بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
أصحاب المعالي والسعادة، السيدات والسادة أعضاء الأسرة القضائية، الحضور الكريم،
نلتقي اليوم بمناسبة افتتاح السنة القضائية الجديدة وبذلك نعيد إحياء سنة حميدة تكرّست في تقاليد الدولة وعرف المؤسسة القضائية. هذه المحنة تعتبر فرصةً، لأؤكّد فيها حرصي على إعطاء السلطة القضائية المكانة المميزة التي تستحقها، وكذا لأقف وإياكم على الأشواط والإنجازات التي حقّقها قطاع العدالة والتذكير بالأهداف المنشودة ورسم المعالم المستقبلية التي نسعى إلى تحقيقها لاستكمال بناء دولة الحقّ والقانون وتكريس دعائم سلطةٍ قضائيةٍ قويةٍ مستقلةٍ وناجعةٍ، تُعزز ثقة المواطنين بالدّولة وتولّد الشّعور لديهم بالأمان والطمأنينة. وإنّه من بواعث الابتهاج والاعتزاز أن يجتمع شملنا ونحن على مقربة من إحياء ذكرى أول نوفمبر المجيدة، التي نستذكر فيها تلك الصّور البطولية وحجم التضحيات الجسيمة التي قدمها شعبنا منذ أن وطأت أقدام الاستعمار أرضنا، فداءً لهذا الوطن وانتزاعا لحرية أبنائه وحقوقهم وكرامتهم، رغم أبشع أنواع التعذيب والتنكيل والإبادة التي تعرضوا لها من استعمار غاشم استيطاني انتهج سياسةً استعمارية لا مكان فيها للحقّ في الحريّة والحياة.
السّيدات الفضليات، السّادة الأفاضل، لقد تعهدت أمام الله وأمام الشعب الجزائري كلّه، غداة منحي ثقته في الانتخابات الرئاسية بتحقيق مطالبه وطموحاته المشروعة من أجل إحداث تغيير شامل وحقيقي يسمح بتقويم وطني وإعطاء انطلاقة جديدة لبلادنا ويتيح له العيش في جزائر ديمقراطية ومزدهرة وفيّة لقيّم ثورة الفاتح من نوفمبر 1954 ورسالة الشهداء الأبرار. إنّ هذا المسعى استوجب إحداث تغيير شامل وحقيقي، يسمح بتقويم البناء الوطني. ولإنجاح هذا المسار توجّب علينا احترام المراحل والسير بخطى ثابتة بدأناها بالتعديل الدستوري الذي زكاه الشعب، ثم شرعنا بعدها في بناء الصرح المؤسساتي الجديد ابتداءً بتنظيم انتخابات تشريعية لاختيار الشعب لممثليه في المجلس الشعبي الوطني وحرصت فيها الدولة كلّ الحرص على إبعاد أصحاب المال الفاسد من التغلغل فيه، من خلال إعادة النّظر في النظام الانتخابي بهدف أخلقة الحياة السياسية وإبعاد تأثير المال السياسي عن المسار الانتخابي وفسح المجال للشباب وتقديم كلّ الدعم لهم للمشاركة في صناعة القرار. وها هي البلاد تستعد لانتخابات محلية سينبثق عنها المجالس البلدية والولائية، للتكفل بانشغالات المواطنات والمواطنين وتحقيق التنمية المحلية المستدامة المبنية على التشاور والديمقراطية التشاركية. وبالتالي نستكمل مسارنا بانتخاب أعضاء مجلس الأمة وتنصيب المحكمة الدستورية وباقي المؤسسات الدستورية بعد تكييفها مع الدستور الجديد. وفي مجال إصلاح العدالة، فقد تضمن الدستور أحكاما غير مسبوقة تكرس استقلالية السلطة القضائية وتحقق تطلعات الشّعب الجزائري، بما يسمح باسترجاع ثقة المواطن في عدالة بلاده. ويتجلى ذلك على الخصوص، من خلال منح جميع صلاحيات تسيير شؤون القضاة للمجلس الأعلى للقضاء، الذي أصبح يتشكل في أغلبيته من قضاة منتخبين من قبل زملائهم، كما حظي التنظيم النقابي للقضاة بالتمثيل في هذا المجلس في سابقة تعبر عن حرصنا على توفير الحماية للقاضي وتعبّد طريق استقلالية السلطة التي ينتمي إليها. إنّ هذه الضمانات سوف تتجسد بصدور القانون العضوي المتضمن القانون الأساسي للقضاء والقانون العضوي المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء. ومن هذا المنبر أطلب من الحكومة الإسراع في دراسة هذين القانونين في القريب العاجل قصد عرضهما على البرلمان، ليتسنى إثرها تنصيب المجلس الأعلى للقضاء في تشكيلته الجديدة التي يتطلع إليها قضاتنا. وفي هذا الإطار، فإنني حريص كلّ الحرص على تحسين الوضعية الاجتماعية للقضاة وأؤكد