منذ أيام، صادفت مشهد مواطن يضع ورقة نقدية بين شفتيه.. سلبت اللقطة انتباهي وقادتني إلى إجراء حوار مع نفسي: هل يعلم هذا الفرد أنّه عرضة لبعض الأمراض الفيروسية، وهل تساءل في نفس الوقت عن الخطر الذي قد ينقله إلى الغير في حالة إذا ما كان مصابا بمرض معد؟ لعله مثل الكثيرين، لا يلقي بالا لنتائج فعلته، وقد يكون في النهاية واحدا من المئات الذين يعبثون بالأوراق النقدية.. والنتيجة ملموسة في الواقع عملة مهترئة، متسخة ومخربشة تشوه سمعة البلد. ما زال سوء استخدام الأوراق النقدية في مجتمعنا ظاهرة عادية تسري بين مختلف الشرائح الاجتماعية، دونما أية التفاتة، حيث يسمح البعض لأنفسهم بالكتابة عليها، وكأنها أوراق عادية، بالإضافة إلى ما تتعرض له من عدم الحرص على نظافة اليدين قبل استعمالها، وعدم العناية من طي وتلطيخ بمواد دسمة، وما إلى ذلك من أوجه الإساءة.. ''المساء'' استطلعت آراء بعض المختصين والمتعاملين مع الأوراق النقدية المحلية حول هذه الظاهرة. لا ريب أنّه لا يستطيع أن يُقدر حجم الانتشار الواسع لظاهرة سوء استخدام الأوراق النقدية، إلاّ من يتعامل معها يوميا، كموظفي المؤسسات المالية.. لهذا كانت بداية الحديث مع صرّاف بالبريد المركزي (بالعاصمة)، قال: ''تصادفنا نماذج كثيرة من أشكال الإساءة تطال عملتنا المحلية. وأنا شخصيا، اقترنت سنوات عملي بالمعاناة من الرائحة الكريهة التي تتصاعد من الأوراق النقدية المشوهة بمواد مختلفة، منها الحبر الذي يستخدمه البعض للكتابة على الورقة المالية." وأضاف أنّه دفع ثمن قلة وعي المواطنين بمرض الحساسية، جراء احتكاكه اليومي بالأوراق النقدية، وما تحتوي عليه من مخلفات العرق، الوسخ والكتابات، لاسيما في غياب أدنى وسائل الحماية من خطر الاحتكاك اليومي بها كالمعقمات. وبالنسبة لمحدثنا الصراف، فإنّ السبب الرئيسي للظاهرة هو عدم الوعي، الذي يغيّب فن التعامل مع العملات، طبقا لما هو جار في الدول المتقدمة، حيث يتم الاحتفاظ بها في حافظات لتفادي طيها، وضمان بقائها في أفضل حال، إذ ليس من المعقول أن تجد شخصاً على قدر عالٍ من الثقافة والاتزان، يتعامل مع العملة المحلية بغير مسؤولية. وأبدا أسفه لتفشي ظاهرة تشويه الأوراق النقدية المحلية إلى حد جعلها تبدو جزءا من الواقع اليومي، معتقدا أنّ عدم وجود إجراءات قانونية تمنع تسلم أوراق نقدية غير نظيفة أو عليها كتابات أو رسومات، هو سبب تمادي بعض الناس في سوء استخدامها. عادات سيئة سألنا بعض المواطنين لمعرفة آرائهم بهذا الخصوص، فقالت الآنسة ''فهيمة. ن'' (خريجة كلية الإعلام والاتصال)، إنّها تتحسر كثيرا على حال عملتنا، وترفض تسلم أوراق مشوهة أو متهرئة من الباعة. مبرزة أنّ بعض العادات ساهمت إلى حد كبير في تفشي ظاهرة سوء استخدام العملة المحلية، منها عادة ''التاوسة'' التي يعمد بموجبها المدعوون إلى إعطاء مبالغ مالية لصاحب الوليمة خفية عن أعين الناس، ما يدفعهم إلى حشرها في اليد وتسليمها مباشرة للمعني. وهو نفس السلوك الّذي يتبعه العديد من المواطنين عندما يقدمون صدقة لبعض المتسولين، ابتغاء ستر أعمال الخير وجعلها خالصة لله. في الوقت الّذي اعتاد فيه بعض كبار السن على الاحتفاظ بأوراقهم المالية، عن طريق طيها ولفها بمناديل. وتابعت قائلة؛ إنّها تتأسف كثيرا عندما تشاهد مدى المسؤولية التي يتعامل بها بعض أقربائها المغتربين مع العملات، حيث يحتفظون بها في الحافظات الخاصة بها حتى لا تتعرض للثني الّذي يتسبب مع مرور الوقت في اهترائها وتمزقها. وتبعا