ها هي خمسون سنة تمر، وهي بحجم ثمراتها وعثراتها، وما قدّم فيها وأخّر، خمسون سنة تمر، ونقول فيها؛ «إن دولتنا أرست معالم كبرى في التربية والتعليم، وعملت على إقامة المؤسسات التربوية، وسعت إلى محو تركة الاستعمار بالفعل والقوة وهي خطوات جبارة، فلا يمكن أن ننكر تلك الجهود التي تصرف على الوزارات المعنية، وقد ظلّت السياسة التربوية على مدى خمسين سنة تعمل على تجاوز الصعوبات والأزمات، وتقترح الحلول النوعية، رغم كثرة الإكراهات والمضايقات، ومع ذلك بنت بلدنا محطات مضيئة في مسار التربية والتعليم. 2- تدبير مرحلة التصحيح العميق: وهي مرحلة لا تقل عن عشر سنوات (10)، فبعدما تكون المدرسة شأن الجميع، يمكن للمدرسة الاستفادة من المؤسسات المحلية الموجودة في المجتمع، ويمكن لها جعل بعض المقررات المدرسية ومشاريع المدرسة مرتبطة ببيئة المجتمع المحلية وحاجاته، يتم فتح ملف المنظومة التربوية للمناقشة وإبداء الرأي والاستماع للمعنيين، وتنصيب لجان إعادة الاعتبار للمدرسة، وفيها تعالج جودة المدرس / جودة الكتاب/ جودة المخرجات/ جودة البرامج... إصلاح شامل للغات المدرسة من الداخل بمراجعة الآليات الداخلية وطرائق التلقين، والاتكال على تهيئة مدرس ناجح هو عماد مدرسة جزائرية ناقلة للعلوم، رافدها الأصالة والحداثة. كما يتم في هذه المرحلة التعرض إلى قضايا التقويم، والوقوف عند الهيئات التي تحتاج إلى محو نهائي والعمل بالقطيعة مع التصرفات غير المهنية، حيث تعطى القيمة العلمية للشهادة، ويُستعاد فيها المستوى العلمي في الداخل والخارج للطالب الجزائري، وتطمح إلى نيل الريادة، ونشير بأن في هذه المرحلة يقع التركيز على الترجمة من اللغات المتقدمة، لإغناء اللغة العربية والعمل على النهوض بها بشريا، اقتصاديا واجتماعيا، والعمل على أن تنال المازيغية مقامها الوطني كلغة وطنية، وفيها يتم تكثيف الخرجات العلمية لجمع تراثها والعمل على معيرته وتقعيده وإنتاج المصطلحات، كما يقع الفصل في هذه المرحلة على التراتب اللغوي الأجنبي بوضع شبكة للغات الدولية، حسب المتطلبات العلمية المعاصرة، وغض النظر عن لغة الاستعمار على أنها لغة غنيمة حرب لا يستهان بها، هذا كلام لا يجب أن يقال إلا إذا أثبتت هذه اللغة الجانب العلمي فيها، لأننا نخطط لأجيال لاحقة، دون التفكير في الخصوصيات أو في المناصب، فنريد التجرد من الأنانية، لأن المسألة اللغوية لها أبعاد مستقبلية، فيجب التخطيط الدقيق دون إكراه، ودون ماض، لكن لا نكون إقصائيين للغات الأقطاب، فالعلم اليوم تتقاسمه اللغات من حيث: التقنيات/ علوم البحار/ علم الترجمة/ الديداكتيك/ السياحة/ الأداب/ السياسة/ التراث العالمي/ الصناعة الثقيلة/ علوم البيئة... فكل اللغات نحتاجها في اختصاصها وفي المسألة التي لها السبق والعمق. ولا يعني هذا أن نجعل المدرسة الجزائرية سوقا للغات أو للترجمة، بل أن يكون التحكم أصلا للغة العربية، وألا نبقى عاجزين عن تدريس أو الترجمة من لغات الأقطاب المعاصرة، فلا نضطر إلى استقدام مترجم من تركيا إذا زار بلدنا وزير تركي. 3- تنظير مرحلة التخطيط على المدى البعيد: وهي مرحلة أخيرة يكون فيها التخطيط للجيل القادم، ومدتها لا تتجاوز خمسا وعشرين سنة (25)، وهي عمر الجيل، وفي هذه المدة يكون التلميذ قد خططت ملامحه الكبرى في لغته، منصبه ودوره في الحياة