كان الزميل الصحفي المبدع في فن الكاريكاتير'' أيوب''، ذكره الله بخير، رجلا نكاتا بريشته ولسانه، وكثيرا ما كان يعطل سير العمل في قاعة التحرير بسبب نكته التي تنتهي في الغالب بحكمة كبيرة، وإلى جانب هذه الميزة، كان أيضا رجلا هجاء، وعندما لا يجد ضحية ممن حوله يهجوها، يعمد إلى هجاء نفسه بالريشة، فيقدم شخصه في صورة ضحية لبطل ظاهرة اجتماعية. من بين الصور التي أبدع أيوب في توظيفها اجتماعيا، وكانت تطغى على نكته اليومية، صورة الشيطان '' زكنبور'' الذي يحمله في الغالب أسوء الظواهر الاجتماعية التي طغت في مجتمعنا، وتكون الأسواق مسرحا لها، والشيطان زكنبور كما هو ثابت في التراث الإسلامي، أحد الأبناء الخمسة للشيطان الأكبر، أوكلت له مهمة إفساد ذمم التجار، وهو المسؤول الأول والأخير عن قضايا الفساد والغش والتدليس المنتشرة في الأسواق. أذكر مرة أن أيوب عاد من السوق إلى قاعة التحرير على غير قناعته السابقة، وراح يبرئ زكنبور من جميع التهم التي ألبسه إياها طيلة سنوات، وعندما سألناه مندهشين عن سبب هذا التحول، راح يسرد تبريرا يكاد يكون منطقيا، بصورة كاريكاتورية، يظهر فيها الشيطان زكنبور وهو يدافع عن نفسه بأن مهمته أكبر من أن ينجر وراء تفاهات وحماقات بعض البشر. أذكر اليوم هذا الموقف الكاريكاتوري للفنان أيوب، وأنا أتابع بعض الحماقات البشرية التي ينسبها أصحابها في الغالب إلى شهر رمضان المعظم، ويرتكبون باسم رمضان ما يعف الشيطان عن التورط فيه، من قبيل الظواهر التي نشاهدها يوميا في أسواقنا وشوارعنا، وفي أماكن العمل، وأحيانا في أماكن العبادة. باسم الشيطان زكنبور، تحولت أسواقنا في رمضان إلى أوكار للغش والتدليس والنهب، وأصبحت مساحات للرذيلة، وصرنا نشاهد يوميا في هذه الأسواق من يجرؤ على سب الخالق لمجرد خلاف صغير وتافه مع زبون، وتكاد تزهق الأرواح لأبسط الأمور، وعندما '' تطير السكرة'' كما يقال في المثل الشعبي، يعود مقترف الجريمة أمام الملأ ليلعن إبليس ويجعل منه سببا رئيسا في جريمته التي اقترفها قبل لحظات.. أسواقنا الشعبية، تحولت في شهر الصيام الذي هو شهر العبادة والصبر والقناعة، وفي ظل غياب رقابة السلطة أو عجزها إلى مساحات للنهب، وتحول كثير من التجار فيها إلى مارقين يسلبون الناس أموالهم وينتهكون أعراضهم ويخدشون حياءهم دون رقيب، ومع أن الثابت في شريعتنا وديننا أن الشياطين التي يمكن أن ننسب لها هذه الظواهر، تصفد في رمضان، إلا أن جرائم الصائمين التي ترتكب باسم الشيطان في هذا الشهر الفضيل تتضاعف عشرات المرات، ونجد أنفسنا أمام رقابة بشرية مصفدة، وليس أمام شياطين مصفدين.. باسم الشيطان أيضا، يعمد بعض أصناف التجار إلى الغش في الميزان وسرقة حق الآخرين، وقد رأيت بأم عيني أحدهم يفعل ذلك، وعندما تفطن له الزبون، راح التاجر '' يمسح الموسى'' في رمضان ويلعن الشيطان.. وأكاد أجزم أن هذا الشيطان الذي يحمله البشر جميع أخطائهم وحماقاتهم، لو أتيحت له فرصة الدفاع عن نفسه أمام هذا الصنف من الصائمين لأفحم الجميع ببراءته مما نسبوه إليه، ولظهر بريئا في كثير من المواقع، لأن ''شيطنة'' الإنسان أحيانا تفوق قدرة الشيطان وجرأته، ذلك أن الشيطان نفسه عندما أصر على العصيان برفضه السجود لأبينا آدم تكبرا، وطرد من رحمة الله، لجأ إلى الله ثانية معترفا بربوبيته وصارحه بأنه سيكون عدوا للإنسان، فيما يلجأ هذا الإنسان المشمول برحمة الله إلى سب خالقه لأتفه الأسباب، وهي جريمة لم يحدث عبر التاريخ أن تورط فيها حتى الحيوان الذي لا عقل له. جاء في موسوعة غربية'' انسكلوبيديا'' أن الشيطان هو مخلوق خرافي بقرنين طويلين وذيل طويل وبطن منتفخة ولسان يقذف نارا، غير أنه لم يحدث أن صادف احدنا مخلوقا في أسواقنا أو حياتنا اليومية بهذه المواصفات، وعلى عكس ذلك، من السهل جدا أن تقابل يوميا مخلوقا بهندام أنيق، وبصورة فيها من الحسن والكمال ما يغريك، يتحدث بلسان البشر، ويسابقهم على احتلال الصفوف الأولى في المساجد، ويحاضر في العفة والشرف والأعمال الخيرية، غير أن سلوكه يغطي على سلوك الشيطان الوارد في الموسوعة.