قبل أن تتوقف حملات تأثيم الأعمال الاستشهادية للشباب العربي والمسلم دفاعا عن أعراض العرب والمسلمين، جاء انتحار الشاب التونسي البوعزيزي، ومن تأسى به في بعض الأقطار العربية ليدشن عهدا جديدا وغريبا يمجد فيه شيوخ دين محترمون فعل الانتحار، وتتنافس النخب في إغداق صفة الشهيد على المنتحرعندما تنتهي بنا الأوضاع في العالم العربي إلى أن يقع شيخ عالم فاضل بحجم ومكانة الشيخ القرضاوي إلى الإشادة بالفعل الانتحاري الذي أقدم عليه الشباب التونسي البوعزيزي، وعندما يسكت الأزهر ولا يتحرك، ليس لإدانة الفعل لكن لتوضيح الموقف الديني من الفعل الانتحاري، وهو يرى العدوى تنتقل بين الشباب العربي المسلم، في حين كان يدان الشباب العربي وهو يفجر نفسه في وجه أرتال قوات الاحتلال الغربية، فلا بد عندئذ أن نخشى الكثير على مستقبل الأمة من نخبها، أكثر ما نخشى عليها من أعدائها. في كل الأحوال، لسنا في باب إدانة ما قام به الشاب بوعزيزي الذي جرح في كرامته على يد شرطية تونسية، فكان الفعل منه فعل اليائس الذي يئس حتى من رحمة الله، وهو حال كل من يقدم على الانتحار تحت أي دافع: معيشي، سياسي، أخلاقي أو لمجرد الشعور باستحالة تحمل حياة لم يتمكن المنتحر مع التكيف معها. الفعل لم يكن في حالة الشاب البوعزيزي فعلا ثوريا حتى تصفه النخبة اليوم بالفعل الاستشهادي، وهي التي طالما وصفت الشباب الاستشهادي بالانتحاريين. وليس صدفة أن قناة الجزيرة التي أجبرت في العشرية الماضية على تسمية الاستشهاديين في العراق وأفغانستان بالانتحاريين، تتحدث عن الشاب البوعزيزي بصفة الشهيد. وحتى يومنا هذا، وبعد أن أقدم عدد من الشبان في موريتانيا والجزائر ومصر واليمن بالإقتداء بالشاب التونسي فإني لم أتابع في أي قناة عربية أية مبادرة إلى تنظيم طاولة مستديرة مع مشايخ الدين، ورواد الرأي من عالم الفكر وسياسة والثقافة، للتفكير في الظاهرة، والتوجه إلى الشباب العربي بخطاب يعيد إشعال فتيل الأمل في أنفسهم بدل هذا التمجيد الإجرامي لفعل لا لبس في تجريمه، لا في شريعتنا، ولا في أي شريعة أخرى، ولا في الشرائع الوضعية. إلى غاية عقدين قبل الآن، كان الانتحار ظاهرة هامشية لا تكاد تذكر في العالم العربي والإسلامي إلا في حالات محدودة، لها صلة بالشرف والعرض، خاصة عند الفتيات اللائي سقطن في الخطيئة. ولم نسجل عند شعوب عربية ومسلمة، عانت أضعاف ما عانى منه الشعب التونسي،لكنها لم تسقط إلى هذا الحد. ولو أن الانتحار بدافع اليأس، كما حدث مع الشاب التونسي، كان له ما يبرره لكان برر للفلسطينيين في غزة، والعراقيين في عموم العراق، وللأفغان والبشتون في باكستان. في أحد الدراسات الغربية الجادة للأوضاع في البوسنة، أيام كان المسلمون يتعرضون للإبادة، وتتعرض حرائرهم للاغتصاب الجماعي، سجلت الدراسة باندهاش كيف أن حالات الانتحار كانت أكثر بكثير في صفوف المسيحيين الصرب والكروات، وتكاد تكون معدومة عند المسلمين البوسنة، رغم الفارق في المأساة عند هؤلاء وأولئك. فكيف نبحث اليوم عن مبررات للشاب التونسي، لمجرد أنه كان سببا في اندلاع احتجاج شعبي قاد إلى سقوط رأس الطاغية بن علي؟ الظاهرة تستدعي منا جميعا التصدي لها بحزم، ليس بالقمع ، ولا حتى بتذكير أبنائنا بمآل المنتحر في نظر الشريعة، وبالنص الصريح في القرآن الكريم. حتى أنه يحرم الصلاة على المنتحر في الإسلام، كما في اليهودية والمسيحية، ولكن بتوضيح عدمية الفعل الانتحاري، وقد جاءت أعمال الانتحار متتالية في عدد من الدول العربية لتأكد للشباب الساقط في اليأس، أن انتحار بوعزيزي كتب له أن يكون مفجرا للانتفاضة لتوافر ظروف قد لا تكون متوفرة لا في موريتانيا والجزائر ومصر واليمن، وأن البوعزيزي لم يخطر في باله أنه سوف ينتحر ليثور الشعب التونسي. صرف النضر عن هذه الحالات من الانتحار ألعدمي، وبأسلوب غير مسبوق في الثقافة العربية، في الجاهلية كما في الإسلام، أقول أن صرف النضر عنه، ومحاولة صناعة إيقونة الشهيد للبوعزيزي هو جريمة ربما أكبر إثما من فعل الانتحار بحد ذاته، لأنها تحاول عن قصد أم عن جهل صنع وهم جديد في أذهان هذا الشباب العربي الضائع، الذي فقد البوصلة، وسدت الحكومات في وجهة كل السبل، وخانته النخب العالمة، وترك ضحية تعبث بها مجاميع "فيس بوك" وتوتير الصهيونية. ففي كل موقع من مواقع الفيس بوك تطالع اليوم صورا، ومقالات تمجد البوعزيزي، وتريد أن تحوله إلى إيقونة مرجعية لما سمي بثورة الياسمين. ولا أستبعد أن يجعل منه الإعلام الغربي نهاية السنة، رجل السنة ليخلف صاحب الفيس بوك الذي كرم نهاية السنة المنصرمة. بوسعي أن أراهن، على أنه لو كان تصرف الشاب البوعزيزي غير هذا التصرف، ورد على إهانة الشرطية بعنف آخر، كقتلها أو محاولة قتلها، قم قتل، واندلعت ذات الانتفاضة، لكان الإعلام الغربي قد ألحقه بإرهابي القاعدة والجماعات المتطرفة. لكن لأن الفعل كان فعل يائس، ينتسب في مكوناته إلى الثقافة الغربية، فإن الإعلام الغربي يريد أن يحوله إلى قدوة، وقد لحق بالإعلام الغربي جزء من هذه النخبة العربية المتخبطة، التي عجزت حتى اليوم عن قيادة الشعوب العربية، في السلطة كانت أم في المعارضة. في المخيلة الغربية، يعتبر هذا الفعل ليس فقط حالة يأس يعير بها الحكام والنخب، بل بداية ارتداد المسلم عن عقيدته، وفقدان الثقة فيها، وهي عندهم أفضل بكثير حتى من ارتداد بعض الشباب عن الدين، والتحاقهم بالكنائس التنصيرية، وأن أعظم انتصار سوف يحتفي به الغرب هو يوم يكتب لهذه الانتفاضة التونسية التي أسست على رماد جثة الشاب المحترق، أن يكتب لها أن تنقل تونس إلى دولة ديمقراطية، بدل أن يحصل التغيير بأساليب النضال المشروع والشريف، أو أن تقودها نخب رافعة لشعارات وطنية أو إسلامية. تريد لهذه الأمة أن تحيى لا أن تنتحر. هذا ما تصدق بشأنه عبارة "اللعب بالنار" فهل يراد لنا أن نعيش عشرية جديدة على وهم التغيير بتكرار مشاهد حرق النفس، كما عشنا على عشرية بوهم التغيير بالأحزمة الناسفة، أو وهم البحث عن العبور لفردوس الغربي بزوارق الموت؟ والعجب كل العجب أن شيخا بمكانة وسمعة الشيخ القرضاوي الذي سكت وسكت معه كبار علماء الأمة عند السنة والشيعة على إنجازات المقاومة العراقية، ونظيرتها الأفغانية في إحباط المشروع الأمريكي وخذلوا الشعبين العراقي والأفغاني، فالعجب كل العجب أن يتدافع بعضهم اليوم لتمجيد فعل إنتحارى ما كانا ليمجد، حتى لو قاد إلى تحرير الأمة من النهر إلى البحر. لأن الشيء المحمود لا يمكن أن ينتج عن الفعل المذموم.