العملية، ووظيفته الاجتماعية. ولا مانع من المراجعة في بعض المسلمات عن طريق قبول التكييف، وهي سمة يجب أن تتجسد في أفكارنا ونظرياتنا، فالإنسان ليس نمطيا ثابتا، بل هناك مستجدات يجب أن تراعى، وما دام أن المرحلة لها نفس طويل، فإنه ليس من العيب استكناه بعض المعالم العصرية من النظريات التربوية الغربية أو الأسيوية، ويكون العمل بطريق التكييف بناء على ما تعرفه خصوصياتنا الدينية، الحضارية والتعدد اللغوي المجسد في واقعنا، وأمر استنساخ بعض النظريات ليس جريمة، بل هي من تلاقح الأفكار وتبادل المنافع بين الشعوب، فكذلك كانت اليابان تعمل في مبدأ الاهتمام بالتنمية البشرية وعن طريق استنساخ بعض الأفكار، سنت لنفسها منهجيات ونظريات أصبحت مثالا في التقدم الصناعي والتحكم في ميدان التربية، ونرى الياباني نموذجا في التوازن بين الأصالة والحداثة. 4- تأسيس لاعتماد نظرية لغوية: إن المعيارية هي النظرية الأقرب إلى واقعنا اللغوي وإلى لغتنا، وهي التي تبني في المتعلم قواعد التفكير الصحيح والمنهج السليم، ومن ركائزها: الأصل، الشمول، الإطلاق، الإيجاب، التكييف، وهي فكرة فلسفية أصيلة هدفها أن اللغة ما يجب أن يتكلمه الناس، وليست ما يتكلمه الناس بالفعل، فاللغة معايير تُراعى. والمعيارية ترتبط بالنحو والتراث، وهدفها استخلاص القوانين، صياغة الأنظمة وتصلح للغات التاريخية التي لم تنقطع عن تراثها، ومن محاسنها: ربط الأنماط المعاصرة بالقديمة، ارتباطها بالأصول، قبولها التكييف، صلاحها لكل اللغات، مرونتها مع الظروف والمستجدات، لها امتداد زماني. ولماذا اعتماد النظرية المعيارية؟ لأن هذه النظرية هي الأقرب إلى اللغات الطبيعية من حيث البحث في أصولها وفروعها، ثم إن هذه النظرية تبحث في الرصيد المعرفي وتستقي منه القواعد، وهذا يصلح للمازيغية، كما أن هذه النظرية تعتمد على الرصيد المعرفي للغة من اللغات، وهذا موجود في العربية التي لها امتداد يتجاوز 17 قرنا ويستدعي من المتعلم استيعاب الكثير من هذا الرصيد عن طريق الحفظ، مما يكون في المتعلم الرصيد اللغوي القديم الذي يجعله يتأقلم في مختلف المقامات والمناسبات، وهذه النظرية هي التي تكوّن التلقين الأصيل للغات في اعتمادها على الأصول قبل الفروع، ثم كيفية التوسع اللغوي بناء على المقبول منه لغة والمرفوض (المستعمل والمهمل) وكان لا بد من الخروج من هذه المشكلة، أن نجعل من الأصالة اللغوية العمود الفقري للارتكاز عليه لاحقا، ثم الانفتاح على العالم المتقدم دون الركوع للهيمنة اللغوية، حيث يتم العمل بالنفعية المعاصرة والمصلحة المتبادلة. وإن النظرية الخليلية الحديثة للأستاذ عبد الرحمن الحاج صالح يمكن أن تكون الركيزة الأساس في التطوير اللغوي من حيث اعتمادها على: 1- الوضع والاستعمال، 2- الباب، 3- المثال، 4- الأصل والفرع، 5- الانفصال والابتداء، 6- اللفظة والعامل. وإن هذه النظرية هي التي تعالج مبدأ اللغات من حيث المفاهيم الكبرى التي بنيت عليها من الأصل والفرع/ القياس/ المثال/ الوضع والاستعمال/ التمييز بين الوحدات اللغوية السليمة عن الوحدات اللغوية غير السليمة/ الوحدات التي يبدأ بها/ الوحدات التي لا يوقف عليها/ مستويات الكلام/ العوامل/ الأحكام... كما أن هذه النظرية أبانت عن رفع المستوى اللغوي للمتعلم من خلال التجارب التي أجريت على