيصة رديئة النوعية والمغشوشة، والتي لا يمكن إصلاحها، فهي في النهاية تسدي خدمة للمواطن البسيط الذي يجد مبلغ 50 دج معقولا، يغنيه عن دفع تكاليف التصليح الباهظة. هذا الواقع ألقى بظلاله على مستقبل المهنة، فالعديد من ممتهنيها، سواء كانوا من باعة الساعات أو من مصليحها، غيروا نشاطهم بالتوجه نحو النشاطات التي تستقطب الزبائن، على غرار تجارة الملابس والأكل. والمفروض هو أن لا يتخلى أصحاب هذه المهنة عن مهنتهم حتى لا تنقرض، لكن هيهات أن يحصل ذلك في غياب المراقبة. صاحب المحل العتيق بباب عزون ما زال متمسكا بتجارته، رغم أنّه قد لا يبيع سوى منبه واحد في اليوم، فهو يرفض ببساطة أن يحذو حذو الكثيرين، عسى يصارع متجره العتيق ، الذي بدأ العمل فيه منذ الستينيات في القرن الماضي، البقاء في زمن التدفق التكنولوجي. ولأنّ مصلحي الساعات هم أقدر النّاس على ضبط عقارب الساعة لتدور حسب التوقيت الصحيح، قادنا الموضوع إلى محل الساعاتي ''سليماني'' الكائن بشارع حسيبة بن بوعلي، يقول الساعاتي سليماني: ''إنّها مهنة قديمة توارثها معظم العاملين فيها عن آبائهم، دون الاستفادة من تكوين، لأنّها تعتمد أساسا على الموهبة''. ويضيف أنّ المحل الذي يعمل به اليوم فتح أبوابه منذ سنة ,1940 مبرزا أنّ ما حصل خلال السنوات الماضية من ثورة تكنولوجية لم يُغيب عادة استخدام المنبه الميكانيكي تماما، شأنه في ذلك شأن ساعة اليد التي مازالت تعرف إقبالا ملحوظا، فإمكانية وضعها في اليد يجعلها أكثر عملية من الهاتف النقال. مازال للمنبه الميكانيكي مكانه في العديد من البيوت، والفارق بين وقت مضى، والآن هو تقلص عدد المنبهات الميكانيكية في السوق، حيث تبقى الساعات الحائطية الأكثر استعمالا، حسب محدثنا الّذي يقر بأنّ معظم زبائنه من كبار السن، الّذين يفضلون الاطلاع على المواقيت على طريقة أيام زمان، فإذا كانت الساعات الحائطية تعد في نفس الوقت قطعا من قطع الديكور المنزلي، فإنّ المنبه يعد بمثابة تحفة ثمينة بالنسبة للعديد من المسنين، ممن يحرصون على تصليحه، حفاظا على وسيلة من وسائل زمن جميل. لكنّ قلة عدد الزبائن الّذين يقدمون على تصليح المنبهات الميكانيكية لا يعود بالدرجة الأولى إلى ظهور الهاتف النقال، إنّما إلى عدم وفرة قطع الغيار الخاصة بها في السوق. ليس المنبه الميكانيكي وحده مهددا بالاختفاء، إنّما حتى مهنة الساعاتي المتوارثة عرضة للزوال مستقبلا، ويرجع ذلك إلى عدم حرص أصحابها على توريثها إلى أبنائهم، وإلى غياب التكوين في هذا المجال، لاسيما وأنّ شباب اليوم لا يهتم بامتهانها، كون الأمر يتعلق بمهنة تشترط الدقة والصبر الكثير. يختم الساعاتي حديثه، تاركا وراءه سؤالا؛ الزمن وحده كفيل بالإجابة عنه: هل يأتي يوم تختفي فيه أصوات المنبهات الميكانيكية لفائدة المنبهات الالكترونية؟