"الرسالة الفنية ودورها في المحافظة على البيئة" كانت موضوع المحاضرة التي نشّطها مؤخرا الأستاذ عيسى بودراع باحث في التراث الجزائري بقاعة سينما الأبيار. وبالمناسبة، وجّه دعوة إلى المبدعين في شتى المجالات للاهتمام ببيئتهم في مختلف أعمالهم؛ لأن الفرد وليد بيئته، ومن ثمة يقع على عاتقه الحفاظ عليها. في بداية مداخلته، قال عيسى المعروف بطارق نجيب منتج ومنشّط إذاعي بالقناة الثانية، إن اهتمامه الخاص كان منصبّا على التراث؛ بحكم أنه عضو في لجنة التراث الثقافي الأمازيغي التابع للديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة وعضو ممثل للتراث الناطق بالأمازيغية، وأن مهمته هي جمع التراث. وبالنسبة لموضوع الرسالة الفنية ودورها في المحافظة على البيئة قال: "إنه كان نتيجة اهتمامه بالأغنية التراثية الحاملة للأحداث الثورية، حيث اهتم بالولاية الثانية، وتحديدا بالأغاني التي أولت أهمية لبعض الأحداث التاريخية، على غرار مجازر الثامن ماي"، وهو اليوم بصدد إعداد كتاب في هذا الإطار. وأضاف قائلا: "فكرة الإبداع والبيئة جاءت وليدة إشرافي على تنشيط البرنامج الخاص بالبيئة، حيث تَبيّن لي أن هناك علاقة وطيدة بين الإبداع والبيئة؛ أي أن الإبداع يستلهم من البيئة، ومن ثمة قمت بالبحث في بعض الأغاني القديمة، إذ اتضح لي أن أصحابها تأثروا ببيئتهم وكتبوا أشعارا في الموضوع، ومن ثمة أعتقد أن أول شخص معني بالبيئة هو المبدع؛ لأنها مصدر لإلهامه". العلاقة بين المبدع والبيئة مبنية على الإحساس، الذي عرّفه عيسى بالقول: "إنه مأخوذ من الحس". وقال: "عندما ترى صورة تشعر بنواحي الجمال والإبداع؛ فأنت إنسان مرهف الحس، وبالتالي الشعور والإحساس كلمتان مترادفتان، مصدرهما الميول إلى الشيء أو حبه، وليس هناك إحساس أو شعور بالشيء إن لم يكن هناك حب". بعدها عرّج على تعريف البيئة، التي يعتقد أن عامة الناس لا يعرفون المقصود منها، حيث قال: "يُجمع المتخصصون على أن البيئة هي المحيط الذي يعيش فيه الكائن الحي ويتفاعل بما فيه من أحياء وجمادات وظواهر طبيعية، ومن هنا ينبع الإبداع". تُعد البيئة من العوامل المهمة التي تؤثر على الفنان بشكل أو بآخر وتعزز أحاسيسه وتشكل مصدرا ملهما للكثير من الأعمال الفنية، حسب الباحث عيسى، الذي قال: "حينما يتجه الفنان لإنجاز أي عمل فني يصب جل اهتمامه على التعرف على ما هو موجود في الطبيعة، ثم يتعرف على التقنية والأداء لكي يمارس عمله الفني، وهنا تمتزج العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ومن هنا نستخلص دورها في الفن بمؤشر مهم، على أن تتفاعل البيئات فيما بينها". أكد الباحث عيسى في مداخلته أن المنطق يقضي أن أول من خاطب الطبيعة وتلفّظ لها بشعر أو بلحن أو حتى بكلمات عادية هو الإنسان، كلٌّ حسب شعوره وحسه ورقي فكره أيضا. وقال: "كان شعراء ما قبل الإسلام