شهدت القرون الوسطى بأوروبا، موجة صاخبة مع انتشار المسيحية وتبوئها مكانة رفيعة لدى الملوك، فغدت سلطة البابا أقوى وأرفع شأنا من سلطة الملك نفسه، وأصبح الفاتيكان أقوى دولة في عالم المسيحية. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية ووضعت أوزارها، عاد العالم للحديث عن منظمة جامعة ظهرت على أنقاض عصبة الأمم، حملت اسم ''منظمة الأمم المتحدة'' فاعتبرها البعض أقوى دولة في العالم، نظرا لهيبتها وغناها وسلطتها الكبيرة في إدارة الحروب والأزمات العالمية، لكن سرعان ما تغيرت الأوضاع والتسميات ليكتشف العالم سيدا جديدا وبلا منازع يملك كل الصلاحيات في تأليب الرأي العام الدولي وتهدئة النفوس وترقية الأمم: إنّها دولة '' الفيفا''. نعم دولة الفيفا بكل ما تحمله هذه العبارة من معنى، وإلا كيف يمكننا تفسير ما يحدث اليوم في العالم، الذي ترك إدارة شؤونه الخاصة إلى إشعار آخر، وهذا الإشعار تحديدا هو تاريخ 11 جويلية المقبل بحول الله، أي تاريخ نهاية بطولة العالم في كرة القدم. ونحن على هذه الحال، لم يخطر على بال أحد، بأنّ الآمر والناهي (فيفا) صاحب السلطة العليا ولو ببلد الأسطورة الحية نيلسن مانديلا، سيتعرّض مقره للسرقة بجوهانسبورغ.. نعم لسرقة أجهزته الإعلامية بشكل خاص، وهنا تحديدا يحضرني سؤال أحد الأصدقاء لي قبل بداية المونديال قائلا: لماذا يوجه الجميع (يقصد الغرب بالدرجة الأولى) أصابع الاتهام لدولة جنوب إفريقيا بخصوص عدم قدرتها على تأمين البطولة العالمية الكروية بشكل عام؟، لحظتها لم أجد ما أجيب عنه سوى القول بأنّ الغرب يغار من الأفارقة ولم يهضم لحد الآن فكرة احتضان جنوب إفريقيا لبطولة كأس العالم، إلا أنّ الحقيقة المرّة غير ذلك على الإطلاق فالمسألة متعلقة بالجانب الأمني، نظرا لتفشي الجريمة بجنوب إفريقيا بشكل ملفت للنظر، وهو ما تجلى فوق أرض الواقع بعد أن تعرضت البعثة اليونانية للسرقة بداخل الفندق الذي كانت تقيم به وكذا الحال للبرازليين، والأخطر والأدهى والأمّر هو سماعنا نبأ تعرض رئيس شرطة بريتوريا للسرقة؟ هل يعقل هذا الأمر؟ بالطبع لا إلا في حال تعنُّت المنظمين وإجماعهم على عدم إعادة النظر في المسألة الأمنية، التي أصبحت تشكل هاجسا حقيقيا للمواطنين والدولة بشكل عام.. وأعتقد في الوقت ذاته، أنّ مستوى المراقبة والردع وجب تبنّيهما بشكل جدي من طرف المنظمين وتحديدا الشرطة الجنوب - إفريقية. إنّ سمعة نجاح فعاليات كأس العالم هي من سمعة دولة جنوب إفريقيا ، بل القارة السمراء قاطبة، المفروض على المسؤولين السعي جديا من أجل إنجاح المشروع الذي كان لزمن طويل مجرد حلم بالنسبة للأفارقة، وها هو اليوم يتجسد فوق أرض الواقع باحتضان جنوب إفريقيا للبطولة العالمية. الجميع يعرف بأن معدل الجريمة جد مرتفع بجنوب إفريقيا، رغم المحاولات المتكررة للدولة جنوب- إفريقية من أجل إنجاح هذا التظاهرة وتكثيف الجهود والتنسيق فيما بين المصالح . الفيفا وهي نموذج مصغّر للعالم، تدخل المنافسة الدولية للدفاع عن أفكارها من جهة ومتابعة الملف الأمني للحيلولة دون الحديث عن جرائم أخرى تنقص من قيمة العمل والقائمين عليه، فهل ستظل فيفا على هذه الحال، وتقبل وترضخ للأمر الواقع بتبني مجموعة من الطروحات وهو أمر ليس بالهيّن، أم أنّها ستتخذ الإجراءات اللازمة التي ستكفل لها (أي الفيفا ) حفظ ماء الوجه؟.الحديث عن الجريمة بكأس العالم، هو في حدّ ذاته أمر مقزّز ومرفوض من أساسه، لاستفحال هذه الظاهرة وتفشيها، حتى أنّها كانت سببا مباشرا في غياب السند الإقناعي الصحيح، لكن ومع ذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار بأن الجريمة تقتص من جذورها.مملكة الفيفا عمدت إلى المصادقة عن أشياء جديدة، كانت بمثابة '' دستور الخفاء'' فالمتمعن لهذا النموذج المصغر، سيكسب ربما أصحابه الكثير من الصداقة، في ما ننطلق نحن بمطالبتها بالاحتكام للعقل.أما وقد وقع الفاس في الراس ، فليس هناك مجال للعتاب، بل هناك حيّز معتبر لاستقبال الأبطال. للعودة للحديث عن ظاهرة الجريمة، فإننا نلفت نظر القائمين على تنظيم مونديال 2010 بجنوب إفريقيا، بأن الحدث العالمي يدور حول هذه الآفة، خاصة أمام تردي مستوى القدرة الشرائية، كما أنّ ظاهرة الجرائم أخذت موقعا هاما في الحياة اليومية ولم تخرج عن القاعدة للاستثناء، بما أنّ مقر الفيفا قد تعرض للسرقة، بينما تعرض بيت رئيس الشرطة بجوهانسبورغ للسرقة أيضا، ليبقى السؤال الكبير المطوح: من يحمي من بأرض مانديلا..؟.