يميل العديد من آباء اليوم إلى تفضيل التواصل مع الأبناء باللغة الفرنسية، بدلا من العربية أو اللهجات المحلية داخل البيت منذ الشهور الأولى من الولادة، حيث امتدت هذه الظاهرة، كما تدل عليه المعاينة الميدانية، إلى شرائح اجتماعية عدة، بعدما كانت محصورة في فئة معينة في المجتمع، خلال عقود خلت.. وهنا يكمن مربط الفرس الّذي يدعو للتدقيق في أسباب هذه ''العدوى'' التي ترشح الأجيال الصاعدة لتلقي التكوين بلغة أجنبية على حساب اللغة الأم. وإضافة إلى التواصل باللغة الأجنبية مع الأبناء، تحرص العديد من الأسر الجزائرية، أيضا، على إلحاق أبنائها بمدارس اللغات الخاصة لتعلم اللغات الأجنبية، رغم ما يترتب عن ذلك من نفقات كثيرة، والسبب، بحسب بعض الآباء الذين استطلعت ''المساء'' آراءهم، هو الرغبة في أن يتعلم أولادهم أكثر من لغة في زمن العولمة، لفتح أفق أرحب لاغتنام الفرص المهنية وتحقيق النجاح. وحرصا على المزايا المستقبلية، يذهب السيد ''يوسف.م''، تقني في الإعلام الآلي، في نفس الاتجاه، ليؤكد أنه يخطط منذ الآن ليعلم طفلته، حديثة الولادة، الأمازيغية رغبة في العودة إلى الأصل، وذلك بالتوازي مع الفرنسية، أما العربية فيمكنها -في نظره- أن تنتظر إلى حين دخول طفلته إلى المدرسة. وفي الوقت الذي يشعر فيه الآباء بالراحة النفسية للتواصل مع أبنائهم باللغة الفرنسية، على أنّه إصلاح لما يعتبرونه خطأ في تكوينهم المدرسي، أثر على حياتهم المهنية بسبب سياسة التعريب المنتهجة منذ نهاية السبعينيات، تطفو علامة استفهام حول مصير اللغة العربية وسط الأجيال الصاعدة.. فاللغة أساس الفكر، ومرآة تترجم شخصية، هوية ومعارف الإنسان، ما يجعلها حاملة للخصوصية والتاريخ.. واللغة العربية هي إحدى هذه اللغات التي لطالما نقلت خبرات الأجداد، طرق عيشهم، مخلفاتهم الفكرية، الثقافية والفنية، فضلا عن كونها لغة مرتبطة بالدين الإسلامي، تتوقف ممارسة الشعائر المنصوص عليها في القرآن .. ومن الطبيعي أن يثور القلق بشأن مستقبلها. وفي هذا الصدد، ناقشت ''المساء'' الموضوع مع بعض المختصين ممن أجمعوا على أنّ تلقين الآباء أطفالهم اللغات الأجنبية، سيكون حتما على حساب اللغة العربية، إذا لم يحرصوا على فرض الموازنة. وبالموازاة مع ذلك، يحذر الخبراء من تحدث الأولياء مع أبنائهم بغير اللغة الأم منذ الشهور الأولى، لأنّه يعرضهم إلى مشاكل تعليمية فيما بعد، وكذا لأمراض نفسية، كعقد التباهي التي تنقل للغير ممن لا يتقنون اللغات الأجنبية الشعور بالدونية.
