مقدمة: كان من الواجب عليّ كمثقف الإدلاء برأيي العلمي في المسألة اللغوية في الجزائر، لما لهذه المسألة من أهمية في واقعنا الحالي، وفي لاحق من الزمان من حيث الانسجام الاجتماعي والتكامل الوطني الهادئ. فالمسألة اللغوية مسألة أمن ثقافي وانسجام اجتماعي، وعلى كلّ مواطن جزائري ضمان أمنه اللغوي والثقافي وانسجامه الاجتماعي، والإدلاء برأيه في ما يجب أن يكون عليه الوضع اللغوي الآمن، وفي اقتراح السياسة اللغوية في التخطيط اللغوي المنشود. لم يكن هدفي من كتابة هذا الموضوع إثارة قضية عفا عليها الزمان، أو تثوير فتنة نائمة، بل أروم كشف المستور عن ممارسات لغوية وتربوية تقوم بها بعض المؤسّسات والتي يُفترض أنّها تخدم اللغة المازيغية، ويمكن أن أقول: إنّها تخدم اللغة المازيغية، فكيف تخدمها؟ ومن أيّة وجهة تخدمها؟ وما هي الطريقة العلمية التي تعمل بها؟ وما هي النظرية العلمية التي تحتوي المسألة اللغوية المازيغية؟ وما هي المنهجية التي تتعامل بها؟ وباعتباري معنياً بقضية المازيغية كأداة تواصل وطني، فالأحرى بها أن تكون في مستوى الحدث الوطني الذي يرجوه المجتمع الجزائري، ولا يجوز لأحد أن يقول: دعوا المازيغية للمختصين، أو دعوا المازيغيين للمازيغيين، فمن هؤلاء المختصّون؟ ومن هؤلاء المازيغيون؟ وهذا الكلام سمعته وأنا أجري دراستي في قسم المازيغية، كأنّنا المازيغية حكر على فئة مدرسي قسم المازيغية، أو هي حكر على الباحثين في المازيغية، ونعرف أنّ بعض أساتذة القسم لا علاقة لهم علمياً بالمازيغية؛ بمعنى إنّ دراساتهم الأكاديمية لم تكن في المازيغية، بل لم ينتجوا كتاباً واحداً متخصّصاً في المازيغية، وأذهب بعيداً لأقول: إنّ بعضهم ركب الموجة، ووجد نفسه في القسم وأصبح مدرّساً، وينادي الآن: دعوا المازيغية للمازيغيين. فهل هذا كلام؟ قد أُفاجئ القارئَ في بداية الموضوع، بأنّني أنقل صُوَراً واقعية عن ممارسات غير علمية في قضايا المازيغية، وهذا من خلال احتكاكي الدائم بقسم اللغة والثقافة المازيغية، هذا القسم الذي جعلته مجتمع الدراسة، وقد سجلتُ دروساً، وحضرت بعض المناقشات في الماجستير، كما حضرتُ بعض اللقاءات العلمية جمعتْ الطلبةَ والأساتذة في مناقشة مذكرات التخرّج، وحضرتُ بعض الاجتماعات واللقاءات الحميمية بين هيأة التدريس، أضف إلى ذلك بعض الاجتماعات الرسمية. ومن هنا فأنقل الواقع دون تصرّف، فنقلي ينمّ بعد ذلك عن دراسة تحليلية نقدية. ومن خلال هذا الواقع وصلت إلى خلاصة أولية مفادها: إنّ المازيغية ليست بخير في قسم اللغة والثقافة المازيغية، وتعاني خطورة كبيرة إن لم يعمل القائمون على إعادة النظر في إنزالها حيث يجب أن تُنزلَ. ويجب أن يكون المنطلق من أنّ المازيغية كان الأحرى أن تعالج بشكل علمي من المدرّسين ومن النّخبة ومن العلميين ورجال السياسة ومن يهمّهم الأمر، شرط أن يترفّع المعنيون عن التوجيه التعسّفي أو تنميطها تنميطاً لا يليق بمقامها، ولا يلين قناتها أو يكسّر إرادتها، ودون أن يشكّل ذلك عقدة للغة من اللغات المتعايشة في المجتمع الجزائري، أو يحدث صراعاً لغوياً مع اللغات المستعملة في واقعنا، أو يشكّل وجود لغة ما محو لغة أخرى، فنحن لا نعيش حرب اللغات، بل هناك تكامل اللغات، فلا توجد لغة أخذت مواطنة لغة