شكل الخطاب التاريخي الذي وجهه الرئيس الأمريكي باراك أوباما من قلب جامعة القاهرة إلى شعوب ودول العالم الإسلامي، تحولاً تاريخيًا ونقلة نوعية حقيقية في تاريخ العلاقات بين الولاياتالمتحدة والعالم الإسلامي والتي ظلت لعقود طويلة تتسم بالشكوك والتوتر وشحنة من الأحقاد بسبب الانحياز الظاهر والمعلن والكامل لمختلف الإدارات المتعاقبة على الحكم في واشنطن إلى جانب إسرائيل بكل الوسائل والإمكانات مما أدى إلى خلق أمر واقع مختل تعذر معه تحقيق الحد الأدنى من الحقوق العربية المشروعة. فجاء خطاب أوباما من القاهرة ليبعث بالأمل مجددا، وبوميض من النور في ظلمة حالكة دام أمدها، ويجعل من الخيال أمرا ممكنا، ومن الحقيقة ساطعة كسطوع الشمس في ضحاها. فهو فعلا خطاب اتسم بالشجاعة والجرأة والصدق والحكمة، حيث صحح الكثير من الأخطاء المتعمدة، والتصورات السلبية والمنطلقات العنصرية والأحكام المسبقة الظالمة التي ظلت تحكم السياسات والإستراتيجيات الأمريكية وحتى الغربية- اتجاه منطقة أنجبت أعرق الحضارات الإنسانية، وكانت مهد كل الأديان والكتب السماوية، وأعطت حضارة الإسلام فيها كل العلوم والمعارف التي انطلق منها الغرب ليحقق وثبة التحضر والتقدم. فالعالم الإسلامي يوفر العديد من المصالح الإستراتيجية الأمريكية الأمنية منها والاقتصادية والعسكرية ولكن السياسات الأمريكية ظلت تسير عكس طموحات دول شعوب هذا العالم إلى درجة أنها أصبح أكبر دولة مكروهة ومنبوذة من قبل شعوبه. فخطاب أوباما التاريخي جاء ليحرر صانع القرار الأمريكي والدوائر المؤثرة فيه من الأوهام والمخاوف تجاه العالم الإسلامي، كما أنه سيحرر شعوب الإسلام من الخوف من أن أمريكا لا تسعى سوى لتدمير الإسلام وحرق شعوبه. فالخطاب يُعد لحظة للصراحة مع الذات، ويفسح المجال واسعا أمام علاقات أمريكية-إسلامية مثالية، بناءة وهادفة تخدم الجانبين. ولا بأس هنا أن نقف عند أهم مضامين هذا الخطاب أو الرسالة : - الولاياتالمتحدة ليست في حرب مع الإسلام: وهذه حقيقة أكدها أوباما ليتجاوز بها الإرث النتن والمرعب لبوش الذي أدخل الولاياتالمتحدة في دوامة حروب هي في غنًى عنها كلّفتها الأموال الضخمة التي يبقى الشعب الأمريكي في أمس الحاجة إليها، بل وحطّم صورتها من دولة الحريات وحقوق الإنسان إلى دولة التعذيب ومعتقل غوانتنامو وتدمير الدول وقتل الشعوب والأطفال والنساء في العراق وأفغانستان. فالإسلام في خطاب أوباما هو دين للتسامح يدعو للفخر وهو ما تحتاجه الإنسانية اليوم. كما أشاد أوباما بإسهامات حضارة الإسلام في مسيرة الإنسانية ولهذا تعهد كرئيس أن يحارب كل الصور النمطيّة السلبية التي ألصقت بالإسلام. فقد برأ أوباما الإسلام من الإرهاب وبذلك صحح منطلقا خطيرًا ارتكزت عليه السياسة الأمريكية بعد هجمات 11 سبتمبر التي جعلت من الإسلام والإرهاب وجهين لعملة واحدة. ولقلب هذه الصفحة المؤلمة، شدد أوباما على أنه سيسعى إلى بداية جديدة على أساس الاحترام والمصالح المتبادلة بين الولاياتالمتحدة والعالم الإسلامي. معتبرًا أن الولاياتالمتحدة لم ولن تكون في حرب مع الإسلام. - حل الدولتين: حيث ركز أوباما في خطابه على جوهر الأزمة في المنطقة وهو الصراع العربي-الإسرائيلي. فبعد أن تكلم عن معاناة الشعب الفلسطيني