لا شك أن لكل فئة اجتماعية داخل أي تجمع حضاري مجموعة من الممارسات الثقافية والدينية والاقتصادية والمناخية، وإنتاج هذه المجموعات في الغالب يكون خاضعا لهذه الممارسات، والعمارة من الإنتاج الإنشائي الذي يخضع لهذه الممارسات ذات الأبعاد المتعددة. وهي نتيجة لتفاعل بينها وبين المحيط الذي وجدت فيه من جهة وبينها وبين ثقافة المجتمع التي أنتجها. وبعد إنتاج أي نموذج معماري والذي يكون أسيرا لمنظومة القيم الثقافية فإن المسألة تصير متعدية، بحيث يأسر هذا النموذج بأساليبه وإنشاءاته الأفراد والجماعات. فمن خلال الإنتاج المعماري لأي مجتمع ما، يمكن أن نتعرف على الملامح العامة لهذا المجتمع، عاداته وتقاليده ومعتقداته، غير أن الأمر لا يكون بسيطا إذا كان هذا الإنتاج المعماري خاضعا لممارسات ثقافية دخيلة عليه وغربية عن دينه وعاداته وتقاليده، وهذا ما حدث بالفعل لكثير من المجتمعات الإسلامية حين داهمتها موجات الاستعمار الأوروبي الغربي. ففرضت عليها ثقافتها وأساليبها في البناء فصارت عمارته عمارة هجينة، هجانة ثقافته، وتصدعت منظومتها الفكرية بأبعادها المختلفة، ومع ذلك فإن النموذج الغربي لم يستطع التأثير على بعض المجتمعات السكانية بفضل صرامة نظامها الاجتماعي وبفضل انغلاقها على نفسها، وبفضل ابتعادها عن المناطق المدنية الكبرى، وأحسن دليل مدن ميزاب التي لا زالت تحافظ على شكلها العام الذي خطت عليه منذ العصور الغابرة، وأيضا لا زالت تخضع إلى منظومة فكرية اجتماعية صارمة، لم تؤثر فيها حملات الغزو والتغريب. وإيجاد العلاقة بين الفعل المعماري والممارسة الاجتماعية يقتضي منا تحديد واختيار النموذج العام أوالدائرة الكبرى التي تدور في فلكها النشاطات الاجتماعية والدينية. المدينة إطار حياتي وإنتاج اجتماعي تاريخي وعمل فني تحمل جمالا وأدبا، تنتج إيديولوجية في النمط الحياتي وفي إعادة إنتاج العلاقات. المدينة منطقة مفتوحة يخلق فيها الإنسان الحديث، فهي وسط إنساني، ملتقى الغرباء، وهي مصنع اجتماعي، وورشة لتغيير الإنسان وتحويل كل قيمة جمالية وأخلاقية إلى قيم مادية، بتحللها إلى محض بضاعة يمكن شراؤها من المتاجر ، فيصبح الجميل في باريس هو الجميل في جميع المدن الأخرى ، وقبيحها قبيح الآخرين، بما معناه تحول باريس إلى معيار مطلق ومحوري تقيس عليه نفسها بقية المدن الأخرى ، وهذا هو الخطأ، لأن الجمال مفهوم علائقي ولا يتحدد حكم القيمة لديه إلا ضمن سياق تفاعلي لهذه العلاقة المنتجة، فالجمالي مرتبط ومتحول داخل وضمن حقبة معينة ومجتمع ما . إن الجمال ليس ولا يمكنه أن يكون قيمة ثابتة ونهائية للشيء الجميل، إنه تأسيس اجتماعي. الكثير من المدن المسماة مدن بإسقاطها على محورها الإحصائي، قائمة على شبكة من العلاقات القروية وتدار بفعل وجود مجموع قروي ينتمي إلى قرى اتفقت على الالتصاق لتكوين قرية كبيرة تتضمنهم، وتؤمن لهم الوفرة في الغذاء، أي العيش من أجل الأكل، فهوية الفرد في النظام القروي متماهية عشوائيا مع ما هو معد مسبقا لأن يكونه، مندمجا بجملة العقائد والخرافات والقوانين المطلقة التي تسيرهم في قالب قطيعي صلب، بحيث يشكل كل خروج عن هذه المنظومة القطيعية، خروجا عن المقدس القروي، لذلك يترتب على المدينة كمجال للاستقلال الذاتي، أن تؤمن للفرد إمكانية التحرر من خطاب الآخرين في تعيناته الذاتية، ويتعذر تحقيق هذه الإمكانية ببقاء تدوير النظم القروية في المدن الإحصائية، مما يستدعي التحرر من هذه النظم، بتأسيس المدينة وفقا للتفكير والسلوكات الإدراكية التي تمتد إلى المادة، لتظهر فيها قدرتها على التفكير، القدرة التي ستشيد المكان تشييدا ينسجم ويكون العقل المؤسس.