أخرى، لكن توجد لغة مهينة في الواقع الاجتماعي بفعل ما عشناه من استعمار ثقافي طويل، فنالت كلّ شيء، وهنا العقدة اللغوية. أيّها القارئ أزعم أنّني أعمل على تقديم بديل لما يجب أن يحصل الإجماع على خدمة المازيغية باعتبارها لغة كلّ الجزائريين، ولا يحقّ لأحد الاستحواذ على التراث المشترك، فاللغة المازيغية تراثنا المشترك، والعهدة في هذا التراث يعود إلى استعمال لغة التراث المشترك؛ فمناطق نأتْ عن الاحتكاكات اللغوية بفعل التضاريس البيئية بقيت محافظة على لغتها القديمة، ومناطق داهمها التعرّب فلم تبق كذلك. وفي وقتنا الحالي بعدما أقرّت الدولة الجزائرية المازيغية لغة وطنية، وعملت على إقامة مدارس، ونصبت مؤسّسات على المستوى العالي، كما فتحت مراكز البحوث التي تقوم على ترقية المازيغية في التدريس، وأوجدت مؤسّسة إصدار الكتاب المدرسي المازيغي، وأهابت بفتح المشاريع الوطنية لمن يهمّه الأمر في شأن البحث الجامعي الطويل المدى، ويبقى فقط شدّ العزيمة بضرورة النزول إلى الميدان لإجراء البحوث العلمية والتحرّيات اللغوية في قضية المازيغية، وهنا لبّ المشكلة؛ لأنّ اللغات تستقى من الاستعمال بالفعل والقوّة، وهذا ما يوطّد ركن اللغة الطبيعية، وهل تستعمل هذه الطريقة في الوصول إلى مازيغية واقعية أو أريد لها التحديث بطريقة يراها البعض ممّن يوسمون بالنّخبة التي تريد إنشاء مجتمع وفق الطريقة الغربية. ولا ننكر جادة الصواب في إقامة المؤسّسات العاملة على ترقية المازيغية والتي هي ركن يؤدّي إلى التهيئة ووضع اللبنات الأولى من خلال الماضي والحاضر، دون أن تعمل على توجيهها لتنحاز إلى لغة من اللغتين: الفرنسية أو العربية؛ باعتبارها (المازيغية) لغة لها أصولها وخصائصها ولها عمقها الحضاري والتاريخي. ولقد عاشت هذه اللغة شفاهية منذ آلاف السنين ولم تندثر؛ وهذه دِلالة عميقة على أنّها لغة أصيلة تكتفي بنفسها، وليست لغةً صناعيةً قد يكتب لها الانقراض في لاحق من زمن العولمة المعاصرة، وهي لم تنقرض منذ القرون، وقد بقيت خطوطها في القراطيس رسماً، وأهلها في التراب وسماً منذ ما يزيد عن الثلاثين قرناً. فبات حرياً بالباحثين اللغويين المتخصّصين، وبالمؤسّسات المازيغية تهيئتها بالمازيغية وفي المازيغية (في ذاتها ولذاتها) وتحصينها بخصوصياتها النّحوية والدلالية والمعجمية والتركيبية؛ وهذا بغية وضعها في مساق وطني على أنّها لغة كلّ الجزائريين، ولغة تراثهم المعنوي والمادي والأدبي والثقافي. لا أخفي شيئاً على القارئ الجزائري أنّني حين أبحرتُ في جمع مادة الموضوع، ودخولي معترك القراءة والمشاهدة والملاحظة من خلال مجتمع الدراسة (قسم اللغة والثقافة المازيغية) في الكلية التي أشتغل فيها، بدأت تتكشّف لي العيوب والنقائص والهنات التي أخلّت بالمسألة اللغوية في وطننا، فرأيت العجب العُجاب ممّا لم يكن صواباً في القسم المذكور، ولقد هالني الأمر؛ فنقلتُ أسفي وعزايَ إلى محبّي اللغة المازيغية على أنّها تعاني الخطورة التي قد تؤدي بها إلى الإهمال والترك واللامبالاة. ومن هنا يأتي عملي هذا لتوضيح مواطن الخطر في مسألة اللغة المازيغية، من خلال تلك الممارسات التي أزعم أنّها لم تكن على صواب، وهذا بأدلّة يأتي توضيحها في هذا المقال. فوا أسفاه على ترك الأمور على عواهنها، وليس هناك من يهمّه الأمر، وقلت: أليس في العدد الكبير من أساتذة القسم رجل رشيد؟ ويقف بيَ الحال بأضعف ما أملك وهو استنكار أمر بعض الممارسات البشعة والتي عفا عليها الزمان. وبهذا المقال البسيط أروم منه أن يعمل على التغيير في حال (قسم اللغة والثقافة المازيغية) في جامعة مولود معمري، ولا شكّ أنّ أصداءه ستصل إلى مؤسّسات مثيلة، وسيكون التغيير في منهجية العمل، وفي طرح بدائل نوعية لمازيغية وطنية تكبر من خلال تقديمها كما هي دون تقزيم أو احتواء وإقصاء، وهذا في إطار التكامل اللغوي الذي عاشته منذ قرون في بلدها وما اشتكت من لغة أخرى أبداً؛ حيث تكاملت مع العربية بشكل تسامحي مقبول عند كلّ الجزائريين وبخاصة عند القبائل (الكبرى + الصغرى) فكم من علماء قبائل بجاية وتيزي وزو والبويرة كان لهم باع كبير في خدمة العربية وهم يحتكمون إلى المازيغية كلغة أمّ، وما شكّل لهم صعوبة في التواصل أو في التأليف، وهذا يعني تجسيدهم للتداخل العلمي التسامحي الذي يحدث بشكل طبيعي بين اللغات. تكامل مازيغي عربي لم يكن في يوم من الأيام يشكّل صراعاً، بل كان تصاهراً في المتون وفي المفهوم وفي كثير من الجبهات ويكفينا دليلاً على ذلك عدم ترجمة القرآن الكريم إلى المازيغية منذ الفتوحات الإسلامية إلى غاية الألفية الثالثة، وهذا يعني أنّ حال اللسان الكائن هو حال اللسان الذي يحمله الدين الإسلامي، وأنّ المازيغيين يفهمون القرآن بلغته العربية أكثر من فهمهم إياه ترجمةً إلى المازيغية، ويعني كذلك أنّ لغتهم لا يمكن لها أن تحتوي القرآن مهما علت وارتقت، ولذا تصاغرت المازيغية أمام لغة الجبّار وما تكابرت في عهود الدول المازيغية التي عدّت من دول العروبة؛ التي كانت تعني عند أجدادنا انتساب واختيار واع وعن دراية واقتناع؛ وهو اختيار حضاري اختاره البربر تلقائياً، وبه تحوّلوا من مرحلة التهميش إلى مرحلة السيادة الذاتية، ومن مرحلة الوجود بالقوّة إلى الوجود بالفعل. وإذا عدنا إلى استنطاق التاريخ نجد أنّ دوام حكم العرب في شمال إفريقيا كان بين 40 ه إلى 132 ه وحتى زمن العباسيين الذين كانوا يحكمون في الظاهر، ولكنّهم لا يتحكّمون في الدواوين التي كان يسيّرها غير العرب، ففي هذه الفترة لم تتبلور المسألة اللغوية، ونقرأ في هذا التاريخ أنّ ثلاث عشرة (13) دولة مازيغية حكمت المغرب الأقصى والأوسط والأدنى منذ الفتح الإسلامي، وما حدث أن شكّلت اللغة عندها قضية، أو شهدت تلك المماليك الحروب بسبب الخلاف اللغوي، بل إنّ المماليك البربرية عملت في خطابها الرسمي باللغة العربية، وأعلتْ من مقام العربية مكاناً يفوق المازيغية، كما أنّ الملوك المازيغيين، وكذا الدول الثلاث عشرة التي حكمت المغرب العربي منذ الأدارسة إلى دخول العثمانيين ما كان يحكمهم إلاّ هم وأنسالهم، فالمازيغيون وهم الذين عملوا على إعلاء الدين الإسلامي ولغة الدين، كما لم يستعملوا الحرف التيفيناغي بتاتاً في حكم دُوَلهم، بل كانوا يتّخذون الحروف الرومانية قبل الفتح العربي، ولما دخلوا في الإسلام نبذوا الحروف الرومانية، وكذا حروف التيفيناغ واستبدلوهما بالحرف العربي الذي كان يستجيب للتطوّر الذي تعرفه اللغة المازيغية آنذاك. وهناك العامل الديني الإسلامي الذي ساد في مختلف