قال البروفيسور سليم نافتي رئيس مصلحة الأمراض الصدرية بمستشفى مصطفى الجامعي، إن واقع التدخين في الجزائر أصبح كارثيا. وقال في حوار له مع ”المساء” أجرته معه بمناسبة إحياء اليوم العالمي دون تدخين المصادف ل31 ماي من كل سنة، إنه لا بد من إعداد استراتيجية وطنية شاملة، يتم من خلالها التنسيق بين عدة مصالح وزارية للوصول إلى الحد من الانتشار الرهيب للتدخين، مذكرا بالأرقام التي يخلّفها الإدمان على التبغ، والتي تتحدث عن وفاة 15 ألف جزائري سنويا بسبب السجائر! تتحدث الأرقام عن تسجيل 3500 حالة سرطان رئة جديدة كل سنة، التدخين هو السبب الرئيس في 90% من هذه الحالات، فما هو تعليقكم؟ أوّلا لا بد أن أشير إلى أن التدخين ليس سببا في الإصابة بسرطان الرئة فحسب، بل هو وراء الإصابة بحوالي 25 مرضا آخر، ومنها الشلل الدماغي، أنواع مختلفة من السرطانات ومنها سرطان الفم والحنجرة، وهناك أمراض: القلب التاجية، تصلّب الشرايين، الذبحة الصدرية، الربو، أمراض القلب والأوعية الدموية، اعتلال شبكة العين، الأمراض الدماغية الوعائية، أمراض الجهاز التنفسي، التهاب القصبات المزمن، مرض الانسداد الرئوي المزمن أو السدة الرئوية، الشيخوخة المبكرة، الولادة المبكرة بالنسبة للنساء المدخّنات وحتى موت الجنين وغيرها، كل هذه الأمراض ترتبط بشكل مباشر بالتدخين؛ إذن يمكنني القول إن الحديث عن 3500 حالة سرطان الرئة سنويا يجانب الواقع! أعتقد أن الأصح أن يضاعَف هذا العدد مرتين لنصل إلى العدد الحقيقي لهذا النوع فقط من السرطان، ناهيك عن أن 7 آلاف من الضحايا يلقون حتفهم بالسكتة القلبية، و4 آلاف منهم بسرطان القصبة الهوائية، بينما يصاب 4 آلاف بسرطان الحنجرة والعجز التنفسي.. و.. والسبب دائما التدخين! والأرقام ستصبح أكثر رعبا بحلول 2015؛ بحيث سنسجل 300 ألف حالة سرطان الرئة سببها المباشر التبغ، وحوالي 100 ألف حالة سرطان بكافة أنواعه، وهذا سيشكل عبئا إضافيا على الدولة، التي بإمكانها تفادي كل ذلك فقط بتفعيل القوانين المصاغة، وهذا أمر ممكن جدا.. وللأسف ما زلنا اليوم نتحدث عن قوانين صيغت قبل سنوات ولم تجد حتى اليوم طريقا للتطبيق. التدخين بلاءٌ حقيقيٌّ
يبدو حقيقة أن الواقع مخيف بالنظر إلى كل هذه المعطيات! نعم، الواقع أكثر من مخيف؛ فأكبر نسبة من المدخّنين تدخّن يوميا ما معدّله علبة سجائر يوميا؛ تبدو لهم السيجارة وكأنها سحر، وقد تأصّلت فيهم ولا يمكنهم التحرر منها رغم أنهم يعلمون مساوئها؛ فالنيكوتين وأول أكسيد الكربون المكوّنان الأكثر ضررا في السيجارة المسؤولة عن تدهور صحة الجسم؛ النيكوتين يعمل في الواقع بمثابة الدواء المنبّه، ومسؤول بالتالي عن الهلوسة، أو ما يسمى الإدمان. أما أول أكسيد الكربون فإنه يتراكم في جدران الشرايين فتضيق، مما يُتعب القلب أثناء عملية التنفس. علينا أن نفهم أن التدخين بلاء حقيقي؛ فعندما يدخّن الشخص فإنَّه لا يؤذي نفسه فقط بل يؤذي المحيطين به أيضا، وهذا ما يُعرَف باسم التدخين السلبي، لأن المحيطين بالمدخّن يستنشقون الدخان بصورة غير مباشرة، ممّا قد يجعلهم يصابون بكثير من المشاكل التي تصيب المُدخن، الذي كلما أقلع باكرا عنه كانت الفوائد الصحية أكبر. اليوم بلغ انتشار التدخين على المستوى الوطني درجة مؤلمة للغاية، فهذه الآفة أصبحت تمس كل فئات المجتمع دون استثناء بما فيها تلاميذ الابتدائيات! فالمعطيات الإحصائية التي بحوزتنا تشير إلى أن 44 ٪ من مجموع الذكور فوق سن 15 يدخّنون، كما أن هناك مدخنة واحدة من كل 10 نساء، وهو ما يمثل نسبة 9 %، وإن دراسة لجمعيتنا أقيمت في 2007 في المؤسسات التربوية بولاية الجزائر، تشير إلى أن 4.5 % من تلاميذ الابتدائيات ما بين 6 و9 سنوات يدخّنون يوميا، و9 % من تلاميذ المتوسطات الأقل من 13 سنة. وترتفع النسبة في الثانويات بين الفئة العمرية 13 و18 سنة، لتصل إلى 16 % يدخنون تقريبا 10 سجائر في اليوم، 64 % من هؤلاء بنات. والأكثر من ذلك، أن 11% من عيّنة الدراسة قد دخّنت المخدرات، والأمرّ أن 24% من طلبة كلية الطب يدخّنون، وهذا ما نسميه نحن كابوسا حقيقيا، وإذا بقيت الأحوال على شاكلتها ستزداد الأمور سوءا.