أكثر اهتماما وولعا بتصوير الطبيعة واستلهام حسهم الفني منها، مثل امرئ القيس، الذي رغم أنه ظهر بمظاهر منافية للأخلاق إلا أنه يتعلق أحيانا بالطبيعة، إلى جانب الشاعر النابغة الذبياني وما يسمى بالوقوف على الأطلال " يا دار مية". كان من بين الأمثلة أيضا التي تحدّث عنها المحاضر عيسى وأظهر من خلالها درجة تعلق المبدع بالبيئة، ما جاء به نسيب الختيار في كتابه "الفن الغنائي عند العرب" سنة 1955، حيث قال: "لم يتغنّ العرب بجمال قطر من الأقطار كما تغنوا بجمال الأندلس، فقد أخذتهم طبيعة البلاد عن أنفسهم وشغلتهم عن ذاتهم، فنسوا مواقع صباهم في الشام، ودنيا الجزيرة، حيث تجلى أثر هذا الجمال في التراث الضخم الذي خلّفه شعراؤه سواء في قصائدهم أو في موشحاتهم، إذ عبّروا عن ذلك الجمال تعبيرا صادقا وصوّروه تصويرا حقيقيا؛ ذلك لأن إحساسهم بجمال الطبيعة لم يكن إحساسا فنيا تمليه الرؤى وإنما هو إحساس واقعي حي، بترجمة قصائد يتغنى بها الخلفاء والأمراء في القصور والبساتين والمنتزهات وعلى ضفاف الأنهار". وفي رده على سؤالنا حول مدى تأثر المبدعين الجزائريين في شتى الألوان الفنية بالبيئة قال الباحث عيسى: "من بينهم "بن قيطون"، الذي تمسّك بالتقاليد الفنية في قصيدة "حيزية". وبحكم أنه تعلّم العربية على يد شيوخ وشعراء الزوايا فقد أبدع في وصف البيئة الصحراوية بكل مظاهرها الجمالية". تحدّث الباحث عيسى عن بعض الفنون القديمة التي أولت أهمية بالبيئة فقال: "الفن البيئي هو أحد الفنون التي استلهمت الإرث الحضاري للبيئة في إعادة الصياغة الجمالية بقولبة فنية جمالية وبانفرادية تامة لهذا الفن؛ وذلك بتحويل المهمل إلى قيمة بصرية. وأي عمل بيئي هو نتاج ميل جمالي يرتبط بالفن بكل أشكاله، مما يعني أنه عمل فني بكل المقاييس". وأردف: "قد يتبادر للأذهان أن كلمة "بيئي" تعني بالدرجة الأولى مفاهيم أكاديمية مرتبطة بعلوم النفس والتربية والسلوك؛ لأن المتعارَف عليه من النواحي الفنية المرتبطة بالجمال والفكر كالرسم والنحت والفن التشكيلي وتفرعاته الحديثة، عدم وجود فن يطلَق عليه "بيئي"، إذن هل نستطيع ربط هذا الفن بالإبداع؟ يرى الباحث عيسى أن الفن البيئي استطاع، رغم حداثته، أن يفرض حضوره على الساحة الفنية بشدة وبشكل يومي، حتى بات يطلَق عليه أحياناً الفن الجماهيري رغم اعتراض البعض، وهذا الفن ضارب بجذوره منذ القدم في كهوف الإنسان الأول، وهو ليس حديثا، كما يرى الكثير من الفنانين، الذين استلهموا أعمالهم من مكوّنات البيئة، على غرار عادل ثروت في إبداعاته؛ "أنا لا ألوّث مياه نهر النيل" وغيره من الفنانين العالميين. ختم الباحث عيسى مداخلته بالقول: "إن كل مبدع مدعوّ للاهتمام أكثر فأكثر ببيئته؛ من خلال تحسيس مجتمعه بأهميتها في أعماله التي يوجّهها للجمهور؛ سواء في شكل رسومات أو نحوت أو أغان؛ لأن الطبيعة هي الأصل".