يحاول الأديب والإعلامي المعروف مرزاق بقطاش في آخر إصداراته باللغة الفرنسية “أبجديات.. مقالات أدبية”، مدّ الجسور بين مختلف الحضارات واللغات، بين الآداب وأنواع الفنون، بين الكتّاب والمبدعين، بين الجزائر والعالم وبين الجزائر ونفسها.. هي جسور تربط ثنايا العالم، وفي الوقت نفسه تربط جسورا داخلية. ”أبجديات.. مقالات أدبية” جاء في جزأين، من إصدار “منشورات الأمل”، وهي مجموع المقالات الصحفية التي كتبها الأديب بقطاش طوال سبع سنوات في الملحق الثقافي لجريدة “الوطن”. وحملت الكثير من الآراء والذكريات، واستحضارا للعظماء من مختلف روافد الإبداع والفكر. تقاطعت فيها مختلف المشاعر الإنسانية وتجارب الحياة بلغة فرنسية راقية، تعكس الإبحار الجيد لصاحب الكتاب في لغة موليير، وعلى عادته استعمل الكنايات والاستعارات والمجازات، وتوظيف الكلمات التي يحسن انتقاءها واستخدامها. الكتاب بجزأيه طُبع بدعم من وزارة الثقافة ضمن الصندوق الوطني لتطوير الفنون والآداب، في حجم متوسّط، وقد احتوى الجزء الأوّل أكثر من سبعة وستين صفحة بعد الخمسمائة، 192 مقالا بعناوين متباينة من بينها “لكن، ماذا يريد هذا المغاربي الصغير”، “الخطّاط ابن مقلة، النهر المتحوّل يعود إلى مجراه”، “أبو تمام - إدموند هالي، مذنب لورحين كبيرتين”، “رجال الأدب الذين يعودون إلى الوراء”، “المقري- برودال، ذاكرة القلب”، “الآداب الأمريكية والثقافة الإسلامية”، إلى جانب “المرافعة من أجل دخول أدبي حقيقي”، “الفارس، الريشة والسينما”، “رسالة لروني”، “أجمل الابتكارات”، “النظام في الفوضى”. كما احتوى الجزء الأوّل أيضا مقالات “أمريكا والكل الأمني اللغوي”، “الكلمة للروائيين، قفزة في المجهول”، “الوجه الخفي للتاريخ”، “المثقف العضوي”، “فن اختراع الحقيقة”، علاوة على “فارسي على رأس اللغة العربية”، “صديق بابلي”، “ابن سينا ويمامته”، “رسالة لصديقي، فرحات شركيت”، “أرخبيل لغوي”، “ويليام فولكنر، هذا المجهول”، “طه حسين والجزائر”، وكذا “جناح الموت”، “هندسة الحي”، “ظل وحنين”، “بابا مرزوق”، “مهنة كل المخاطر”، “افتح يا سمسم”، “من نوح إلى بتهوفن”، “أعين الموتى”، “الرواية والسياسة”، “يا بهجتي”، “فخامته، الغراب”، “بوذا غربي” وغيرها. أما الجزء الثاني من هذا العمل المتكون من 440 صفحة، فيحتوي على 125 مقالة، ومن بين العناوين التي تضمّنها “اعترافات الإسكرام”، “النمر الأبيض”، “دروب الكتابة”، “أحيانا، الأدب”، “نهاوند”، “غضب شاعر”، إلى جانب “مسار مناضل”، “البوصلة الوحيدة”، “علولة والآخرون”، “تواطؤ صغير”، “الرجوع الأبدي”، “نادية قندوز”، “حلم قديم”، “خمسينية”، “لقارئة”، “صبيحة أدبية ببغداد”، “خديجة بقطاش، عظمة ونبل”، “رياح سبتمبر”، وأيضا “رقصة زوربا” و"أشويق” وغيرها. هذا المصنّف رفعه صاحب “خويا دحمان” و“دم الغزال” وغيرها من الأعمال المتميّزة لشقيقته السيدة خديجة بقطاش التي توفيت العام الماضي، بقوله: “إلى الفقيدة أختي، خديجة بقطاش (1941-2013)، التي كانت مناضلة من أجل استقلال بلدها، بيداغوجية ومؤرخة”. ديباجة الكتاب خطّها الأستاذ فرحاني أمزيان، الذي أكد أنّ مقالات مرزاق بقطاش لا بدّ أن تصنَّف ضمن التراث الثقافي غير المادي للجزائر، وقال: “هذا رأي بعيد كلّ البعد عن أيّ زمالة أو روح أخوية ولا كياسة متواطئة”، فهذه المقالات جعلته يقترب