لوجهة نظرها، فإنّ المسألة بحاجة إلى خلق وعي في وسط المتعاملين مع الأوراق النقدية عبر مختلف وسائل الإعلام والاتصال بقيمة العملة، وتنبيههم إلى ضرورة الحفاظ عليها. وشاطرها الرأي ''سفيان. ل'' (مصور)، الذي رأى أنّ الظاهرة تتأرجح بين انعدام ثقافة التعامل مع الأوراق النقدية، وعدم جودة هذه الأخيرة. أما السيد ''عمر. ل'' (موظف)، فاعتبر أنّ الحالة السيئة التي وصلت إليها أوراقنا النقدية لا ترتبط بأشكال الإساءة، بقدر ما لها صلة بغياب سياسة تجديد الأوراق النقدية، إذ وصلت بعد مضي ثلاثة عقود من إصدارها، إلى وضع حوّلها إلى موضوع أسال حبر العديد من الأقلام الصحفية وتصدر صفحاتها الأولى. إحباط يولّد لامبالاة! ومن جانبها، أشارت الأخصائية الاجتماعية ''زهرة عمراني'' إلى أنّ هذه الظاهرة تدخل في خانات السلوكات غير المسؤولة الشائعة وسط العديد من الجزائريين، لافتة إلى أنّ طريقة التعامل مع العملة النقدية مؤشر على مدى تقدم المجتمعات بالدرجة الأولى. وفسرت أنّ عدم الحفاظ على العملة المحلية، تحصيل حاصل لاحتقار الدينار الجزائري وسط بعض المواطنين، بعد أن تراجعت قيمته كثيرا، حيث أنّ قيمة العملة المنهارة خلقت لدى بعض المتعاملين معها حالة من الإحباط واللامبالاة، تدفعهم إلى عدم إيلاء أهمية لمبدأ الحفاظ عليها. دعوة إلى استحداث إجراءات قانونية وتركزت وجهة نظر بعض المحامين ممن اِلتقت بهم ''المساء'' في محكمة عبان رمضان، حول استنكار مختلف مظاهر سوء استخدام العملة، بدءا بعدم الحرص على نظافتها، مرورا بالكتابة والرسم عليها، ووصولا إلى تمزيقها وتعريضها لمختلف أشكال التلف. ودعا أهل القانون إلى استحداث إجراءات قانونية تضع حدا للعبث والتشويه الذي تتعرض له أوراقنا النقدية، من منطلق أنّ النصوص القانونية الموجودة حاليا لم تتطرق إلى هذه الظاهرة، حيث تقتصر العقوبات على التزوير والتمزيق، مشددين على أنّ إنهاء ظاهرة سوء استخدام الأوراق النقدية متوقف على إصدار تشريع يقضي بمنع صلاحية أية أوراق نقدية تعرضت لأي شكل من أشكال الإساءة. وبرأي المحامية ''?اسم''، فإنّ سن نص قانوني ينزل عقوبات على أي شخص يسيء إلى العملة، ويمنع التداول الرسمي مع أية عملات تم الكتابة عليها، سيدفع حتما بالجميع إلى تغيير سلوكهم عندما يدركون حجم الخطر الذي سيلحقهم جراء ذلك، والمتمثل في حرمانهم من الاستفادة منها. وذكرت الخبيرة الحقوقية ل''المساء'' بأنّ هذه الظاهرة غير المقبولة، تنم عن قلة الوعي في وسط المواطنين الذين يتسببون، بموجب ذلك، في تشويه سمعة البلد، بالإضافة إلى الخسائر التي تتكبدها الدولة، جراء اضطرارها لإعادة طبع الأوراق النقدية. كما دعت إلى تغيير نوعية الأوراق النقدية بما يكفل ضمان جودتها حتى لا تسهل عملية تشويهها واتلافها، كما هو الحال في بعض الدول. ومن جانبه، أضاف خبير حقوقي آخر بأنّه يعتبر الظاهرة بمثابة إهانة للسيادة الوطنية، لأنّ العملة النقدية ليست سوى تمثيل لهذه الأخيرة ووسيلة تميزنا عن بقية الدول، موضحا أنّها ليست قضية قلة وعي بقدر ما هي لامبالاة. وبالنسبة لمحامية أخرى تترجم طريقة التعامل مع الأوراق النقدية لمستوى التربية، ومدى الالتزام بشروط النظافة من عدمه، كما تعد في آن واحد إسقاطا لسلوك شائع وسط الجزائريين، ألا وهو التهرب من كل ماله علاقة بالنظام في الحياة، مشيرة -على سبيل المثال- إلى تفشي ظاهرة عزوف الكثيرين عن استخدام حزام الأمن في السيارات، رغم أنّه لا يكلفهم شيئا، كما أنه ضمان لحياتهم حال وقوع الحوادث!؟.