القارات؛ حيث اتّجهت الكثير من اللغات إلى تبنّي هذا الحرف، ومنها اللغة المازيغية لاعتبارين: الأول: إنّ العرب أخرجوا البربر من ظلم الرومان والبيزنطيين، وتركوا لهم مجال الاختيار بين الدخول في الإسلام أو دفع الجزية؛ الثاني: إنّ الفتح الإسلامي جعل المازيغيين يتنفّسون بلغتهم وفي لغتهم، ولم يتبنوا لغتهم. ولكن في واقعنا الحالي ألا يمكن غلق مسألة الحرف باتّخاذ صورة واحدة بين الحرف المازيغي أو العربي، أم نبقى نشغل ذهن التلميذ بخط ثالث، ونقول له اكتبْ حرفَ اللام بثلاثة أشكال: ل / / L؟ فهل هذا يحلّ المشكلة اللغوية؟ وهل يحلّ مشكلة التعدّد اللغوي في بلدنا، وهو شيء موجود ومحبوب ومقبول، أم هي مُوضة حضارية أُريد لها أن تكون نابعة من اللاتينية؟ ولذا يجب العلم بأنّ العقدة في بلدنا في الهيمنة اللغوية التي فرضتها لغة أجنبية، وهي لغة غير مصنّفة في العالم المعاصر من حيث الرقمنة والشابكة؛ ونحن نتمسّك بها على أنّها لغة الرقي الحضاري، ولا يرشّح العلم إلاّ منها ومن لا يستعملها فهو منغلق على نفسه، كأنّ اللغات الأخرى مغلوقة ومنغلقة، عدا الفرنسية التي هي لغة الانفتاح والتفتّح، وهنا مكمن القنبلة الآتية والقابلة للانفجار، بل الفتيل الذي يجب فكّه كي لا يحدث التفرقع. وإنّ آباءنا وضعوا سلّماً تراتبياً لوظيفية اللغتين: العربية لغة التعالي والحكم والسلطان والعلم. المازيغية: لغة المِهَن والمحيط الضيّق، ولغة المعاملات البسيطة. ولقد أُنزلت اللغتان (المازيغية والعربية) في مكانها المناسب؛ كل لها طابعها ووظيفتها، وحتى الأتراك تركوا المسألة اللغوية كما وجدوها، ولم تقم المسألة لتأخذ وجه المطلبية إلاّ في أواخر أربعينيات القرن الماضي، واشتدّت في بعد أحداث الثمانينيات بقوّة (ربيع عام 1980م) ومن ذلك الوقت بدأت ملامح المطالبة بالهُوية اللغوية التاريخية (المواطنة اللغوية) تطفو على سطح الأحداث وهذا تأكيداً لمقولة: كلّ ممنوع مرغوب. نقل واقع حال: هي نقول ومكاشفات وملاحظات سجّلتها في كناشاتي وفي المحمول، وأنا أتقصّى الحقائق في (قسم اللغة والثقافة المازيغية) بجامعة مولود معمري، وكنتُ أشاهد بعض المظاهر المخلّة بعملية استعمال وتدريس المازيغية، فلقد بحثتُ ورأيت ما لم يكن في الحسبان: بحثتُ عن تجسيد تسمية هذا القسم (قسم اللغة والثقافة المازيغية) من الخارج أولاً، فما لاحظته صورة على أعلى البناية لطالب متردّد بين دخول هذا القسم من عدمه، فَرِجْل إلى الأمام، وأخرى إلى الوراء، وفي قراءة سيميائية يمكن أن أقول: إنّ الطالب حائر في أمره، فإلى أين يتّجه، هل يتّجه إلى مستقبل مجهول، وعلامة الاستفهام لا تفارق خطاه، وقد رمتْ به القوانين إلى قسم مجهول؛ وأمامه صورة باهتة لا تبشّر بمستقبل منشود لهذا الطالب، وكأنّ اللوحة ترشده إلى النفور، فلا أثر لتراثه من خلال تلك الألوان الأحفورية التي تعود بنا إلى العصور المظلمة، وكأنّي بهذا القسم الذي لا يحمل ما يدلّ عليه يشتغل في الظلام والسرّية، دون أن تعلو بوابته لافتة عليه اسم القسم (قسم اللغة والثقافة المازيغية) وتكتب بأيّ حروف؛ علّها تكون المهتدى لمن لا يعرفه. بحثتُ عن الجزء الثاني من التسمية (الثقافة المازيغية) فما وجدتها، بل وجدتُ (الثقافة الغربية) متمثّلة في كثير من