إن الاختلالات العميقة التي تميز الوضع الراهن للمجتمع الجزائري وفي شتى المجالات، نتيجة منطقية لتفاعلات وتراكمات حضارية مختلفة. فباستثناء مرحلة الفتح ونشر الديانة الإسلامية التي تمت في زمن قياسي، بفضل اعتناق الأهالي لها والمساهمة العملية في بسطها ونشرها داخل وخارج الديار. هذه المرحلة التي تعتبر بحق، فترة عولمة ايجابية تختلف عن تلك التي يروج لها حاليا، المتميزة بالقطبية الأحادية وهيمنة النموذج الأمريكي، فكرا وممارسة. أما ''العولمة الإسلامية'' فقد أتاحت الفرصة لكل المجتمعات صغيرة كانت أو كبيرة، متحضرة أو بدائية، ذات دين أو وثنية، لتساهم بما توفر لديها من إمكانات مادية وعقلية، في بناء الحضارة الإسلامية الكبرى. فإذا استثنينا هذه المرحلة، فان المجتمع الجزائري على وجه الخصوص، قد مر بمراحل اجتماعية وسياسية، كان فيها مغيبا وخارج الحركية التاريخية الضرورية لصهر وتشكيل عناصره المتجانس منها والمتنافر، والتي يعرف بها وتميزه عن باقي الأمم والشعوب، كالرقعة الترابية المحددة (الوطن) واللغة والدين وبقية السمات المورفولوجية والمقومات الانتروبولوجية. الماضي وعقدة الاستعمار إن حالة التبعية للقوى الخارجية التي هيمنت علينا ردحا من الزمن، هي في نظرنا، السبب الجوهري الذي أفقد المجتمع الجزائري مناعته الحضارية وجعل منه كائنا هجينا وهزيلا لا يقوى بشكل دائم ومنتظم، على المقاومة والمحافظة على خصوصياته. وهو عكس ما ذهب إليه بعض المؤرخين والمفكرين ذوي النزعة الاستعمارية، في دعواهم المغرضة، بالتأثير الايجابي للموروث الحضاري المتنوع الذي يميز المجتمع الجزائري، ويقصدون بذلك، التأثيرات الأوربية كما يدعي شارل أندري جوليان. ذلك، أن طبيعة الجنس الأوربي تحديدا، الذي ابتلينا باحتلال بعض شعوبه لنا، قبل الفتح وبعده. فبالإضافة إلى الذهنية الوثنية والبدائية (...) التي تميز سلوكياته المترسبة في وعيه الباطني الضارب في القدم، والمتسمة بالفظاظة والشراسة والانتقام، فهي شعوب حديثة العهد بالديانات السماوية وبعيدة نسبيا، عن منابع الحضارات القديمة، باستثناء الحضارة الإغريقية - الهيلينية، التي يغلب عليها الطابع الوثتي الميثولوجي. فضلا عن ذلك، فإن الحملات الاستعمارية الحديثة، كانت ذات أهداف مادية - توسعية يدفعها تعصب ديني أعمى. وهو ما جعل الإنسان الأوربي باسم التمدن والرقي الحضاري، لا يحجم عن ارتكاب أبشع التجاوزات وأفضع الجرائم في حق الشعوب المستعمرة عموما. فالاستعمار الفرنسي ذي الطابع الاستيطاني، بصم وجوده بأرضنا ببصمات مازالت آثارها المدمرة ماثلة إلى اليوم. وإنها لباقية كأجسام غريبة تنخر جسم المجتمع الجزائري، ما لم تتم معالجتها معالجة موضوعية وموضعية؟! وهو ما يقتضي من السلطات الاستعمارية الفرنسية، الاعتراف بجرائمها في حق الشعب الجزائري منذ ,1830 والاعتذار له بصفة رسمية وعلنية. مع التزامها بصرف تعويضات مادية لضحايا الأزمة الوطنية (..؟..) لأنه ثبت تاريخيا، أن الأزمة- الفتنة التي عصفت بالجزائر، هي أزمة هوية متعددة الأبعاد. هذه الهوية التي عملت السلطات الاستعمارية وبكل الوسائل، على طمسها وتشويهها ومسخها طيلة 132 سنة. كما أنه ثبت بأكثر من دليل، ضلوع جهات فرنسية رسمية، في تشجيع وتدعيم حالة التمرد والعصيان والعنف التي شهدتها الجزائر سياسيا واقتصاديا وإعلاميا، قبل وبعد توقيف المسار الانتخابي. الحاضر