أكثر من هذه القامة الأدبية والإعلامية، وسمحت له باكتشافه بشكل أعمق. وقد توقّف فرحاني عند إصرار بقطاش على البقاء، وتشبّثه بالحياة على خلفية ما عاناه خلال المأساة الوطنية؛ حيث اعتبر بقطاش “تكذيبا إلهيا لعجرفة الكراهية”، وواصل المشرف على الملحق الثقافي ليومية “الوطن”؛ حيث تصدر مقالات بقطاش أسبوعيا تحت مسمى “أبجديات” (أ بيسيداريوس)، الحديث عن أوّل لقاء له مع كتابات “عزوز الكابران” نهاية 2006، وقال إنّ العنوان شدّه؛ إذ بدا سفرا على ضفاف الكتابات الإنسانية الأولى، فكان عن المناجاة الراقية في القرآن الكريم، الأبجديات الخفية، المسمارية والهيروغليفية، وعن القدرة الخارقة للحروف، علاوة على الإشارة الضمنية للملك الفارسي “داريوس”؛ كإحالة لعظمة الشرق مهد العبقرية البشرية قبل أن يصبح فريسة للاستشراق. ويقدّم الأستاذ فرحاني رأيه في هذه الكتابات، معبّرا عن فخره؛ كونه أوّل من يقرأ ما يكتبه مرزاق بقطاش طوال سبع سنوات، موضّحا أنّه لا يمكن تصنيف هذه المقالات؛ فهي في آن واحد مقالات ثقافية، فنية وأدبية.. هي كذلك لكن ببهارات أخرى، مفضلا اعتبارها “مقالات حضارية”؛ لأنّ بقطاش تناول فيها كلّ ما له علاقة بالحضارة الإنسانية من خلال زخم يُعدّ عصب الحضارات التي لاتزال تروي العقول حتى بعد اختفائها. وبات ما خطّه بقطاش واحتواه عمله بلغة فرنسية راقية - حسب واضع المقدّمة - إثباتا متقنا على بطلان نظريات “صراع الحضارات”؛ حيث قدّم طوال سبع سنوات أكثر من ثلاثمائة من “أبجديات”، ولم يخلف موعده الأسبوعي بالرغم من متاعبه الصحية، وكان في كلّ مرة يسأل الأستاذ فرحاني عن رأيه فيما كتب محتفظا ببساطته رغم أنّ سنوات عمله الإعلامي وإبداعه الأدبي يعادل سنوات استقلال الجزائر. وباحترافية عالية حافظ على تفانيه وإخلاصه لعمله وهمه الذي حمله لسنوات عديدة، متسائلا وسائلا في كلّ مرة إن كانت مقالاته مكتوبة بشكل جيّد، وإن لم تكن صعبة وفي متناول القرّاء، وهنا يتوقّف الأستاذ فرحاني للإشارة إلى أنّ الثقافة لا يمكن أن تزدهر وتسمو في ظلّ رؤية شعبوية، والإعلام الثقافي لا يمكن أن يحطّ من قيمته إرضاء لأكبر قدر ممكن من القرّاء؛ لأنّ التنشئة الثقافية ليست من مهامه ولكنّها من مهام أطراف أخرى في المجتمع. وعمل الأستاذ فرحاني على التأكيد، في كلّ مرة أن كتابات الأديب مرزاق بقطاش، لا يمكن تعويضها حتى وإن استوجب أسلوبه جهدا إضافيا؛ لأنّه يضفي على الملحق بعدا ثقافيا ثريا، شاسعا متعدّد القيم، مؤكّدا أنّه لم يسبق له وأن التقى شخصا بهذا العلم الواسع؛ فهو المثقف الراقي بالعربية بكلّ أشكالها، المتحكّم في الفرنسية، متعدّد اللغات مع إتقان الإنجليزية ومعرفة بالإسبانية، ف“عقله يتجاوز اللغات”. إنه الروائي، القاص، الصحفي والمترجم وكذا كاتب السيناريو، المداعب للريشة، الخطاط وهاوي السينما والمتعطّش لكلّ معرفة وروحانية، قادر - حسب الأستاذ فرحاني على تجزئة سمفونية بيتهوفن آلة بآلة، وتحليل لوحة ليوهان فيرمار، والإبحار في مجرة المتنبي أو همنغواي، والانتقال من رولان بارت إلى السينمائي الكويتي خالد صديقي، والتحليق من اليوناني سوفوكليس نحو جون سيباستيان باخ، والقفز من يوغ لويس بورج إلى طه حسين ومن أحمد شوقي إلى إيدغار ألان بو.. كل هذا في دوران دائم ببساطة مثيرة وقيم أخلاقية عالية؛ حيث تهيمن الروح الطيبة.