حفريات هذا القسم اللاتيني، المتواجد في جامعة بلاد القبائل الكبرى التي عرفت زعماء كانوا ضد الفرنسيين وضد لغتهم الفرنسية، فقبل أن يقرؤوا Les faibles de la Fontaine. استوعبوا الشهنامة والبيان والتبيين وكتب السيوطي ونحو البصرة، فأبدعوا في أجروميات اللغة العربية. ومن هنا فإنّ المازيغية بكلّ لهجاتها لها احتكاك أولي بالثقافة الإسلامية، فالثقافة ثقافات والعربية أولى الثقافات التي تصاهرت معها المازيغية وتملك معطياتها، ولا تملك معطيات الثقافات التي سبقت العربية، وتلك من التاريخ التي عفا عليها الزمان، ويبقى في النقائش في كلّ أوان، كما لا تمتلك المعطيات التكاملية مع الفرنسية التي جاءت في مرحلة متأخّرة، إن لم نقل إنّها وليدة حديثة جداً. وبكلّ أسف فإنّ المقصّ يتدخّل في هذه النقطة ليقصّ ويمحو كلّ ذلك التاريخ عنوة، فأين الثقافة المازيغية التي تعانقت والعربية؟ أين الثقافة المازيغية التي انصهرت في الحرف العربي؟ أين التجانس والانسجام الجماعي في الثقافة الوطنية من خلال التكامل والتصاهر؟ لماذا نغيّب هذا الجانب المضيء من ثقافتنا الجزائرية؟ فهل من إجابة يا أولي الأمر؟ وعاد بيَ التاريخ أسال طارق بن زياد، ودولة الموحّدين، وعظمة المرابطين، والحكيم الصوفي يوسف بن تاشفين، والعالم القائد ابن تومرت، ودولة بني عبد الوادي، والحاكم الصنديد يغمراسن... أين أنتم أيّها الأجداد من التاريخ المعاصر، فلقد تجاوزكم التاريخ، فهل كنتم نكرات ذات وقت في دُوَلكم، ألم تبنوا مجداً يفتخر به المغرب الكبير؟ والآن جاء عصر جديد يبشّر بالعولمة الغربية التي هي حضارتنا، وهي منوالنا، ولا ننظر إلاّ من خلالها، فالويل لمن يعود القهقرى، فهو رجعي وسلفي مستصفى. كنتُ أطمح ككلّ الجزائريين أن تطفو هذه اللغة على السطح، وتخرج من عباءة الاحتواء في التعبير وفي الخطّ وفي التقليد وفي المنهجية والتنظير، لأنّه ما عاشت لغة كانت تابعة للغة أخرى فأين الخصوصية والتميّز؟ وكنتُ أتمنى استكناه تراث الأجداد دون تمريره على قوالب لغة ما، وبخاصة لغة المستعمِر، كما يفترض أنّ الدولة الجزائرية تدفع أموالاً على تعليم المازيغية لا تعليم لغة أجنبية في قسم اللغة والثقافة المازيغية، أو في دروس المازيغية، فلدينا قسم اللغة الفرنسية فهو يكفينا. ومن هنا بات حرياً الكشف وعدم السكوت عن شيء مسكوت عنه في مسألة المازيغية التي دفع عليها الشعب الجزائري ما دفع من أجل أن يرى لغته تُتَعلّم في المدرسة وفي جامعة مولود معمري ذاتها، وأن تُمارس في السلوكات اليومية في نفسها وحروفها؛ وبخاصة في المؤسّسات التي تزعم أنّها تعمل على ترقيتها، ولكن كلّ هذا لم يحدث؛ حيث سرقت الحضارة المعاصرة نظرات العاملين على ترقية المازيغية، بل أصابهم العمى الحضاري، وتركوا الحديث عن كلّ ما كان يخلق بناء جسور التواصل بين الماضي المشّع المتصاهر، والحاضر الطموح والذي به تكتسب التّحديات القادمة، ووحدة الشعب الجزائري في إحياء لغته المازيغية. بحثتُ في قسم اللغة والثقافة المازيغية في: المنشورات والملصقات والمطبوعات وفي محاضر الاجتماعات وفي مكتوب اللجان العلمية وفي الإعلانات وفي الدعوات وفي كراريس الطلاب وفي اجتماعات هيئة التدريس وفي كشوف العلامات... عن الكلامي المازيغي أو الرسم المازيغي أو ما ينمّ عنهما، فلم أجد لهما أثرَ عين، ما عدا قلّة قليلة من بعض النشريات التي أراها تخرج بالحرف اللاتيني؛ وفيها كلام مازيغي وبكلّ استحياء. ورفعتُ هذا السؤال: هل يعرف الشعب الجزائري مصير المازيغية من خلال هذه الممارسات؟ وهل يعرف الجزائريون أنّ كلّ المكتوب المبحوث عنه كُتب بالفرنسية! وقلتُ مستنكراً: وهل سالتْ تلك الدماء من أجل إحياء لغة تراثنا التي تحتويها عباءة لغة أخرى؟ أليس هذا تحريف للانتصار الذي أحرزه بعض المدافعين، أو هو تغيير مجرى الدفاع عن المازيغية في العباءة الفرنسية، ولا مانع أن نسير عكس الاتّجاه، فليس لدينا أواه. بحثتُ عن خطّ هذه اللغة؛ وهو خطّ التيفيناغ، هل يُستعمل في هذا القسم؟ ولقد اشتقتُ لرؤية هذا الخط الجميل، والذي أعتز به كثيراً، بحثت في دروس الأساتذة، وفي ما يكتبه الطلاب، وفي وثائقهم الإدارية... ما وجدته بتاتاً، أين خطّ التفيناغ يا من يريدون الأصالة والتراث؟ وذهبت بعيداً لتقصّي مسألة المكتوب التيفيناغي عند الطلاب، وكنت أرمي لهم ببعض الكلمات وكيف تّكتب بالتيفيناغ فوجدت ما يقرب من 95 % من الطلاب لا يعرفونه، وقلتُ سأتّجه إلى المدرّسين، فوجدت الكارثة أكبر، ويا ليتني لم أفعل؛ حيث كانت ذات النسبة في عيّنة الأساتذة. بحثتُ عند الأساتذة عن مكمن المشكل، فوجدت بعضهم يعزي التردّي إلى مسألة عدم رسمية اللغة، التي جعلتها تتأرجح بين اللغة واللهجة، وقلت: هل هذه هي العقدة؟ فبحثت عن فكّ عقدة الخلاف بين اللغة واللهجة، فلم أجد الرأي المجمع عليه من قبل المدرّسين في هذا القسم، فهل المازيغية لغة أم لهجة؟ وقلت: إنّ اللهجات الاجتماعية أشكال لغوية تتميز بها جماعة من الناس وتشترك في مجموعة من الخصائص الاجتماعية، فاللهجات مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة، وهذا ما يقول به المختصّون . كما تطلق "على مجموعة من الصفات اللغوية (الصوتية والصرفية، والنّحوية، والدلالية) تنتمي إلى بيئة جغرافية أو اجتماعية معيّنة هي من بيئة أشمل، تضمّ عدة لهجات تجمعها عناصر لغة مشتركة، ويتكلم أهل هذه البيئة أو البيئات الأوسع والأشمل لغة واحدة مشتركة" . وإن اللغة –ومنها اللهجة- ظاهرة اجتماعية، "تتأثر بالمجتمع ونظمه، وعاداته، وتقاليده وعلاقاته المختلفة، وهي أيضا مؤثرة في المجتمع.. وتعدّ دراسة اللهجة مدخلا لدراسة العادات والتقاليد، والأمثال الشعبية، والشعر، والأساطير" . ومن هنا يصعب التفريق في هذه النقطة بين مدلول المصطلحيْن، وخاصة في الأغراض غير العلمية. فاللغة وسيلة اتّصال، واللهجة وسيلة اتّصال، والتفريق يتمّ على مستوى الوظيفة، علماً أنّ اللغة أو اللهجة تحدّدها شخصية المتحدّث والمنطقة التي يقطنها أو الطبقة التي ينتمي إليها المجتمع. ولهذا تختلف اللهجات باختلاف المناطق الجغرافية وباختلاف الطبقات الاجتماعية، والمهمّ أنّ اللغة أو اللهجات التي يكتسبها الفرد أو يستخدمها دليل على هويته في المجتمع. ولذا بات الأمر واضحاً بأنّ المسألة ليست من باب الخلاف في سلّم التراتب العلمي بين (اللهجة واللغة) حيث إنّ التنوّعات أو الأداءات التي تعرفها المازيغية شيء طبيعي وهي عبارة عن أساليب تتحدّد بصفات لها علاقة بالمتحدّث ومستخدم اللغة. واللغة أو اللهجة تتكوّن من كلمات