يتفق الكثيرون على أهمية المسرح ودوره في صيرورة المجتمع وحياة المواطن بصفة عامة، فهناك من يراه مرآة عاكسة لما يحدث في الشارع من مشاغل ومشاكل وهواجس، في حين يعتبره آخرون الصورة التي يجب أن يكون عليها هذا المجتمع، ويتساءل فريق آخر عن قدرة هذا الفن على التغيير وقيادة ثورة؟ وعن علاقته بالمواطنة؟ "المساء" سعت إلى الإجابة عن كل هذه التساؤلات وتوضيح مختلف الرؤى، بعرضها على أهل التخصص والعارفين بخباياه، على رأسهم مدير المجلة الرقمية "مسرحيون" العراقي قاسم مطرود، الأستاذ المسرحي والمستشار بالمسرح الوطني الجزائري إبراهيم نوال، الناقد المسرحي نادر القنة من الكويت والكاتب المسرحي محمد بهجاجي من المغرب، فكانت هذه الندوة... نوال إبراهيم (الجزائر) : المسرح يحاكي الواقع بطريقة فنية المسرح مرآة عاكسة لما يمكن أن يحدث لنا من أحداث مأساوية أو سعيدة في حياتنا اليومية، فالمسرح سحر أو يبدو كسحر له توابله الفنية، فعندما نتذوق طبقا لذيذا ندرك شهيته ولكننا لا نعرف ما هي التوابل التي صنع بها، هذا هو المسرح بتوابله التي لا ترى والتي ندركها جيدا. بالمقابل، وظيفة المسرح اجتماعية مثل كل الفنون، لأن الوظيفة الثقافية قبل كل شيء هي اجتماعية، ومنذ عصر اليونان وإلى غاية اليوم، المسرح كانت له وما تزال أهداف اجتماعية، علاوة على هدف تأسيس الحوار الحضاري بين كل فئات المجتمع، سواء بطريقة درامية أو فكاهية، وكما قال ارسطو " الواقع الفني في المسرح أسمى من الواقع المعيش". والفنان المبدع سواء كان كاتبا أو مخرجا مسرحيا، هو قبل كل شيء يحادث البيئة التي يعيش فيها، ولكن ضمن واقع فني، وأقصد بذلك أن يأخذنا الكاتب المسرحي مثلا عبر شاعريته، أي أسلوبه الفني، إلى تحويل الفكرة السياسية أو الخطاب السياسي إلى خطاب مسرحي فني بكل قواعده الفنية. من جهة أخرى، لم يحدث أبدا أن قاد المسرح ثورة، لا في عهد اليونان ولا في الثورة الفرنسية 1789 ولا في الثورة البلشفية 1917 ولا حتى في ثورتنا المجيدة، ولكن المسرح يساهم في تطوير البعد السياسي وفي تأسيس تساؤلات اجتماعية وسياسية لكي ينضج الجمهور، وهو يلعب دور الوسيط الذي يخاطب الأفكار والأذهان والروح أيضا، وبالتالي، فإن مخاطبة الأفكار والمشاعر تؤدي أولا إلى فتح المجال أمام التساؤلات من جهة، وإلى إحداث نضج ووعي نضالي، مثل ما أراده الأمير خالد عندما نادى المثقفين إلى إنشاء مسرح جزائري في عهد الاستعمار، ومثلما أيضا أرادت جبهة التحرير الوطني إنشاء فرقتها الفنية سنة 1957، بعد أن أعلنت في مؤتمر الصومام عن أهمية الثقافة في القضية الجزائرية وهذا سنة 1956 . أما عن علاقة المسرح بالمواطنة، فإن المسرح منذ عهد اليونان كانت له علاقة بالمواطنة، فقد أنشئ أب الفنون في أول الأمر في المدينة لأجل المواطن ولأجل تحريره من العنف ودفعه نحو الحوار لحل مشاكله، وهذا عن طريق طرحه تساؤلات، وبالتالي، فالمسرح لا يمتلك الأداة النضالية، بل ميكانيزما ومفتاحا للحوار المدني، الذي يفتح مجالات كثيرة