التزامي التام على توفير كلّ الحماية لهم وتمكينهم من كلّ الظروف التي تسمح لهم بأداء مهامهم على أحسن وجه لفرض سيادة القانون في جميع الظروف وفي كلّ الأحوال. إنّ هذا الاهتمام نابع من قناعتي التامة والراسخة بأنّ بناء دولة الحق والقانون يمرّ حتما عبر قضاءٍ مستقلٍّ يطمئن إليه أفراد المجتمع. إنّ هذه التغييرات العميقة تشكل صفحة جديدة تؤسس لعدالة يتحرّر فيها القضاة لأداء مهامهم بحياد ومهنية عالية واضعين نصب أعينهم القانون ولا شيء غير القانون. وفي هذا المجال، فقد تصدت الدولة بصرامة لعديد الأفعال الإجرامية التي أراد منها أصحابها إدخال البلاد في جوّ من الفوضى والريبة وعدم الاطمئنان، خاصة في ظلّ الظروف الصحية التي عاشتها بلادنا بسبب تفشي الوباء، ومن بينها نشر الأخبار والأنباء الكاذبة ونشر خطابات الكراهية واستعمال وسائل الإعلام والاتصال لغرض زعزعة الأمن والاستقرار داخل الوطن ومحاولة المساس بالنسيج الاجتماعي. كما حرصنا على سنّ قانون لمحاربة جشع المضاربين الذين يتحينون الفرص للرفع من الأسعار والمساس بالقدرة الشرائية للمواطنين قصد الحد من الممارسات غير الأخلاقية التي تشوبها بين الحين والآخر. إن تطبيق هذه القوانين يقع على عاتق القضاء، قصد ضمان راحة المواطنين وأمن الأشخاص وممتلكاتهم أمام تفشي الانحراف والإجرام الذي بات يبعث على القلق، لأنه يمس بسلامة وسكينة الحياة الاجتماعية. إنّ المواطن ينتظر أيضا من العدالة أن تكون ذات نوعية، وتفصل في قضاياه في آجال معقولة وبإجراءات مبسطة. ولتحقيق الفعالية المرجوة في معالجة بعض القضايا لابد من تشجيع المصالحة الودية كطريق بديل لحلّ المنازعات بغرض تخفيف العبء على القضاء بتجنب المحاكمات التي تستغرق وقتا طويلاً ومصاريف أكبر. إنّ جودة العمل القضائي يمر حتما عبر الاهتمام بتخصص القضاة قصد ضمان المعالجة الناجعة للقضايا المعقدة التي تزايد عددها في السنوات الأخيرة، وكان ذلك من أهم التحديات التي واجهتها العدالة. وفي هذا الصدد، أؤكد على ضرورة إيلاء كل العناية للتكوين التخصصي للقضاة في مختلف المجالات، لاسيما الجرائم الاقتصادية والمالية والجرائم السيبرانية والتحكيم والتجارة الدولية وتقنيات البنوك وغيرها من المجالات الأخرى التي تحتاج إلى مهارات لا يمكن توفيرها إلا بتكوين قاعدي عالي الجودة وتكوين مستمر يساير حركة التغيير المتزايد في شتى هذه المجالات.
سيداتي الفضليات، السادة الأفاضل، تشكل التغييرات الجديدة العميقة التي نعمل على تجسيدها في الواقع صفحة جديدة، تؤسس لبناء دولة قادرة على مجابهة التحديات وطيّ صفحة ماضية تميزت بممارسات لا أخلاقية وإجرامية، سادها النهب والفساد الذي دنس كل شيء، ممارسات تسببت في أضرار جسيمة للاقتصاد الوطني وشوهت الفعل السياسي وأدت إلى تدهور العلاقة بين المواطن والدولة. وإنّ تدارك هذه الإخلالات الخطيرة، يستوجب علينا أخلقة الحياة العامة ومواصلة مكافحة جميع أشكال الفساد وهدر المال العام وتبييض الأموال والمحاباة والمحسوبية بسلاح القانون، وتكريس قواعد الشفافية للمحافظة على المال العام. إن النهوض باقتصادنا الوطني لا يتحقق فقط بمحاربة هذه الجرائم الاقتصادية فحسب، بل هو مرتبط أيضا بتحسين مناخ الأعمال وتحرير المبادرات الذي لن يتحقق إلا بتوفير الجوّ الملائم للمسيرين وحمايتهم من كلّ ما من شأنه أن يثبط عزائمهم ليؤدوا مهامهم بكلثقة وحرية في إطار احترام القانون. وفي هذا الصدد، كنت قد وجهت تعليمات للحكومة تمنع مباشرة التحقيقات المبنية على رسائل مجهولة، وتدابير أخرى سعيت من خلالها لتوفير ضمانات للمسؤولين المحليين لتوفير مناخ يشجعهم على روح المبادرة وتحمل المسؤولية. وإني أؤكد كل التأكيد أنّ هذه الإجراءات وإلى غاية تعديل القوانين ذات الصلة، لا تمس باستقلالية السلطة القضائية ولا بمبدأ ملاءمة