وألفاظ مستقاة من واقع البيئة والحياة المعيشية، وقد تكون متوارثة، وربّما تكون فيها كلمات وألفاظ دخيلة... والذي يهمّ هذا الجانب ألا يمكن غلق ملف الخلاف في الاصطلاح على مستوى العموم، ولا مانع أن يأتي في مرحلة التقعيد. وأما المازيغية فيكفيها وجود ألفاظ ومفردات من أشعار وأمثال وحكم وأقوال باقية قد تناثرت بين الأرجاء بصيغة أو بأخرى، وهذا ما لاحظناه في مفردات الألفاظ الزراعية أو الألفاظ البدوية؛ ففيها شواهد على وجود هذه الكلمات أو تلك بين القديم والحديث وما إلى ذلك، فربّما كانت اللفظة الواحدة منطوقة في بيئتها، قديما بشكل مختلف كلياً عن الحاضر... كما أنّ الشعر والمثل وعاءان حافظان للكلمة من الاندثار طالما بقي استعمال الشعر والمثل حاضراً في وجدان الناس. فيكفينا الغرق في كأس ماء، ويكفينا النظر إلى نصف الكأس الفارغة. بحثتُ عن المازيغية في أعمال مخبر (تهيئة وتدريس اللغة المازيغية) فوجدت تنميط الفرنسية وبالفرنسية، وبخط اللاتينية بكلّ إسراف ودون توقّع، وللأسف فإنّه لا يشير هذا المخبر إلى أيّة علامة على أنّه يخدم التهيئة للمازيغية إلاّ التسمية، وأبسط ما يدلّ على ذلك الشعار الذي لا يحمله. وقلتُ لندع المخبر ونذهب إلى ملتقيات قسم المازيغية، وأتذكّر أنّني حضرتُ ملتقى (اللغة الأمّ) وعدتُ إلى محاضراته فوجدتها بالفرنسية عن المازيغية، ومن بينها محاضرتان باللغة العربية... كمات بحثت عم بعض إصدارات القسم، فحصلت على العدد اليتيم من إصداراته –قد تكون مشتركة- مع المخبر المذكور، وكان بين يدي العدد 01 الموسم ب ILES D IMESLI فَعَبْرَ 143 صفحة، والفهرس الذي يحتوي على 08 مقالات، وقد نصّ على محتوياتها في غلاف آخر الصفحة بأنّها جزء من مقالات كثيرة قدّمها أساتذة القسم، تتعلّق بالفيلولوجية والأصوات البربرية، وفي العدد القادم سيكون التركيز على موضوعات أخرى ذات العلاقة بالميادين البربرية. أصدقكم القول بأنّني اسودّت الصورة في عيني وأصبحت قاتمة، فوجدتُ تكريس لغة پولتير (Voltaire) بقوّة أكثر من يعاقبة (Jacobites) چان دارك (Jeanne D'arc) ويفتخر روشيليو بأنّ لغته تنتفخ في هذا القسم، وفي تدريس المازيغية تنال مساحات لم تنلها أيام الاستعمار. اسودّت الصورة في وجهي ليس من باب الموضوعات التي تناولها هذا العدد (01) بل العدد مفخرة للقسم إذا تغيّرت المعطيات التي يعالجها لاحقاً، ولكن ما لم يكن صواباً من خلال الموضوعات التي حواها وهي موضوعات عفا عليها الزمان في المسألة البربرية موضوعات معروفة، وكنّا نأمل أن يحصل التفتّح على الجديد. فالآن هناك مسائل التهيئة اللغوية، وهي مسائل التحدّيات المعاصرة في مجال التهيئة الحديثة، من مثل: التحرّيات اللغوية؛ جمع المادة العلمية لبناء المعاجم؛ جمع الحكايات والأدب الشفاهي؛ العمل على تعميم استعمال المازيغية؛ التجارب الناجحة في التهيئة اللغوية؛ وضع المؤسّسات التي تقوم على خدمتها؛ تقديم تشجيعات للموضوعات ذات العلاقة بالتهيئة اللغوية؛ التفتّح على اللغات المازيغية الجزائرية؛ رصد القواسم المشتركة في مختلف الاحتكاكات اللغوية؛ الفصل بشكل نهائي في ضرورة استعمال خط التيفيناغ... ولكني قلت: هذا أول الخطو، ولا شكّ أنّه سيأتي الجديد في لاحق من الأعداد والمهم أن يخرج