ما إن يذكر اسم المجاهد محمد بزيان إلا ويتبادر إلى الذهن هروب مصطفى بن بولعيد الأسطوري من سجن الكدية بقسنطينة. فالرجل الذي مازال يحتفظ بحيوية الشباب، رغم سنوات عمره التي قاربت الثمانين، يجد متعة كبيرة في الحديث عن ذكريات الثورة ونضاله السياسي الذي بدأه مع أب الثورة الجزائرية، لكنه يستمتع أكثر وهو يستعيد أدق تفاصيل المغامرة التي شاء القدر أن يكون أحد أبطالها في ال 10 من نوفمبر 1955، وسنه لم يكن يتعدى آنذاك 22 سنة. وفي جلسة حميمة جمعته ب (وأج)، ذات صباح خريفي من شهر أكتوبر لهذه السنة، عاد المجاهد بزيان بذاكرته إلى بداية الثورة التحريرية وقال؛ «قصتي مع سجن الكدية تعود إلى أواخر ديسمبر من سنة 1954، عندما ألقي القبض عليّ بتهمة الإجرام والمساس بأمن الدولة الفرنسية، وحكم علي بالإعدام، حيث حولت إليه بعد 20 أوت 1955». فرغم تأخر فوجنا يضيف المتحدث عن اجتماع دشرة أولاد موسى، إلا أن بن بولعيد أرسل لنا السلاح، وقمنا عند الساعة الصفر من ليلة أول نوفمبر 1954 بقطع أسلاك الهاتف بتكوت، ومهاجمة مقر الدرك الفرنسي، ثم تفجير المكان المسمى «القصر». سجن الكدية لم يكن من الكرتون ولا حراسه كانوا من ورق بدأ المجاهد يروي تلك الحادثة التي زعزعت كيان المستعمر آنذاك، بالتأكيد ولمرات عديدة على أن سجن الكدية لم يكن من الكرتون ولا حراسه كانوا من الورق، وكأنه يريد الإشارة إلى أن الهروب الأسطوري منه كان معجزة، وما هو إلا واحد من اثنين عايشاه، ما زالا إلى حد الآن على قيد الحياة، ويتمثل الثاني في المجاهد الطاهر زبيري. لكن المتحدث لم يخف بعدها وهو يمرر باهتمام كبير أصابعه على شاربيه الأنيقين بأنه ظل قرابة الشهر غير مصدق بأنه وبعض رفاق زنزانة المحكوم عليهم بالإعدام في هذا السجن الحصين أصبحوا أحرارا. قال لنا بن بولعيد؛ سيذكرنا التاريخ مهما كانت النتيجة يشهد بزيان أن بن بولعيد كان حريصا على رفع معنويات رفاقه في الزنزانة، وذكر ل (وأج)؛ «قال لنا سي مصطفى في الاجتماع الذي تقرر فيه الهروب من سجن الكدية، بأن التاريخ سيذكرنا نجحنا أو أخفقنا، وحكم الإعدام الذي نشترك فيه جعلنا متساوون في المسؤولية أمام الله والثورة والوطن». وأضاف بزيان وهو يعود بذاكرته إلى الوراء ب 56 سنة؛ «يومها، طلب منا بن بولعيد تقديم اقتراحات حول كيفية المساهمة في الثورة من وراء القضبان أولا، ثم طرح بعدها فكرة الهروب، لتأتي الخطة من حجاج بشير وهو أحد المساجين السابقين بالكدية، وينحدر من الخروب». ورد حجاج على بن بولعيد؛ «السبيل الوحيد هو حفر نفق في الزنزانة يؤدي إلى الغرفة المجاورة التي هي عبارة عن مخزن لا يفتح إلا من حين لآخر، ويؤدي بابه الخشبي إلى فناء ينتهي بحائط يطل هو الآخر على حائط يطل على ممر للراجلين»، مضيفا بأن الاقتراح تمت الموافقة عليه بالإجماع. مزلاج وصابون وبركة إلهية هزمت المستحيل كان الأساس في تنفيذ خطتنا يومها، يستطرد المجاهد بزيان، طيلة ال 28 يوما من عمر المغامرة، مزلاج انتزعناه من نافذة الزنزانة وقطع صابون رطب نعجنها بالتراب، ثم نخفي بها آثار القطعة الحديدية التي كنا نتناوب على حفر الأرضية الإسمنتية بها، ثم نخفيها في مكنسة من الحلفاء، لأن كل محتويات الزنزانة تفتش أوتغيّر دوريا إلا هي. وكان عملنا محصورا، يضيف المتحدث، بين ال 11 صباحا والثانية زوالا، مقطوعا بلحظات توقف كل ربع ساعة موعد تفقد الحراس لنا، ثم بين الخامسة والنصف والسادسة ونصف مساء، وهي الفترة التي تشهد فترة تبادل المناوبة الليلية. لكن من حسن حظنا يتابع بزيان كان باب زنزانتنا مواجها للقبلة، وكذا باب فناء السجن، فعمدنا إلى وضع بطانية أمام الباب الذي كان يفصله عن الأرضية