طلاب يدرسون العربية، الفرنسية والإنجليزية، وتحتاج إلى تطبيقها على المازيغية، ولا شك أنها سوف تبين عن نتائج ناجحة مثلما نجحت في تطبيقها على اللغات السابقة الذكر، ويضاف إلى ذلك أن النظرية لها متعلقات باللغة بما فيها خطها، حيث لابد من الحديث عن أمر الخط الذي توظفه لغات المدرسة الجزائرية، فالعربية لها خطها، والمازيغية لها خطها والفرنسية لها خطها، فالخط هو الرمز الحامل لتلك اللغة، ولا يصلح خط لغة للغة أخرى، والشيء الذي أريد تأكيده، هو الجانب الفني، لأن الطلاب عندنا لا تفهم خطوطهم، فالمدرسة رفعت يدها عن تعليم الخط. علما أن الخط هو اللسان بلا لسان، ونلاحظ سوء استخدام الخطوط، فلا تمييز بين الإطالة والاستقامة، ولا بين متشابه الحروف... خربشات لا تقرأ، كتابات تحتاج إلى صاحبها ليشفّرها، ولا يعني هذا أنني أدعو مدرستنا للاهتمام بتكوين أمثال: ابن مقلة، أو حامد الأمدي، أو ياقوت المستعصي، أو ابن البواب، أو سيد إبراهيم، أو محمد راسم.... بل أدعوها أن تعلم التلاميذ تحسين كتاباتهم وقراءتها قراءة صحيحة، ومراعاة الخصائص الشكلية للخط الذي يجسد اللغة، علما أنه منذ غيّب تدريس الخط، ضاع جمال كتابة اللغات. 5- اعتماد تراتب عمودي لساني وطني: بناء على التفريغ بين اللغة الرسمية، اللغة الوطنية واللغة الأجنبية، كان لابد من اقتراح تراتب لساني وطني وفق المعايير الدولية التي تنص على ضرورة إنزال اللغة الرسمية المكانة الأولى، ثم اللغة الوطنية في المقام الثاني، وأخيرا اللغات الأجنبية، ولماذا هذا التراتب؟ إنه من المؤسس أن نقول: بأن المدرسة هي العمود المضيء في المؤسسة، فإذا أظلم هذا العمود باتت المؤسسة في الظلام. والمؤسسة الاجتماعية في هذا النظام هي اللغة الجامعية، ثم اللغة الوطنية، فاللغات الأجنبية (بصيغة الجمع) خوف أن يقع الاحتكار في لاحق من الزمان، كما هو الآن احتكار/ هيمنة الفرنسية، ولهذا فاقتراحي يكون وفق التالي: العربية المازيغية اللغات الأجنبية الخاتمة: من وراء هذا المقال، أستهدف ضرورة مراجعة صيغة الإصلاحات (إصلاح الإصلاحات) لا التراجع عنها، ومن الضروري كذلك تدبير التفكير في الحمولة اللغوية الأصيلة التي يجب أن يحملها التلميذ من الدراسة الابتدائية، وهذه الحمولة اللغوية كان يجب أن تزداد نموا في المرحلة الإكمالية، وتكتمل في المرحلة الثانوية، فما أن يعتب الجامعة إلا ويجد العدة جاهزة للتواصل والكتابة والتحدث والانتقال اللغوي من لغة لأخرى دون عائق لغوي، ودون إدخال الكلمات الأجنبية في أماكن لا يستدعيها المقام. وبذلك يمكن أن يعود لنا صفاؤنا اللغوي ونصبح نملك استعمال اللغات استعمالا مقبولا إن لم أقل جيدا، وهذا هو الهدف من الإصلاح التربوي الذي هو تقديم علاج وتطوير النظام التربوي وفقا لآليات المعاصرة ولبنيات الاندماج والاتساق لتحقيق مردود أفضل من السابق. المقترحات: - وضع سلم تراتبي وطني لمقام اللغات: عربية، فمازيغية، ثم اللغات الأجنبية، - الاهتمام بالمازيغية ترقية وثقافة، وتدريسها ضمن أرومتها اللغوية: السامية الحامية، - إدراج مادة الترجمة من وإلى العربية في كل الاختصاصات، - تدرييس مادة المصطلحات بالعربية في الفروع العلمية، - إدخال تدريس مادة المعلوماتية بالعربية في المدرسة، - مراجعة المنظومة التربوية في برامجها، حسب ما يقتضيه الظرف المعاصر.