تحمل بداخلها صفات عديدة تميّزها عن غيرها، منها الإصرار والالتزام والغيرة على الوطن، كما تحمل مخاوف الغربة وتأثيرها على الأطفال، وهذه المخاوف هي سبب تطوّعها لتعليم النشء المهاجر اللغة العربية والأناشيد الحماسية الوطنية. «هاجر دقيشية» أستاذة الفيزياء والتكنولوجيا، تعلّم بالمدارس الخاصة بسويسرا، تدين لمهنة التعليم بالتزامها، وتعترف بأنّ الغربة لم تُبعدها. هي من النساء المبادرات بتأسيس جمعية ثقافية جزائرية سويسرية منذ 2006، قامت بإنشاء لعبة المنطق للأطفال والبالغين «كادي كيب». تعمل حاليا على مشروع حروف وكلمات لأطفال السنة الأولى والثانية ابتدائي. تتقن العربية الفصحى جيدا إلى جانب الفرنسية والإنجليزية والألمانية. أسّست فرقة كورال التي تضم حوالي 25 طفلا مهاجرا بسويسرا. منهمكة منذ شهور في تدريب الأطفال على الأناشيد الوطنية؛ تحضيراً لحفل سيقام بمناسبة ذكرى الاستقلال 5 جويلية. حالفَنا الحظ للاجتماع بها بالقنصلية الجزائرية بجنيف مؤخرا، حيث كان لنا معها هذا اللقاء. ..
المساء: من أستاذة الفيزياء والتكنولوجيا في المدارس الخاصة إلى معلمة اللغة والأناشيد لأطفال الجالية هنا بسويسرا، كيف جاءتك الفكرة؟ الأستاذة هاجر دقيشية: الفكرة نابعة من حبي وغيرتي على الجزائر، وحرصاً مني على أن يتعلّم هذا النشء لغته ويتقن أبجدياتها ويتوغل في بحرها ولا ينسلخ بضياعها عن بلده وأصالته، رأيتُ أنّه من الضروري جدا أن نعلّم أطفال المهجر اللغة وحب الوطن الذي يجب أن يُغرس في قلب الطفل منذ الصغر كما تُغرس البذرة الطيّبة في عمق الأرض. ومن الواجب أيضا تلقين الأطفال الأناشيد الوطنية الحماسية، وعلى رأسها نشيد قسما، الذي يحمل ذاك القسم المقدَّس، الذي أجزم الشعب به على أن يسترجع حريّته وكرامته، وبات هو النشيد الوطني الذي تقشعرّ له الأبدان كلما دوَّى في المحافل والمناسبات والساحات.
نرى أن القنصلية الجزائرية تحتضن الأطفال وتفتح أبوابها في يوم عطلة للأسر الجزائرية المقيمة هنا بجنيف، لتلتقي وتعلّم أبناءها، فمن اختار القنصلية مدرسةً ومكاناً للالتقاء؟ فكرة تعليم الأطفال بالقنصلية فكرتي، طرحتُها على القنصل ولم يمانع، بالعكس؛ رحّب بها كثيرا مادام الأمر فيه خير للجالية وللوطن، خاصة ونحن على مشارف الاحتفال بذكرى غالية على قلب كل جزائري وجزائرية، ذكرى الاستقلال المجيد التي يحضّر أبناؤنا لها حفلا سيقام هنا بالقنصلية أيضا. فتحُ أبواب القنصلية في أيام العطل مكّننا من الالتقاء والتعارف، وتعارف الأطفال الجزائريين واحتكاكهم فيما بينهم، وهذا أمر ضروري جدا..
أرى من خلال هذه الحصة التدريبية أنّ هناك من الأطفال من لم يتجاوز 4 سنوات لكن مخارج حروفه سليمة، ونطقُه سلس فصيح على عكس الأكبر سنا، الذين يجدون نوعا ما صعوبة في النطق، كأستاذة ومربية، ما الوسيلة لتخطّيهم هذه الصعوبة؟ بالفعل، الأطفال الصغار أفصح؛ لأنه كلّما كان سن الطفل أصغر كلّما كان الأمر أسهل لتعليمه. تعلمين أن اللغة العربية لغة صعبة، وتَعلُّمها ليس بالسهل، وإذا تهاون الآباء في تعليمها للأطفال مبكرا طغت اللغة الأجنبية قطعا وسيطرت على فكر ولسان الطفل المغترب، لكن مع هذا فالمهمة ليست مستحيلة، وتتطلب تدريبا مكثفا على النطق السليم. ولعل من المفاتيح السحرية لتعلُّم اللغة العربية للطفل المهاجر تحبيبها له من طرف الأولياء، والأهم غرس حب الوطن في أعماقه، وهو في يقيني الحب الأول الذي يجب أن يُغرس لكي لا ينسلخ الطفل عن جذوره ويبقى دائما متمسّكا بأصالته وانتمائه للجزائر مهما بعدت بينها وبينه المسافات والسنون. ولزرع هذا الحب الأبديّ في نفوس البراعم أنا اليوم كما ترين، أضفتُ لبرنامج الحفل قصيدة «بلادي أحبّك» لشاعر الثورة مفدي زكريا، وهي القصيدة التي صدح بها صوت المطربة وردة، التي اقترن اسمها باسم بلدها، ليضفي على تألّقها شموخاً وأنفةً.
مع هذه المبادرة هناك، قطعاً، مبادرات أخرى ومشاريع لصالح الجالية؟ أكيد، هناك مشروع خاص بنشر التراث الجزائري الغني هنا بسويسرا؛ عن طريق تأسيس جمعية تشيد بما تملكه الجزائر من تراث مادي ومعنوي لا ينتهي، وهناك مشاريع لصالح المرأة بغية إدماجها في عالم الجمعيات ليقوى الاحتكاك بين النساء المهاجرات وأسرهن، وطبعا يبقى المشروع الأهم والأكبر هو الحفاظ على هوية وانتماء هذا الجيل الصاعد؛ باعتباره حامل المشعل وأمل الجزائر؛ وهذا بغرس كل القيم الأصيلة في أعماقه؛ لأنني شخصيا أؤمن بالمثل القائل: «من شبّ على شيء شاب عليه»، وأنا أضيف مثلا آخر فأقول: من شبّ على حب الوطن مات عليه؛ إذ يظل الوطن أغلى ما يكسبه الإنسان مهما ابتعد، وصدق الشاعر إذ قال: بلادي وإن جارت عليَّ عزيزةٌ وأهلي وإن ضنُّوا عليَّ كرامُ....