وما الذي يعيق مسألة مكافحة التدخين، خاصة إذا علمنا أن الجزائر قد أمضت منذ سنوات على الاتفاقية الإطار للأمم المتحدة الخاصة بمكافحة التدخين في 2006؟ أنا أحتل منصب نائب رئيس هذه اللجنة التي لها صلاحيات محدودة جدا، فقد عهد إلينا إعداد مخطط حول مكافحة هذه الآفة وحددنا أهدافه، وقلنا فيه إنه لا بد من خفض نسبة التدخين ب 10% خلال 5 سنوات، إضافة إلى بنود أخرى كثيرة تساعد على فرملة الانتشار الرهيب لهذه الآفة، ولكن البرنامج بقي مجرد حبر على ورق، لم يطبَّق منه بند واحد حتى اليوم، وأنا نائب رئيس هذه اللجنة ومسؤول عن كلامي وأدين هذا بشدة. لماذا؟ تتساءلون وهنا أجيب بقولي إن فيه جماعات ضاغطة تسعى لخدمة مصالحها أكثر بتعميق وتأصيل آفة التدخين أكثر وسط المواطنين بمجتمعنا، فمثلا الإنتاج المحلي للتبغ لا يغطي الطلب، لذلك يتم الاستعانة بالاستيراد، مما يُدرّ على هؤلاء المستوردين أرباحا مادية طائلة لا يمكن تصوّرها. وهناك اليوم ظاهرة جديدة، وهي جلب أنواع التبغ من بلدان الخليج إلى جانب الترويج لدخان النرجيلة أو ”الشيشة”، التي تُعتبر خطرا مضاعفا، علاوة على ظاهرة التهريب، فمساحة الجزائر شاسعة وتحدّها سبعة بلدان، ما يجعل تضييق الخناق على المهربين صعبا جدا مهما بلغت الوسائل اللوجيستية درجة من التطور. صحيح أن مصالح الأمن تحجز كميات كبيرة من المواد المهرَّبة بما فيها التبغ، ولكنّ المهرّبين يطوّرون دوما أساليب التهريب!