في المخيمات لمدة ستين عاما وأنه "لا يمكن إنكار هذه المعاناة... والوضع الفلسطيني القائم لا يمكن القبول به" واعتبر أن الاستمرار في بناء المستوطنات من قبل إسرائيل لا يعد شرعيا، ألح هنا وبشدة على أن حل الصراع يكمن في قيام دولة فلسطينية وذلك لتحقيق السلام للجميع واعتبرها مصلحة لكل الأطراف بما فيها إسرائيل والولاياتالمتحدة كما أشار أوباما إلى حركة حماس التي تحظى بدعم الفلسطينيين لكنه أكد على أن علاقات أمريكا بإسرائيل قوية ولا يمكن أن تتزعزع وهنا يتضح أن أوباما يدرك مدى قوة ومكانة إسرائيل في السياسات الأمريكية تجاه المنطقة، فكان لزامًا عليه أن يشير إلى قوة العلاقات معها وأنها مستقبلا لن تتزعزع حتى بخيار حل الدولتين. -الانسحاب من العراق: بعد تأهيله وإعادته إلى أهله. فالولاياتالمتحدة حسب أوباما لا تفكر في البقاء العسكري مطولا في العراق. - الحوار الجاد مع إيران: حيث فضل أوباما لغة الدبلوماسية في التعاطي مع الملف النووي الإيراني مستبعدًا إلى حد ما لغة التهديد والوعيد والخيار العسكري. كما تضمن الخطاب العديد من الموضوعات ذات الأهمية كالديمقراطية، والتنوع الديني في المنطقة، والحريات والتعليم والصحة والمرأة. وهي قضايا تهم مستقبل العالم الإسلامي. وعلى الرغم من ردود الفعل المؤيدة والمهللة أو الحذرة لهذا الخطاب فإن من الأهمية الإشارة أنه جاء ضمن عوامل موضوعية دفعت بصانع القرار الأمريكي إلى انتهاج لغة الدبلوماسية الناعمة. فالوضع الاقتصادي الأمريكي في وضع حرج ولا يخفى على أحد الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالعديد من القطاعات الاقتصادية الأمريكية المالية والتجارية وغيرها. كما أن الإنفاق العسكري الذي يتجاوز سنويا 400 مليار دولار أصبح بلوعة كبيرة للأموال دون أن يكون له نتائج على حياة المواطن الأمريكي، فالولاياتالمتحدة تعيش اليوم مأزقا حقيقيا وبدأت تشعر بعوامل الضعف والوهن تدب في كيانها. مما يستلزم دبلوماسية ناصعة وإنسانية تعيد الصورة الإيجابية للولايات المتحدة. فالمسلمون والعرب شعوبا وأنظمة بحاجة إلى استيعاب حقيقي لمضامين هذا الخطاب وللثورة التي يقودها أوباما، والتجاوب معها بطريقة عقلانية ذكية ورشيدة بعيدًا عن لغة الرفض العقيمة أو التهليل العاطفي السلبي فلابد من تحرك عربي وإسلامي موحد لتحقيق الحد الأدنى من المطالب الإسلامية والعربية بما يضمن علاقات عربية وإسلامية مع أمريكا متوازنة ومبنية على الاحترام المتبادل والتعاون المشترك. فالعالم الإسلامي بحاجة إلى أمريكا كقوة عظمى تمتلك الكثير من مفاتيح القضايا والقرارات الدولية كما أن أمريكا بحاجة إلى العالم الإسلامي الذي يمتلك الكثير من المزايا ولا يمكن تصور استمرار نفوذ القوى العظمى دون علاقات مع هذا العالم. فخطاب أوباما يفتح آفاقا واعدة أمام علاقات إيجابية بين العالم الإسلامي وأمريكا لطالما انتظرها الجميع، تكون متوازنة ومبنية على الاحترام المتبادل والتعاون المشترك، وتتجاوز الأحقاد وثقافة الكراهية. فالخطاب جميل جدًا، والشعب الأمريكي ارتاح له كثيرًا وكذلك الشعوب العربية والإسلامية، لكن تنفيذه في الميدان يبقى مرهونًا بمدى استعداد إسرائيل ومن ورائها اللوبي الصهيوني في أمريكا للقبول به !! الأزهر محمد ماروك