قال ابن خلدون في أهمية القيم الخلقية في حياة الإنسان: (إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة). إن العالم مقبل على تحول أخلاقي جذري بتأثير التحولات المتلاحقة التي يشهدها في الحياة الفردية والاجتماعية، لأن هذه التغييرات تفرز ضرورة معايير أخلاقية جديدة. لا تقتصر العولمة على تعميم القيم الاقتصادية وأنظمتها، بل إنها أخذت فعلا تعمم القيم الثقافية التي تكون لب حياة المجتمع، وبخاصة القيم الأخلاقية والدينية منها، وما تؤدي إليه من سلوك فردي واجتماعي هي الأرضية التي تقوم عليها أنماط السلوك الاجتماعي، وهو ما يمثل الحياة الثقافية في مجملها، باعتبار أن الثقافة طريقة لرؤية العالم والتعبير عنه. والثقافة التي تملك وسائل الاتصال القوية ووسائل صناعة الثقافة والرقابة عليها هي التي أخذت تهيمن اليوم عن طريق القنوات الفضائية والإنترنت، مما يؤدي إلى غلبة نماذج معينة من القيم الأخلاقية وأنماط معينة من السلوك والذوق، لأن الصراع ينشأ عندما يشعر الإنسان أنه مهدد في جانب من ذاتيته. ويؤخذ على العولمة أنها تخلو من أي منهج أخلاقي، ولذلك لجأ الفرنسيون إلى وضع الثقافة في خانة الاستثناء، لأنهم تنبهوا إلى أن قوة الإنتاج الثقافي تؤدي إلى التغيير التدريجي في معايير السلوك وأنماط الحياة، وعليه فالحداثة الغربية أخفقت في مجال القيم الأخلاقية التي بنيت على المنفعة، أو على مجرد الرغبة أو مجرد العقل، وأبعدت القيم الأخلاقية عن العلم وعن الدين، وبذلك أصبحت العولمة في انفلات عن قيم تحكمها وعن ضوابط إنسانية تحدد سلوكها، ولذلك فإننا نرى فلاسفة الغرب، ممن يسمون بفلاسفة ما بعد الحداثة، يهاجمون العقل الذي تصورته الحداثة أنه هو الحل السحري لمشاكل الإنسان، وأن العلم هو مفتاح السعادة، وإن انقطع عن القيم، وانفلت منها، ويعتبر هذا الانفلات من القيم الأخلاقية والدينية عندهم تحررا. وبما أن الإسلام يتجه نحو العالمية منذ نزوله، ويحث على التعايش والسلم، وعايش فعلا في تاريخه مختلف الديانات وتسامح معها تسامحا واضحا عند المؤرخين وغيرهم، فإنه مؤهل بتعاليمه الأخلاقية لأن يشارك في وضع أخلاق جديدة لهذه العولمة المنفلتة لحد الآن، وهو يعترف بالقيم المشتركة بين الحضارات، ولا شك أن الدعوة إلى الفهم المتبادل للقيم الحضارية الشرقيةوالغربية من سمات الإسلام الرئيسية، فقد دعا إلى الحوار مع ديانات أخرى، منذ نزول القرآن، ونادى بالحوار بين الأديان وأزاح الغبار عما طرأ على بعض الديانات من الخرافات والتحريفات، ودعا إلى الأصل المشترك بينها جميعا. ويتوقع من العولمة إذا تمكنت في سلطانها أن تمسخ الإنسانية، وأن تقولبها في نمط ثقافي يفقد ما في الحضارات الإنسانية وقيمها من غنى وتنوع، ونحن نشاهد كيف يشجع الغرب الذين يتحدون المسلمين في عقائدهم. ولا شك أن العولمة يمكن أن تكون لها جوانب إيجابية مثل تداول التقنية والمعرفة المتاحة، فيمكن لشباب الشعوب النامية أن يستفيد من ذلك كله لرفع شأن شعوبهم ومستواهم الثقافي والحضاري، ومنع إطلاق الوحش الذي يكمن في الإنسان ليحطم الكوابح الأخلاقية إذا غاب الدين، واختفت القيم، وسادت موجات العنف، والفساد الاجتماعي. إن قوة الحضارة الحقيقية إنما تكمن فيما يبدو في قوة قيمها الأخلاقية التي تسندها، وتطيل من عمرها، ولذلك فإن العولمة باعتبارها ظاهرة حضارية كونية تتطلب أخلاقيات عالمية تضامنية تحد من الانفراد بالسيطرة لثقافة واحدة. وتفاديا للصراع بين الثقافات، وذلك بإيجاد ميثاق أخلاقي جديد مشترك ينظم جوانب العولمة المختلفة الاقتصادية والثقافية.