فراغ معتبر نوعا ما، ثم يستلقي أحدنا على بطنه فوقها لمتابعة كل التحركات بالخارج، وفي حالة قدوم أحد، يقف وكأنه يصلي، بحيث توكل المهمة كل مرة إلى أحد السجناء حتى لا تثار الشكوك. ويروي هذا المجاهد أن نزع قطعة من أرضية الزنزانة، وكانت مربعة الشكل بحوالي 50 سنتيمترا، استغرق 12 يوما ساعدنا في العملية التي شاركنا فيها جميعا دون استثناء، الخل الذي كان يشتريه بن بولعيد من مطعم السجن ونضعه على الإسمنت، فيجعل الأرضية هشة، في حين تصفى الأتربة من الحجارة وتوضع في المرحاض بعد سده بقطعة من بطانية قديمة، ثم يدرس بالرجلين مع قليل من الماء حتى يصبح سائلا، فتنزع قطعة البطانية وتفتح الحنفية ويذهب الخليط مع الماء. أما الحجارة، فتجمع في منديل يضيف بزيان- ثم توضع في زاوية من الزنزانة مخفية عن الأعين بمعطف أحد النزلاء المعلق دوما في مقبض باب الزنزانة بطريقة لا يراها الحارس إذا أطل من الفتحة الموجودة في وسط الباب، ونعمد إلى إرجاعها في مكانها في الحفرة قبيل أن يسمح لنا بالخروج إلى الفناء. وكان هذا المجاهد من حين لآخر يذكر (وأج) بالصعاب التي واجهتهم طيلة المغامرة، خاصة الظلام في الجهة الأخرى من الزنزانة، فكان علينا يقول بزيان افتعال العراك وإحداث جروح عمدية للحصول على قطع القطن التي نداوي بها ونحتفظ بها خلسة، لتتحول بعد وضعها مع شيء من الدسم في صحن حديدي سرقناه من المطبخ إلى فتيل يساعدنا على رؤية المكان. واستطعنا بفضل مجهود جماعي ذابت فيه الفردية، يواصل المتحدث، من حفر حوالي متر ونصف ما بين الزنزانة والغرفة المجاورة، لنجدها بعد انتهاء العملية، كما وصفها لنا حجاج بشير، وهنا وبأمر من بن بولعيد، قمنا بإفراغ فراشين من القش ووزعنا محتوياتهما على أفرشتنا بالزنزانة تحت الحراسة المشددة، في حين قطعنا قطعتي القماش بواسطة جزء من شفرة حلاقة التقطناه في غفلة من حلاق السجن إلى قطع طويلة، حولناها إلى حبال لنتسلق بها حائط السجن. كان باستطاعتنا قتل الحراس لكننا لسنا مجرمين ويكمل هذا المجاهد المعروف في أوساط رفقاء السلاح بالمنطقة بصدقه في نقل الأحداث: بعد أن أصبح الطريق جاهزا لتنفيذ الهروب، أوصانا بن بولعيد بعدم الالتقاء خارج أسوار السجن وعدم اللجوء إلى غابة جبل الوحش، لكن لم ينس في خضم تلك الأحداث أن يترك رسالة لإدارة السجن كتب عليها «كان بإمكاننا قتل الحراس، لكننا لسنا مجرمين، فقط نحن ضد الحكومة الفرنسية». وكان الموعد أمسية ال 10 نوفمبر 1955، انتظرنا بفارغ الصبر، يحكي بزيان، وما إن دقت الساعة الخامسة والنصف حتى بدأنا في تنفيذ خطتنا، يتقدمنا مصطفى بن بولعيد والمجاهد الراحل محمد العيفة، لتشمل قائمة الذين تمكنوا من الفرار يومها المتحدث والطاهر زبيري وطيبي إبراهيم وحفطاري علي وزايدي سليمان وعريف حسين وكرومة حمادي ومشري لخضر وبوشمال أحمد، ولم يتمكن 19 سجينا آخرين من الفرار، لأن حراس السجن اكتشفوا بعد انقضاء الساعة التي يتم فيها عادة تبادل الحراس بين فترة النهار والليل، أن الزنزانة فارغة. وقتها كنت أنا وزايدي سليمان ضمن المجموعة الأخيرة التي تخطت أسوار السجن، بعد انكشاف أمر الهروب، يضيف هذا المجاهد الذي أكد بفخر؛ أتذكر جيدا عندما أعطيت صفارة الإنذار، كان سجن الكدية وراءنا، فأطلقنا ساقينا للريح باتجاه منطقة القرارم بميلة. لكن هانت الصعاب التي واجهناها بعد ذلك عبر الأحراش والجبال التي قطعناها جريا، ثم مشيا على الأقدام، والليالي البيضاء التي قضيناها في العراء، يقول بزيان محمد، وعيناه مغرورقتان بالدموع، لكن كان عزاؤنا الوحيد وقتها أن الفرار من سجن الكدية العتيد كان مستحيلا، لكن سيسجل التاريخ أنه هزم بإرادة جزائرية.