والسيادة الوطنية المنقوصة ولتنفيذ هذا المسعى، أي استكمال عناصر السيادة، فإن اتفاقية الصداقة المزمع إبرامها منذ العام (2005) بين البلدين، هي الإطار الأمثل لطرح هذه المطالب كدليل عملي يعكس ''النية الحسنة'' لفرنسا، بغية طي ملف الماضي وفتح صفحة جديدة من الصداقة والتعاون بين الشعبين. هذا، ولقد تحملنا من أجل السيادة الوطنية الكاملة، كل أنواع الابتزاز والامتهان، من خلال ما احتوته بنود ''اتفاقيات إيفيان'' من شروط تعجيزية، لكي تستمر هيمنة فرنسا اللغوية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، بعد خروجها. وهي الجوانب التي مازالت أطراف مستلبة، تحاول استثمارها والتشبث بها متذرعة بأسباب واهية ووهمية لا يقبلها عقل ولا يستسيغها منطق. لقد حان الوقت للمعاملة بالمثل، فنملي بدورنا، شروطنا بكل حرية وسيادة. ذلك، أن ارتباطنا بفرنسا وبالرغم من توفر عدة عوامل اجتماعية وجيو- سياسية واقتصادية ملائمة، إلا أن استمرار الذهنية الاستعمارية ومنطق ''الرعية'' لم يثمرا علاقات جدية وجادة، تكون في مستوى الآمال والتطلعات المنتظرة. ذلك، أننا لم نجن من هذا الارتباط القسري، إلا الأزمات والفتن وعشرات السنين من التأخر والتبعية التي تعتبر استعمارا جديدا واستمرارا لفترة الاستعمار البائد. فهل وصلت بنا الضعة والمهانة وسوء التفكير والتدبير، درجة تكرار ما حدث في ''إيفيان''. فأين السيادة وأين مصالح الجزائر، إذن؟!! كتابة التاريخ والذاكرة المشوهة وفي هذا السياق، نشير إلى الصراع الخطير والمحتدم على مستوى الأشخاص والمؤسسات العلمية المتخصصة أو الغير المتخصصة، في كتابة تاريخ الجزائر، وما يلاحظ عليه من سيادة منطق السلطات الفرنسية الاستعمارية، وطغيان نظرتها المتحيزة والمشوهة لمجريات الأحداث. خاصة، فترة الثورة التحريرية. إن هذه الحرب التي أرادت السلطات الاستعمارية استمرارها بعد نصر ,1962-03-19 مردها في تقديرنا، إلى حالة الحصار المضروب على الوثاق الأساسية لتاريخ الجزائر القديم منه والمعاصر. أما عمليات النهب المنظم التي طالت ''تاريخنا الطبيعي وعادياته'' مدة وجود المستدمر، من آثار وتحف وحفريات، فتلك حالة أخرى لا نكاد نسمع لها ذكرا أو حديثا. إذن، فالمصالحة الوطنية الحقة، هي تلك التي تعمل على التثمين والتجسيد المتجانس للقواسم المشتركة لذاكرة الشعب الجزائري الجماعية ، انطلاقا من استعادة تراثه وآثاره ووثائقه كاملة غير منقوصة. وهو مطلب لا مهادنة فيه أو مساومة. بل، انه جزء لا يتجزأ من السيادة الوطنية التي أريقت من أجلها دماء ملايين الشهداء، فهل يستقيم الظل والعود أعوج؟!! الذهنيات الطفيلية إن هذا التشخيص المتواضع والمبسط ذي الطابع الوعظي أحيانا، انعكاس طبيعي ومحبط في نفس الوقت، لما يتصف به مجتمعنا حاليا، من تناقضات وصراعات طفيلية، طغت على ما يجب أن يكون عليه من جدية وانضباط في كل مناحي حياته اليومية ومشاريعه المستقبلية، واكتفائه المذل بفتات ونفايات المجتمعات المتقدمة، تسيطر عليه في ذلك، ذهنية سقيمة ومعطلة لقدراته العقلية والجسمية معا. فالجزائري ولأسباب وعوامل تاريخية متراكمة، تحول إلى كائن اجتماعي مستهلك لكل شيء ولا يستنكف من أن يعيش عالة على غيره ولو بالابتزاز والرشوة (...). فهو لا يعرف حدودا أو قيودا إذا ما تعلق الأمر بالتحريف الوظيفي لملكاته وقدراته التي وهبه إياها، الخالق سبحانه وتعالى. فهل