قبل وبعد مشاهدة المسرحية، وكما يقول شكسبير، فضاءات المسرح هي للحوار والحب. وأريد أن أتوقف عند نقطة، وهي أن معظم المسرحيات التي لها شعبية لم تكن كتابتها وإخراجها بالأمر السهل، وإن كانت تبدو بسيطة، فهي بالتالي مسرحيات عالمية مثل مسرحيات شكسبير، التي طرحت في القرن 16 تساؤلات معينة ما تزال لحد الآن وستظل تطرح لأنها وبكل بساطة تهتم بالمواضيع الإنسانية. قاسم مطرود (العراق) : لا يجب أن نحمل المسرح أكثر مما يطيق المسرح ليس انعكاسا للواقع ولا مرآة، المسرح هو الصورة التي يجب أن يكون عليها المجتمع، أي الصورة المثلى، فأنا لا آتي بالمرآة وآخذ حكاية من الواقع وأضعها على خشبة المسرح، هذه ليست وظيفة للمسرح، فالمسرح يأخذ جزءا مستقطعا من الواقع ويضعه على الخشبة ويقول هذا ما يجب أن يكون، وهو ليس مرشدا ولا قسا ولا رجل دين، ما الفائدة أن آخذ حكاية خصام بين رجل وامرأة وأقدمها في عملي مسرحي ينتهي بأن يعتذر الرجل من المرأة، هذه ليست مشكلتنا فهي مشكلة اجتماعية يحلها الأقارب، المسرح شيء أكبر من هذا، فهو سلطة حضارية ثقافية مستقبلية، مشكلة المرأة الفلانية التي أعالجها اليوم يجب أن تنطبق على النساء بعد مائتي سنة، يجب أن ترى هذه المرأة نموذجا مثل "أوفيليا" بطلة مسرحية "هاملت" التي أصبحت الرمز، أو مثل "هاملت" الذي أصبح النموذج لمئات الرجال و"بيكت" وغيرهم، فالمسرح ليس الذي يقدم المجتمع كالمرآة، بل يقدم المجتمع كما يجب أن يكون، وأتساءل كيف يمكننا أن نعبّر عن المجتمع كما يجب أن يكون إن لم نكن على معرفة ودراية تامة بما يحيط بنا في العصر الحديث ونتمتع بثقافة واسعة عن عصور سابقة من تحولات فكرية وسياسية واقتصادية؟ أقول أن المسرحي يجب أن يكون مجموعة من أشخاص في ان واحد (طبيب، عالم، دكتور، حداد، بائع، متسكع، قس ورجل دين...)، كل هذه العناصر أو الشخوص يجب أن تتوفر فيه، أنا قلت في احد نصوصي " بي رغبة للصلاة والسكر حتى الثمالة " وأعني بذلك أن الشخصية المسرحية هي ثنائية على الأقل، وإلا فهي غير قادرة على نسج وبناء الشخصيات، فنكتب مثلا حوارا على لسان شخصيتين مختلفين رجل وامرأة، يجب أن نعرف إحساس المرأة والرجل حتى نكتب عنهما، بأي طريقة يتحدث الرجل وأي مفردات يستعملها في حديثه ونفس الشيء بالنسبة للمرأة ؟ هنا يجب أن نكون رجلا وامرأة. لكل مهامه في هذه الحياة، للمرأة دورها وللرجل كذلك، ولا يجب أن نحمل كلا منهما ما لا طاقة له به، كما لا يجب تحميل المسرح ما لا يقدر عليه، كأن نطلب منه إخراج المحتل وإزاحة العولمة والقضاء على مرض الإيدز مثلا، هذا مستحيل، لكنه بالمقابل يستطيع أن ينزل إلى شعوب إفريقيا حيث ينتشر الفقر وداء الايدز ويوعي وينبه ويصحح ، فالمسرح لا يملك العصا السحرية لإيقاف الحروب أو الوقوف في وجه دموية الحكم الواحد في أمريكا... ما يقدر عليه هو الصراخ في وجه كل ذلك، ويستجمع المئات والعشرات وآلاف الأصوات التي يجب أن تصغي. الفن الرابع نجح في شيء مهم جدا وهو تغيير نظرة الكثيرين من