استعد المسلمون في مختلف بقاع العالم لاستقبال شهر رمضان بما له من قيمة دينية واجتماعية. ويشيع بيننا شائعة مدعاة ووهم فاسد وهو أن رمضان شهر التراخي والنوم والكسل، رغم أن ذلك يتنافى مع قواعد العقل وأدلة الشرع، ومن ثم يتخففون من العمل، ليخلدوا إلى الراحة ويتفرغون للهو والمسليات، والعمل القليل الذي يؤدونه يشوبه كثير من القصور والتفريط، ويصاب الصائمون بضيق الذرع وضيق الصدر بمن حولهم ومن يتعاملون معهم بحجة أنهم صائمون. وهناك من يفضل التفرغ من عمله، ليتأهب ويستعد للعبادة فقط، ولا مكان عنده للعمل في هذا الشهر، فهو شهر العبادة، والعبادة فقط، وهو فرصة تتضاعف فيها الأعمال، وتشحن فيها الهمم، ويزداد فيها الإيمان، ويتزود فيها المسلم لباقي العام، ومن ثم ينصرف عن عمله ولا يلقي له بالا. وهناك من يتخفف من عمله الكسبي لا ليعبد الله، ولكن ليصرف وقته أمام التلفاز واللهو والنوم والعبث، حتى يمر الوقت وينقضي الشهر دون أن يشعر بألم الجوع أو مرارة العطش. وكأن الدين أفيون الشعوب يُسْكِرُهم ويجعلهم يخلدون إلى الراحة والدعة والكسل، بل هو الذي خرّج أجيالا وربى أمة وصنع حضارة عمرها أكثر من أربعة عشر قرنا. والعمل والعبادة لا يفترقان في التصور الإسلامي، ولا يتعارضان بل كلاهما يستدعي الآخر ويتطلبه، لأن العبادة عندنا عمل والعمل عندنا عبادة، فالعمل في لغة القرآن مقرون بالإيمان، فلا تكاد تجد آية فيها عمل إلا مصحوبة بالإيمان، أو إيمانا إلا مصحوبا بالعمل. ومن هنا فالإيمان والعبادة مقرونان بالعمل، فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بغير إيمان، وإذا كان العمل عبادة فلا تعارض بين العمل والعبادة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجمع بين العبادة والعمل انطلاقا من هذا التصور الإسلامي، فلم يُرْوَ عنه قول أو فعل أو تقرير يجعل العمل والعبادة متعارضين بل العكس هو الذي روي، وأحيانا يرفع العبادة التي تمتلئ بالعمل والحركة على العبادة التي يتمحض فيها معنى التعبد ويقدمها عليها، بل إن رجلا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أحيٌّ والداك؟ قال نعم، قال ففيهما جاهد. ليس صيام نهار رمضان مجرد امتناع عن الطعام والشراب والشهوة الحلال فحسب بل هو اتباع نظام متكامل وتطبيق برنامج شمولي يشمل النواحي الجسمية والروحية والنفسية والاجتماعية وذلك لارتباطها جميعا مع بعضها بعضاً تأثرا وتأثيرا. أما النواحي الجسمية ففوائدها معروفة ومنافعها محسوسة يشهد بها العامة، وكذلك النواحي الروحية والسمو بها والارتقاء اليها من صلاة وذكر ودعاء وعمل للخير وصلة للرحم وغيرها من طرق التقرب الى الله تعالى. أما الجوانب النفسية وهي ما تتعلق بالمشاعر والعواطف والانفعالات وانعكاس ذلك على أنماط سلوكنا وعلاقاتنا مع الآخرين، فهي مهمة في الصحة النفسية والتوازن النفسي فإن إعادة تقويمها مع تكرار ذلك شهرا كاملا كل عام كل ذلك يشيدنا قوة وحصانة، فتركها هكذا بدون ضابط أو موجه أمر لا تؤمن غوائله ولا تتقى سلبياته وأخطاؤه وقد تنحرف أو تزيغ بدرجة لا يستطيع معها إيقافها أو منعها. كما أنها ليست عملية كبت بالمفهوم النفسي للكلمة، اذ إنه يعني منع الانفعال والتوتر مع العجز عن مواجهته والهروب منه بنسيانه وانسحابه إلى اللاوعي، فيكون تأثيره عن طريق اللاشعور سلبيا وسيئا، أما في حالة الصوم فهو تحرير للنفس من الصراعات النفسية والتوترات الغضبية حيث إنه يهذبها ويصفيها ويمنعها من أن تتحكم في صاحبها، فيزداد بذلك سموا ورقيا. وهي أيضا عملية تقدير للذات وتعزيز للثقة بالنفس من خلال ممارسة قوة الإرادة في التحكم والسيطرة على العواطف وإشباع الحاجات الأساسية، وبذلك تؤدي إلى الشعور بالراحة والرضا بالنفس بعد إرضاء الله تعالى مما يزيدها توازنا واستقرارا، فلا يبقى للقلق مكان ولا للكآبة والحزن نصيب في نفوس الصائمين. والجانب الاجتماعي مكمل للجانب النفسي وانعكاس له، نرى أن الصوم يوفيه حقه من خلال العبادات الجماعية والمظاهر الاجتماعية العامة للصوم والحث على التزاور وصلة الرحم وعمل الخير بكل جوانبه وإشاعة روح التسامح والألفة والمودة والرحمة بين الصائمين. كما أنه يحرر الصائم من الخضوع للعادات والقوالب الاجتماعية فيغيرها عند الصوم فيتغير جدوله اليومي والتزاماته تبعا لذلك وفيه من التجديد ما فيه. الصوم مدرسة نتعلم منها وفيها كل ما ينفعنا ويهذب مشاعرنا وأحاسيسنا ويبقي نفوسنا بتوازنها واستقرارها ويجدد فينا عوامل الخير والرحمة وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ''الصوم جنة .