القسم من البيات الذي أوجده لنفسه، ومن الدوران حول الذات. بحثتُ عن استعمال المازيغية (الممارسات اللغوية) في داخل أقسام التدريس، بين الأساتذة، وبين الأستاذ والطالب، فوجدت ما يقرب إلى ما نسبته 10 % من القبائلية فقط. واتّجهت إلى طلاب قدموا من ولايات لا تعرف/ لا تستعمل المازيغية فرأيت العجب. طلاب يتخرّجون بشهادات في اللغة المازيغية يعرفون الفرنسية أكثر من المازيغية بعد تخرّجهم، ويستشهدون بالفرنسية عن المازيغية ولا يستطيعون التعبير بالمازيغية، ويقولون: نفهم ولكنّنا لا نستطيع الردّ. فقلت: كيف تصبحون مدرّسين لمادة المازيغية إذاً؟ فيأتي الردّ سننقل الصورة التي أخذناها من القسم ! تخلاط على تخلاط حتى يقع الفهم، والمهمّ الفهم ولو بالإشارة. بحثتُ في مصلحة الدراسات والتوجيه في الجامعة، فوجدت المعنيين يشكون من التوجيه لقسم المازيغية، فيقدّم الطلبة الموجّهون الطعونَ تلو الطعون، وهناك من الطلاب الذين يطلبون إعادة التوجيه، بل إنّ نسبة منهم يتركون الدراسة في السنة الأولى إن لم يُقبل لهم التحويل أو التوجيه، فأين يكمن الخلل؟ بكلّ أسف، فبعدما بحثتُ قد تسألونني عن المازيغية، وتقولون: كيف هي حال المازيغية الآن بعدما أقيم قسم اللغة والثقافة المازيغية؟ فأقول: المازيغية جميلة أصابها السلّ والمرض، وإنّي نقلت لكم الصورة الحقيقية لواقع مرّ، واقع يكاد المرء يُصاب بالإحباط، لانحراف الاتّجاه، ولنقص الدراية وضعف الإرادة وسكوت الإدارة، وهي عوامل تضرّ بالمسألة اللغوية، والتي نتيجتها المؤسفة: الانحراف بالمسألة اللغوية في المسألة المازيغية. ومن هنا خلص بيِ الحديث بأنّ هذه الممارسات لا تخدم ولا تُرقي المازيغية بقدر ما تُعمّق لغة وثقافة فرنسية بكلّ وضوح، فهل يُراد من هذا القسم (قسم اللغة والثقافة المازيغية) استكمال عمل (قسم اللغة الفرنسية)؟ ولست أدري لماذا هذا التوجيه الذي أريد به احتواء المازيغية من قبل لغة المستعمر. ومن هنا قلت ربّما يعود هذا إلى الواقع اللغوي الذي رأيته متذبذباً بين النصوص الرسمية وبين الممارسات، وبين عدم وجود نصوص قانونية للواقع اللغوي من حيث الوظيفة العمومية. وتبقى هذه المسألة غير حجّية ما دام قسم اللغة والثقافة المازيغية وُجد لرفع الصعوبات التعليمية، وكان عليه فعلها، ولو فعل هذا، أو حاول فلم ينجح فهو معذور، ولكنّه من خلال هذه الممارسات فإنّه لم يفعل فمتى يفعل ويستفيق. وانتقت إلى واقع القسم من حيث التصنيف الذي يتعامل به مع اللغات، باعتباره واقعاً تحت تأثير: المازيغيات، العربية الفصحى، الدوارج العربية، الفرنسية. فبدا لي هذا الواقع في هذا التصنيف: لغات بحسب المقام: لغة هيمنة الفرنسية لغة وضيعة العربية الفصحى لغة وسطى الدارجة لغة وضيعة المازيغية. لغات بحسب الوظيفية: العربية الفصحى لغة الدين الفرنسية لغة العلم والمال المازيغية لغة الأصالة الدارجة لغة الابتذال. ومن حيث التكامل والتعارض والصراع نجد الآتي: لغات التضاد: العربية الفرنسية الفرنسية العربية المازيغية العربية الفصحى لغات التكامل: المازيغية الفرنسية لغات التسامح: العربية الفصحى المازيغية العربية الفصحى الدارجة الدارجة المازيغية. لغات التقابل: عربية فصحى فرنسية دارجة فصحى عربية مازيغية مازيغية فرنسية