الحاقدين على الإسلام، وهناك ثورة مليونية خرجت في بريطانيا ضد الاحتلال لم يدفع لهم أحد درهما واحدا، إلا أن الثقافة استطاعت أن تدخل ضمائر الناس وتقول لهم، إن سرتم على هذه الوتيرة ستسيرون كما قادكم هتلر الذي أكل من شعوب العالم 52 مليون نسمة، بمعنى أن المسرح الفن والثقافة لا تمسك بالبندقية وليس في يديها زر قنبلة نووية، في يدها زر الوعي والإبصار وتصحيح الصورة القبيحة وتجميل ما هو قبيح. مضيفا أن المسرح عاجز عن إلغاء أي قرار كقرار مجلس الأمن مثلا في الحصار على العراق، وعلى الوقوف في وجه دبابة، لكنه يستطيع أن يوقظ ضمير الطيار ويقنعه بعدم إلقاء قنبلة على الملايين من الأبرياء، كما حدث في إحدى الدول حينما أوعز رئيس الجمهورية إلى وزير دفاعه بالهجوم على جموع المتظاهرين، لكنه رفض قائلا "لا يمكنني قتل شعبي"، وهو ما عرضه للمحاسبة، على مثل هؤلاء يراهن المسرح، لذلك فهو يشبه المسجد أو الكنيسة لأن دوره هو تنقية النفس وإبعادها عن نجاسة القتل والدم. نادر القنة (الكويت) : أب الفنون سيقمع إذا تحول إلى أداة ثورية فيما يخص قضية العلاقة الكائنة بين المسرح والمجتمع، من المؤكد أن المجتمع هو الذي ينتج جل الفنون والآداب والإبداع، بوصفه النسيج الحقيقي الذي يمكن أن يقدم لنا الموضوعات والأفكار، وبالتالي، الفن والأدب مشغول دائما بإعادة صياغة ما هو كائن في المجتمع وإعادة تصديره مرة أخرى إلى الواقع الاجتماعي، لكن يبقى التساؤل في هذه المسألة، أيهما يؤدي خدمة أكثر إلى المجتمع، أن نقدم الواقع تصويرا فوتوغرافيا كما هو، وبالتالي، يتوقف دور الفنان عند دور الناقل الأمين لما هو كائن اجتماعيا، أم يتجاوز ويتعدى ذلك إلى مسألة الخلق والابتكار؟ يقول برخت أن المسرح يعيد اكتشاف الواقع من جديد حينما نتعامل مع هذا الواقع، أنا أقول أنه على الفنان والمبدع أن يتجاوز الصيغ القائمة في الواقع وأن يقدم القضايا كما يجب أن تكون حتى نصل إلى الصورة الصحيحة من غير انحرافات، وأيضا من غير تقوقع أو مؤطر لما هو كائن اجتماعيا. ربما ذلك سيصحبنا إلى منطقة مهمة جدا وهي منطقة الإبداع والخلق والابتكار، إذا قدمنا القضايا والموضوعات كما يجب أن تكون، هنا سنبحث عن أشكال وتحليلات وسنفكك الرموز وما هو موجود ونعيد تركيب ذلك وفق صياغة إبداعية، وسواء كانت شعرا، مسرحا، أدبا وفنونا، كل الأشكال التعبيرية ستؤخذ في هذا المنحى، وبالتالي هنا الفروقات القائمة بين فنان مبدع وفنان آخر يكون قادرا على إعادة خلق ما هو كائن وفق تخيلاته وثقافته وإمكاناته، وأيضا حسبما ما يتراءى له، وهذه تدخلنا إلى منطقة ربما أعلى نسبيا وهي منطقة "الأدلجة"، في كل الأحوال لا يمكن أن يتساوى مبدع مؤدلج تنظيميا أو حزبيا ومؤطر بإطار معين، مع مبدع بدون أدلجة يناظره نفس الثقافة والمعرفة ولكن ينتمي إلى حزب آخر، قراءة كليهما للموضوع ستكون استجابة للمعطيات الحزبية والأدلجة التي ينتمي اليها. وأتساءل هل المسرح يدعو إلى التمرد أم إلى الثورة؟ أعتقد أن هذا المسألة هي من أهم المسائل التي لها علاقة بالصراع القائم، وأتساءل أيضا، هل وظيفة المسرح وظيفة تمردية أم ثورية؟ الحقيقة أنا أشك في أن المسرح يمكن أن يتحوّل في لحظة معينة إلى أداة ثورية، ولكن يمكن للمسرح أن يعمل إضاءات أو إنارات وأن يصحح الإعوجاجات، بمعنى يدخل في أطر التمرد أكثر مما يدخل في أطر الثورة، أنا أتحدث عن المسرح العربي على أقل تقدير، من المبكر جدا أن يكون مسرحنا العربي يمتلك هذه الوظيفة العالية وهي فكرة الثورة وحتى فكرة التمرد، لأن التمرد على أقل نسبية هو تصحيح الوضع القائم ولفت نظر المتلقي إلى مواقع الخلل لإعادة توجيهه وتصحيح ما هو كائن، أما المسرح حينما يتحول إلى أداة ثورية أعتقد أنه سيقمع من اللحظة الأولى. وعن علاقة المسرح بالمواطنة، أرى أن المواطن الذي يدرك تماما الوظيفة الحضارية للمسرح يستطيع أن يتعانق مع هذا البرلمان اليومي، المسرح بوصفه مؤسسة ثقافية مركبة تركيبا ثقافيا يبدو معقدا أحيانا ولكنه جميل، يحاول دائما أن يكون لسانه طويلا، أن يعري، أن يكشف، أن يفضح، أن يبين، أن يوضح، أن يحلل، كل هذه القضايا تكون مستلزمات وأدوات يومية عبر ما يصنعه فوق خشبة المسرح ويواجه فيه المتلقي يوما بيوم وساعة بساعة، حينما تكون هناك سلسلة من العروض المسرحية، بالتالي إذا نجح المسرح في أن يتحول من مؤسسة ثقافية أو أن يزاوج بين كونه مؤسسة ثقافية ومؤسسة مدنية، بربطه للمتلقي، هنا سيكون لدينا وعي مدني حضاري لإدخال المسرح في المنظومة التربوية، أما إذا عجز المسرح عن الدخول في أطر المدنية وأن يتلاحم مع المتلقي، أعتقد أنه سيفشل في الدخول إلى المنظومة التربوية. بهجاجي محمد (المغرب): المسرح يعكس انشغالات المجتمع بأداة ديناميكية أعتقد أن المسرح مرآة المجتمع، بمعنى أنه يعكس انشغالات هذا المجتمع وانكساراته وتطلعاته، مثلما يرصد ما يفكر فيه الأفراد وما يسكتون عنه أو يرغبون فيه، أو ما يجعل هذه الرغبات محجوزة أو معاقة، ولكن الأمر لا يتعلق بمرآة ميكانيكية، بل بأداة دينامكية ترصد الكائن ومحيطه في أقصى درجات صفائه الوجودي والذهني. الأمر الذي يجعل الأدب يقيم في مكان سامٍ.. وهذا المكان هو الذي يمنح النصوص الحقيقية ديمومة في الزمن والذاكرة، ولا علاقة لذلك بالنصوص التي تنسى أو ترمى على الرصيف بمجرد الانتهاء من قراءتها، وأتساءل هل المسرح محلي يعكس مشاغل البلد، أم عالمي إنساني؟ فأرى أن داخل حقل الإبداع يصعب وضع حدود جمركية بين المدى المحلي والمدى العالمي، لأن الكاتب في جنس المسرح، كما في الأجناس الإبداعية الأخرى، لا يرسم في البداية خطة مادية مضبوطة لما ينبغي عليه كتابته، بل هو يستجيب لنداءات خاصة، تأتيه من عمق تفاعله الطبيعي مع محيطه الذاتي والموضوعي، وكلما كان هذا الكاتب وفيا لهذه النداءات كان في لحظة التقاطع الرفيعة بين ما هو محلي وما هو عالمي، مجمل القول، أن الكاتب كلما كان متمثلا للمحلي في جوهره، كلما كان متمثلا لما هو عالمي، لأنه لا توجد مدارات مطلقة للمحلي وحده، أو للعالمي وحده.