هذا طبع فينا أم تطبع ؟! و ما علاقتهما بالمصالحة والعفو. هذا العفو، الذي لا ينبغي أن يكون شاملا بل، جزئيا. بحيث يمس قضايا محددة في الزمان والمكان. ومتدرجا، بحيث يتناول الأهم فالمهم، تماشيا مع التطور الحاصل في المجتمع ومدى نضج ومرونة ميكانيزمات استيعابه وتقبله. ذلك، أن المجتمع مهما كان مستوى وعيه وصلابة مؤسساته، فهو خاضع لاإراديا، لمجموعة معقدة من العادات والتقاليد الدينية والاجتماعية والمعرفية، تتحكم فيه وتوجه أفعاله وتصرفاته في مقاومة مستميتة لكل ما هو دخيل أو غريب ''يغزو'' المجتمع فجأة ودون استعداد أو تهيئة، فتكون النتائج عكسية. ولنا في ذلك، عدة أمثلة، أقربها منا وأشدها وطأة علينا، حركة ''الصحوة الإسلامية'' التي لجأ بعض قيادييها إلى وسائل وأدوات غريبة عن الرسالة المراد تبليغها. وهذا، بتجاهل الأوضاع الراهنة المجتمع الجزائري ومكوناته النفسية والاجتماعية. وكذا، موروثه الديني والتاريخي، مما أعطى خصومهم مبررات كافية، لمعاداتهم ثم حربهم بكل الوسائل. فطغى في ذلك كله، الهدم على البناء، فلم نر إلا الفتنة موئلا والتطرف معولا ؟!! إن الذي يعاني منه مجتمعنا ليس طبعا فيه ولا تطبعا. فالطبع فطري والتطبع مكتسب، وهما سجيتان متكاملتان لدى الإنسان السوي. نتيجة ظروف تنشئته وتمثله الاختياري لمجموعة من التأثيرات (القيم) الثقافية والحضارية، تميز شخصيته وهويته الاجتماعية...إنما هي أجسام غريبة، مدسوسة في ثنايا ''اناواتنا''، وحيث لا نملك أحيانا، أدوات استئصالها أو التغلب على تأثيراتها، فإنها تطغى على سلوكياتنا وأفعالنا، فتظهرنا بمظهر المريض بالعته أو ما يمكن نسميه تجوزا، الجنون الحضاري، حيث يعتقد المصاب بهما، أنه يحسن صنعا وهو أضل سبيلا !! هيبة الدولة والمنظومة التشريعية فما هي إذن، هذه الأجسام الغريبة التي نراها تعيق مشروع المصالحة وتعكر جو العفو، الذي يريده البعض شاملا، في معاكسة سافرة لتيار الحقيقة والواقع، وعلى حساب ثوابت الأمة من وطن ودين ولغة وتاريخ مشترك... قد يقول قائل، إن المصالحة والعفو لا يكونا إلا شاملين، وإلا ما جدواهما؟! وللإجابة نقول، إن العقوبة في حد ذاتها، تطهير ومصالحة ذاتية وموضوعية، تحد من ''غرور'' بعض الإطراف وتمحو ''نوايا'' البعض الآخر، في الانتقام وفرض قانون الغاب، لتستمر الحياة ويشعر كل واحد بسيادة القانون ومصداقية العدالة، وما سطرته من قوانين ونصوص تشريعية مستمدة من الدستور وكل المدونات القانونية للجمهورية الجزائرية، ولا ينبغي بأية حال من الأحوال، خرقها أو تعطيلها، لتسوية مشكلة ظرفية، تزول تلقائيا بزوال الأسباب والدواعي. نقول هذا، لان إجراءات العفو الأخيرة، قد حددت بشكل دقيق ومفصل، مجالات التطبيق والاستفادة منها. بحيث شملت كل الجوانب والقضايا التي يعرفها قانون الحق العام وتفرعاته في ميدان مكافحة الجريمة بمفهومها الواسع. لذلك، فإن الحكمة والتبصر، تقتضيان المحافظة كلما كان ذلك ممكنا، على هيبة الدولة ومصداقية تشريعاتها وقوانينها، وهذا، بعدم إخضاعها إلى القرارات الشخصية أو المزاجية الظرفية. شبح ''الطابوهات'' التاريخية والسياسية إن الذين يدعون غير مخلصين، لمصالحة وطنية وعفو شامل تمحي فيهما وبجرة قلم واحدة، كل''الطابوهات'' والتصنيفات التاريخية والسياسية، أناس اعتادوا القفز على تضحيات الأجيال ومعاناة الرجال. إذ لا يصح طبيا مثلا، تضميد جروح