تناقض بين ما هو رسمي وما هو واقع لمعرفة رأي علماء الاجتماع في الظاهرة، كان لنا اتصال مع ''ب.ز'' أستاذة في علم الاجتماع العام التي قالت؛ إن هذه الظاهرة تشير إلى وجود تناقض بين ما هو رسمي وما هو سائد في الواقع. فهي منصوص عليها في الدستور بما يكفل استبعاد الخيار بين اللغة العربية ولغة أجنبية، لكنّها في آن واحد غير مفروضة. فاللغة العربية هي اللغة الوطنية الرسمية.. لكن في الواقع، نكاد ننسى هذه الحقيقة الجوهرية، إذ عادت الفرنسية لتغزو بيوت الجزائريين عن طريق الفضائيات في عصر العولمة. في الحقيقة، تعد اللغة الفرنسية مفروضة، بالنظر إلى كونها اللغة المتعامل بها في كل الإدارات، والمستعملة في البحث العلمي، حيث لا توجد كتب قيمة باللغة العربية في هذا المجال، إلى جانب شرط إتقانها للحصول على الوظيفة، سواء في شركة وطنية أو أجنبية. فالآباء حاليا -تضيف الأخصائية الاجتماعية- يطبقون ما هو سائد في واقعهم الذي يتميز بطغيان الجانب المادي، لذا يشجعون أبناءهم على التحدث بالفرنسية ويدعمونهم بالدروس الخصوصية، لاسيما وأنّ اللغة الفرسية صارت وسيلة للعيش، غير أنّه على صعيد آخر، لا يمكن أن ننكر أنّ التحدث باللغة الأجنبية يحمل بين طياته نوعا من العقد النفسية، تتأتى من الذهنية الباعثة على احتقار من لا يتحدث باللغة الأجنبية. والمفروض -حسب أستاذة علم الاجتماع- أن يتم الحرص على تعليم اللغة الأم للأبناء أولا، باعتبار أنّ ما يتعلمه الصغير في السنوات الأولى يرسخ في ذهنه، ولفتت الانتباه إلى أن الاهتمام باللغة العربية، هي مسألة قرار حكومي بالدرجة الأولى، إذ يتعين أن تطبق هذه الأخيرة ما هو وارد في الدستور، وتجعل العربية لغة العيش لتصبح مفروضة. وتختم بالقول :''عموما الضعيف يتبع القوي والدول العربية، بصفة عامة، ضعيفة تتبع الحضارة ولا تصنعها، والغير فرض علينا اللباس واللغة وأشياء أخرى''.
قلة وعي تربوي تقول أستاذة مختصة في علم النفس وعلوم التربية من جامعة الجزائر؛ للظاهرة عدة أبعاد، منها ما يرتبط بالجانب النفسي، حيث تعبر عن عقدة نقص عند الوالدين وعدم الوعي التربوي، مما يسهل التخلي عن اللغة الرسمية وتكوين الابن باللغة الأجنبية، للدلالة على أنهم يستخدمون لغة العلم والحضارة والتباهي، وفي ذلك خطر على اللغة الأم التي تواجه الإهمال. وتضيف؛ نلاحظ أنّ كل دول العالم لديها لغة يتقنها أفرادها على أحسن وجه، هي اللغة الأم، باعتبار أن اللغة مرتبطة أساسا بالفكر، إلاّ أن قلة الوعي التربوي وسط الأولياء في مجتمعنا، تعمل في الاتجاه المضاد، متسببة في تكوين دخيرة لغوية هجينة عند أطفالنا الذين يجدون أنفسهم مجبرين على البدء من الصفر لإعادة تكوين دخيرتهم اللغوية، إثر الالتحاق بالمدرسة. في الحين، أدركت الدول المتقدمة أنّ لغة العلم هي اللغة التي يجب استعمالها في التواصل مع الأطفال في المنزل، ما يبرر حرصها على تدريس المناهج العلمية والتقنية بلغة الأم، وليس باللغات الأجنبية التي تستعمل كأدوات اتصال مع الثقافات والحضارات الأخرى، لاسيما بعد أن تفطن خبراء أمريكيون إلى وجود خلل تعدد اللغات الذي يعد السبب المباشر في تعطيل خبرات الصغار. وتتابع حديثها: ''الآن تعقدت الأمور أكثر، فبالإضافة إلى الدارجة، يتحدث بعض الأولياء مع أبنائهم بالفرنسية، وهذا التعدد لا يتوقف عند حد إلغاء اللغة الأم، إنّما يتعداه نحو تكسير الإبداع، وإعاقة الطفل عن الإنتاج''. وتلفت المختصة النفسانية الانتباه إلى أنّ المسألة التي يجب أن نتوقف عندها في هذا الإطار، هي أنّ لغة العصر هي اللغة الإنجليزية التي يجب تعلمها منذ الطفولة، بالموازاة مع العربية الفصحى، حيث لابد من الإنسجام بين التفكير واللغة، ليكون الإنسان متزنا وذا هوية. ففي ظل التطور السريع في عالمنا الحالي الذي أصبح قرية صغيرة، بفضل ما وصلت إليه التكنولوجيا الحديثة في شتى المجالات، أصبحت الإنجليزية لغة التواصل بين البشر على اختلافهم، في الوقت الّذي لا نزال فيه متمسكين بالفرنسية. تؤكد الأستاذة، مضيفة أنّ الوصول إلى هذا المسعى هو مسؤولية الأسرة التي ينبغي أن تساهم في تدعيم تعلم الأبناء للغة العربية منذ نعومة أظافرهم. أما اللغة الإنجليزية، فهي مهمة المنظومة التربوية التي يجب أن تسهر على تكوين طلابها بما يكفل إتقانهم للغة التواصل بين كافة البشر.