وما العمل إذن في رأيكم، بما أنكم على اطلاع واسع بالآفة؛ سواء واقعيا أو صحيا؟ لا بد من وضع استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة التدخين، تماما مثلما وُضعت استراتيجيات وطنية لمكافحة السرطان والسكري والإيدز وغيرها من الأمراض والآفات الاجتماعية، على غرار المخدّرات؛ الواقع اليوم يفرض وضع استراتيجية واضحة المعالم تُبنى على إرادة سياسية محكمة للتصدي لهذا الغول الذي يفتك بصحة الجزائريين. ولا بد أن تشارك في إعدادها كل المصالح بما فيها الوزارات التالية: الصحة بتفعيل وحدات الطب الوقائي، وكذلك التجارة بتفعيل لجان مراقبه النوعية؛ فصناعة التبغ عالميا تخضع لمعايير دولية، والأمور في الجزائر تسودها الفوضى، كذلك مصالح المالية مطالَبة بالمشاركة من خلال رفع أسعار علبة السجائر الواحدة، هذه الأخيرة إن كانت اليوم في حدود 150 دينارا فإننا نطالب بمضاعفتها إلى حدود 300 و500 دينار على الأقل. مصالح الجمارك والأمن أيضا عليها بمضاعَفة مجهودها في حراسة الحدود وتضييق الخناق على المهربين ووضع حد لنشاط مروّجي بيع الدخان عشوائيا في الشوارع، وخاصة أمام المدارس والثانويات، ومصالح الضرائب أيضا مدعوّة هنا، فالواقع يشير إلى أن نسبة 75% من سعر كل علبة سجائر مباعة تحوَّل إلى الخزينة العمومية، كما تشير المعطيات إلى أنه مقابل دينار واحد يدخل هذه الخزينة عن تجارة التبغ تنفق الخزينة 3 دنانير لعلاج حالة مرضية واحدة بسبب السيجارة، علما أن العلاج يكلّف ملايين الدنانير.. وكل هذا تناقض! فالأصل يقول إن الوقاية خير من العلاج. لا بدّ من تفعيل مراكز الفطام
قلتم سابقا إنه كلما كان الإقلاع مبكرا كلما كانت نتائجه أحسن، فما الذي يعيق المدخّن عن الإقلاع؟ اليوم، نعلم نحن الأطباء أن التدخين حالة من حالات الإدمان ويجب معالجتها على هذا الأساس، فالمدخن يحاول اليوم أكثر من أي وقت مضى، الإقلاع عن التدخين بفضل الوعي، وعندما يقلع الشخص عن التدخين يحاول الجسم أن يتعافى ويرمّم بعض الأضرار التي حصلت معه، فمثلا في غضون ثلاثة أشهر من الإقلاع عن التدخين تتحسن وظيفة الرئة بنسبة 30٪، وبعد سنة يقل خطر الإصابة بأمراض القلب إلى النصف مقارنة بمستوى هذا الخطر قبل ترك التدخين، وبعد عشر سنوات من الإقلاع عنه تتراجع نسبة الموت بسرطان الرئة إلى النصف تقريبا، وتتراجع مخاطر الإصابة بالسرطانات الأخرى. والخلاصة أن الطريقة الأفضل للوقاية من كل المشاكل التي يسبّبها التدخين هي أن لا تبدأ التدخين أبدا، لذلك من المهم جدا ألاَّ يشجع البالغون الأطفال على التدخين، ومن المهم دعم مراكز الفطام؛ إذ خطَت وزارة الصحة قبل سنوات قليلة خطوة رائعة؛ بفتح 50 مركز فطام لمساعدة المدخّنين في الإقلاع عن هذه العادة، ولكنها غير مفعَّلة؛ والسبب أن دور الوقاية مغيَّب تماما، كما أن الأدوية المستعمَلة في علاج المدخّن للإقلاع عن التدخين باهظة الثمن ولا تعوَّض، لذلك لاحظنا أن معظم المدخّنين الذين أخبرناهم بأن عليهم شراء الأدوية الخاصة بالإقلاع عن التدخين، يتجاوزون أمر الإقلاع ويمضون في التدخين، وهذا غير مقبول! واقترحنا أن يتم التعامل بنفس السياسة المتعامَل بها في الدول الأوروبية؛ بحيث يتم تقديم الدواء مجانا للمريض خلال الشهر الأول من العلاج، ثم يقوم المعالج بشرائه؛ ذلك لأن الشهر الأول إن تم ”ربِح” المريض في جلسات العلاج، فإنه لن يتراجع؛ لأن نسب النجاح كبيرة جدا حتى يقلع نهائيا عن هذه الآفة. والأكثر من هذا، هناك دواء مهم جدا في جلسات العلاج بمركز الفطام، وهو دواء ”الفاريمكلين” تنتجه مخابر ”شامبيكس” الفرنسية، قد تم حظر استيراده بحجة أنه يندرج ضمن قائمة الأدوية الخاضعة للمراقبة في فرنسا للكشف عن مضاعفات محتمَلة، ومباشرة تم حذفه من السوق المحلية وبقينا نتساءل عن السبب رغم أنه يباع دائما في البلد المصدّر ويُستعمل في جلسات العلاج! وقد راسلتُ شخصيا وزارة الصحة لإعادة النظر في هذا الأمر، خاصة أنه الدواء الوحيد المستعمَل حاليا في جلسات العلاج ونسبة النجاح أكيدة، إلا أنه ما من رد مقنع حتى اليوم! وأنا أؤكد كأخصائي وصاحب فكرة مراكز الفطام لمساعدة المدمنين على الإقلاع عن التدخين، أنني أعالج بهذا الدواء منذ سنوات والنتائج إيجابية ولم تظهر جرّاءه أية أعراض صحية جانبية. وأدعو وزارة الصحة إلى إعادة النظر في هذا الملف بالذات لتسهيل الأمر على المدخّنين وعلينا كمتخصصين للإقلاع عن التدخين.