احتفل العالم كله سنة 1945 بربيع النصر على النازية بعدما سالت أنهار من الدماء ومس الخراب والدمار العالم كله ونالت المجاعة والأمراض والأوبئة من شعوبها المستعمرة والمقهورة على أمرها، ومنها الشعب الجزائري الذي دفع إتاوات وضرائب، ومئات الآلاف من الجزائريين الذين جُرّوا إلى الحرب العالمية جرا وقُتلوا فيها من أجل أن تخرج فرنسا منتصرة على النازية. وما كان على فرنسا آنذاك سوى تكريس مأساة الجزائريين من خلال إعادة تشكيل سيناريو أكثر دموية وإجراما، حينما خرجوا بداية شهر ماي 1945 ليحتفلوا كباقي شعوب المعمورة بالانتصار على النازية وبمطالبة الحلفاء بالوفاء بعهدهم.. قابلتهم فرنسا بالرصاص، الذي تَسبب في مذبحة من أفظع المذابح الاستعمارية في العالم، لكنها في الوقت نفسه كانت بداية نهاية الحكم الاستعماري في الجزائر. كرونولوجيا هذا اليوم التاريخي بدأت أثناء أحداث الحرب العالمية الثانية، التي ساعدت على اكتمال نضج الحركة الوطنية الجزائرية، وظهر هنا كإجماع زعماء الجزائر على اتجاه معيَّن ومطالب موحدة... ومنذ الفاتح من ماي 1945 كان زعماء الحركة الوطنية يحضّرون للاحتفال بانتصار الحلفاء على النازية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عن طريق تنظيم مظاهرات سلمية تكون وسيلة ضغط على الفرنسيين؛ بإظهار قوة الحركة الوطنية ووعي الشعب الجزائري بمطالبه، وعمت المظاهرات كل القطر الجزائري. ... رأت فرنسا حجم التعبئة الشعبية خلال المظاهرات، واستمعت إلى هتافات الجزائريين وشعاراتهم المطالبة بالحرية والاستقلال، العلم الوطني والراية الجزائرية تخرج لأول مرة إلى العيان تزيد من مخاوف فرنسا، التي شعرت بخطورة الموقف وصمّمت على إظهار قوّتها تجاه الجزائر، معتقدة أن بإمكانها القضاء على الروح الوطنية الجزائرية، فأقدمت على ارتكاب مجزرة 8 ماي 1945 وسقط بوزيد سعال، وكان استشهاده بداية لمذبحة من أفضح المذابح الاستعمارية في العالم، اشترك فيها جميع الأوربيين بالجزائر ودامت عدة أيام، أسفرت عن مقتل أكثر من 45 ألف جزائري واعتقال 6460 شخص وحُكم بالإعدام على 99 منهم. ... وهكذا ردت فرنسا على مطالب الجزائريين بتقرير المصير والحرية والاستقلال والوفاء بوعدها الوارد في ملحق البيان التاريخي المصادق عليه من طرف الحاكم العام مارسيل بايروتون، والذي ينص بالحرف على إنشاء دولة جزائرية في نهاية الحرب والمشاركة المباشرة للممثلين المسلمين في حكومة الجزائر، فكان الجواب هو القتل الجماعي بنفس السلاح الذي كان يُستعمل ضد النازية.. استُعمل ضد شعب أعزل في الجزائر العاصمة، سعيدة، سطيف وفي ڤالمة وخراطة.. وغيرها من المدن الجزائرية. ظنت فرنسا أنها انتصرت على عزيمة الجزائريين كما انتصرت على النازيين، خاصة بعد قيامها بحل جمعية أحباب البيان يوم 14 ماي1945 وباقي تيارات الحركة الوطنية، وسُجن قادتها وفي مقدمتهم مناضلو حزب الشعب والشيخ البشير الإبراهيمي وفرحات عباس وأنصاره ومصالي الحاج... وغيرها من الأعمال الوحشية التي لم تقض على الحركة الوطنية، بل زادتها حماسا ونشاطا، كما جعلت الشعب الجزائري أكثر وعيا وإلحاحا بمطالبه في الحرية والاستقلال. ولم تكن فرنسا تعلم أنها تمهّد للحدها في الجزائر، التي ما كان للدماء التي سالت في ذلك اليوم أن تذهب هدرا؛ حيث كان لها انعكاسات سواء على الشعب أو على الحركة الوطنية؛ من خلال إعادة النظر في شكل التعامل مع الاستعمار من منطلق إيمان الشعب الجزائري بأن ما أُخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة، ليشرعوا في الإعداد للثورة، وبدايتها كانت بمقاطعة الأحزاب الوطنية ومن ورائها الشعب لانتخابات جويلية 1945، ومن بعدها اختفاء التيار الاندماجي وتلاحم الحركة الوطنية ومطالبتها بالاستقلال، خاصة بعد إطلاق المعتقلين السياسيين الذين قاموا بإعادة بناء الحركة الوطنية وتشكيل أحزابهم. تطور الأوضاع لم يتوقف عند هذا الحد بل راحت تتشكل مرحلة حاسمة في تاريخ الجزائر، كانت بمثابة المنعرج الأخير لتنطلق المرحلة التحريرية، وبدأت علامات النصر من خلال الشروع في النضال المسلح عن طريق إنشاء المنظمة السرية سنة 1947؛ باعتبارها أول منظمة عسكرية، والتي كانت النواة الأولى لميلاد جبهة التحرير الوطني والخطوة الأولى لإعداد الثورة. وقد أسندت المنظمة لمحمد بلوزداد، وقامت بمجموعة من العمليات الفدائية، كان أهمها عملية سويداني بوجمعة مع بعض المناضلين عام 1948، بالهجوم على مخزن المفرقعات، وعملية بريد وهران 1949 لتأمين الأموال اللازمة للعمليات وخلق جو من القلق في الإدارة الاستعمارية. وفي 1950 تمكنت السلطات الفرنسية من اكتشاف المنظمة وإلقاء القبض على بعض مناضليها وهرب البعض الآخر إلى الجبال، وأصدرت ضدهم في 1951 أحكاما بالسجن عامين إلى مدى الحياة مع الأشغال الشاقة ودفع غرامات مالية.. وفي 1954 لاحت تباشير الاستقلال في الفاتح من نوفمبر، الذي انبثق من ثورتها فجر الانتصار والتحرير ورفع رصيد التضحيات من 45 ألف شهيد إلى مليون ونصف المليون شهيد.. وهكذا كان النصر.