متعفنة، راجين شفاءها واستعادة وظيفة أعضائها المصابة. إن مثل هذا العلاج يؤدي لا محالة وفي أحسن الأحوال، إلى بتر العضو المريض ولا نستبعد انتشار أعراضه إلى أعضاء أخرى سليمة. فمصالحة ''الأقدام السوداء'' و''الحركى'' الذين اقتفوا آثار أسيادهم صيف ,1962 والعفو عن أفعالهم الإجرامية، قضايا محسومة ولا يجب أن تعالج في هذا المسعى. فبموجب ''اتفاقيات ايفيان'' المبرمة بين الحكومة الجزائرية المؤقتة وفرنسا الاستعمارية في,1962-03-19 تم غلق ملف هاتين الفئتين، ولا مجال لعودتهما إلا كأجانب. كما لا يسمح للمنتسبين إليهما، ممارسة أي نشاط مهني على مستوى التراب الوطني، باعتبارهم أشخاصا ذوي سوابق بمفهوم الشارع الجزائري ومجرمين في حق الإنسانية بمفهوم القانون الدولي. أما أولئك الذين فضلوا البقاء في وطنهم كعربون تكفير عن خطاياهم في موالاة المستدمر ومعاداة أهلهم وذويهم، فبالرغم من هذه الصفة الظاهرة والغالبة عليهم، فان الكثير منهم قدم خدمات جليلة للثورة. بل، إن بعضهم تم تجنيده بمباركتها، عينا وعونا لها. لذلك، فإنهم مواطنون عاديون، يتمتعون بكل حقوقهم المدنية منها والسياسية ولا مبرر إذن، لإقحامهم في متاهات الجدل القائم. مصداقية الثورة التحريرية وفي هذا الصدد، نشير إلى العقوبات الجماعية التي نفذتها قيادة الثورة التحريرية، في بعض العناصر أو المجموعات السكانية، المشتبه في انتمائها آنذاك، إلى جهات معادية للثورة. خاصة، بالولايات التاريخية الثالثة والرابعة والسادسة. ففي إطار ترتيبات العفو والمصالحة مع الذات، وللقضاء على كل العوامل المتسببة في استفحال ثقافة العنف والكراهية بين أبناء الوطن أو الجهة، فان الظرف مناسب للقيام بإجراءات عملية، يتم من خلالها رد الاعتبار ولو معنويا، للمتضررين من هذه الأحداث. خاصة، وأن المتسببين فيها قلة قليلة، لم يعد أكثرهم موجودا. أما الذين يعانون آثارها وهم الأغلبية من جيل الاستقلال، فإنه من الخطأ أن تستمر معاقبتهم معنويا، وبأثر رجعي، على جرم لم يقترفوه. سواء بحكم سنهم التي لا تسمح بتجريمهم آنذاك، أو استحالة ثبوت التهمة ضد بعض الراشدين منهم. إن المعالجة الشجاعة والمسؤولة والحكيمة أيضا، لهذه الأحداث المأساوية التي مازالت جراحها تدمي إلي يومنا هذا، هي أكبر معضلة يجب الإسراع في حلها، كعمل إنساني، يدخل في صميم المصالحة الوطنية. كما انه في نفس الوقت، كتابة جديدة وصحيحة لهذه الأحداث التي اكتنفتها روايات غامضة ومحرفة، شوهت مع الأسف، تاريخ الثورة العظيمة. وخلاصة القول، يجب أن نقر بأن الثورة التحريرية، كانت فعلا، عظيمة وصارمة، يوم كانت الصرامة والانضباط شعارها والسرية والكتمان سلاحها. واليوم، وقد تحقق أهم ما كنا نصبوا إليه من حرية وسيادة، فما يمنع أن يكون الوطن عظيما ورحيما، يسمو فوق الجميع، فيأخذ بيد أبنائه الذين ضلوا الطريق بالأمس واليوم، ثم ثابوا إلى رشدهم، فتابوا وكان ربك توابا رحيما !! هذا، وقد تتسنى لنا العودة بشيء من التفصيل والتوثيق، إلى باقي ''المحاور الأساسية'' الضرورية لبلورة قيم السلم والمواطنة الإيجابية المجسدة للشخصية الوطنية، من لغة و تعليم وإعلام وإدارة و قوانين وقضايا ثقافية جوهرية، ما فتئت آثارها السلبية تسفه أحلامنا وتقزم طموحاتنا من أجل تحقيق مجتمع منسجم ومتكامل، نعي فيه أبعادنا ونجسدها دون وسيط أو رقيب. فهل ذلك، عزيز على جزائر العزة والكرامة ؟!