المتابعة الجزائية الذي يبقى من صميم اختصاصها. إنّ مراجعة النصوص القانونية الرامية إلى استقطاب المستثمرين وتحسين مناخ الأعمال ينبغي أن يحظى بالعناية اللازمة، وفي هذا الصدد ينبغي وضع قواعد وإجراءات واضحة وبسيطة وناجعة. فمن البديهي أن يأخذ أصحاب رؤوس الأموال بالحسبان نجاعة المنظومة القضائية في الدولة التي ينوون الاستثمار فيها ومدى تجاوب النظام القضائي مع المعايير الدولية لحماية حقوقهم، وهذا أمر مشروع. وعليه، فإنّ نجاح برنامج دعم النمو والاستثمار مرتبط بمدى فعالية جهاز العدالة في حماية المستثمرين والأعوان الاقتصاديين وتوفر الأمن القانوني الذي حرص الدستور على تكريسه. وإنّ الحديث عن فعالية جهاز العدالة له صلة وثيقة بالعصرنة وإدخال الرقمنة والذي كان ضمن محاور اهتماماتنا. وإنّ العناية ببرنامج عصرنة المؤسسة القضائية يجب أن يرمي إلى تحسين ظروف عمل القضاة ومساعدي القضاء، فضلا على ضمان الشفافية في النشاط القضائي. وعليه فإنّ عصرنة العدالة والتحول الرقمي تعتبر أحد المحاور الأساسية التي نحرص عليها وهذا بتوسيع استخدام التكنولوجيات الحديثة للإعلام والاتصال وتوفير الخدمات عن بعد ويتعين أن يتم كل ذلك وفقا للمعايير الدولية المعمول بها في هذا المجال.
سيداتي الفضليات، السادة الأفاضل، إنّ مراجعة السياسة العقابية تحتل مكانة متميزة في مسار إصلاح العدالة لتعود بالآثار الإيجابية على مجتمعنا. فالعدد المتزايد لنزلاء المؤسسات العقابية أصبح ينهك كاهل الدولة ولا يعود بالنفع العام على المجتمع، مما يستوجب إيجاد حلول أخرى أكثر نجاعة لتدارك هذه الوضعية ومنها تشجيع العقوبات البديلة لعقوبة الحبس وإعطاء العناية اللازمة لسياسة إعادة الإدماج. ويبقى هدفنا الرئيسي هو وضع سياسة وقائية ترمي إلى الابتعاد عن الجريمة بمختلف أشكالها وعدم الاكتفاء بالردع فقط بقدر ما يستدعي الأمر الاهتمام بالجانب الوقائي أيضا.
السيدات، السادة الحضور، لا أتصور أن تقوم دولة الحق والقانون من دون حق الدفاع المكرس دستوريا، وكذا إشراك كلّ مساعدي القضاء في ترقية العمل القضائي النوعي الرفيع، ولأجل ذلك لابد أن تعطى هذه المهن العناية اللازمة. ولا يفوتني في هذه المناسبة أن أؤكد على ضرورة إرساء تقاليد الحوار والتشاور مع ممثلي التنظيمات المهنية ومواصلة الإنجازات في مجال تطوير هذه المهن باعتبار ذلك رافدا من روافد العمل القضائي ودعامة من دعائم السلطة القضائية. كما يجدر التأكيد أيضا على موضوع لا يقل أهمية عن سابقه وهو احترام أحكام القضاء والسهر على تنفيذها من قبل الجميع ودون استثناء لأنّ تنفيذ الأحكام هو شرط أساسي وجوهري نابع من السيادة الشعبية، على اعتبار أنّ الأحكام القضائية تصدر "باسم الشعب الجزائري" وهي تجسد عمليا روح القانون ومقاصد المشرع من خلال القوانين التي صوّت عليها ممثلو الشعب ومنتخبوه، ثمّ ما فائدة سنّ النصوص القانونية وإصدار الأحكام القضائية إذا لم تنفذ بأسرع وقت ممكن ليسترجع كلّ ذي حق حقّه وينتفع به.
سيداتي الفضليات، السادة الأفاضل، وإذ أسجل بارتياح ما تحقق من إنجازات في قطاع العدالة فإنني أتطلع للمزيد من التقدم وأدعو القائمين على القطاع بكل فئاتهم ودرجات مسؤولياتهم إلى بذل المزيد من المجهودات للوصول بهذا الإصلاح إلى مداه الذي نصبو إليه. وإنّ عزمنا أكيد على مواصلة جميع الجهود خدمة للوطن ولشعبنا الأبي في بلادنا التي تكون فيها المسؤولية التزاما ومبادرة لا مجال فيها للتساهل مع المستهترين بمشاكل وهموم المواطن، في جزائر نكافح فيها جميعا مظاهر الفساد والاختلال والتسيب. في الأخير، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يشدّ أزرنا ويعيننا جميعا على خدمة هذا الوطن، وأعلن رسميا افتتاح السنة القضائية 2021 2022.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.