لم يكن الروائي الأوروغواياني ادواردو غاليانو يدرك أن كتابه الصادر بعنوان ''شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة''، سيحدث خلخلة في تاريخ العلاقات بين الغرب ومستعمراته القديمة، وينتج ما يسمى اليوم ''بمكانة الذاكرة المجروحة في العلاقات الاقتصادية بين الشمال والجنوب''. كما لم يكن يدرك أن الكتاب سيتحول إلى ثاني كتاب من الكتب الأكثر مبيعا على المكتبة الالكترونية ''أمازون''، بعد مرور تسع وثلاثين سنة عن نشره. فالكتاب صدر سنة 1791، وتحول إلى ظاهرة عالمية بمجرد أن قدمه الرئيس الفنزويلي هيغو تشافيز كهدية للرئيس الأمريكي باراك أوباما. وفعل تشافيز ذلك لحث أوباما على اكتشاف خمسة قرون من النهب الرأسمالي لأمريكا اللاتينية. ويتمركز فكر غاليانو (وهو أحد المرشحين لنيل جائزة نوبل للآداب هذا العام) على اعتقاد يقول إن العالم المعاصر ''ليس ديمقراطيا بل فاشي وشوفيني وعسكريتاري''، وهذا ما يريد شافيز أن يكتشفه باراك أوباما، كخطوة نحو وعي عالمي جديد بضرورة إحداث ديمقراطية حقيقية على مستوى العلاقات بين الدول. وليست هذه هي المرة الأولى التي يترك فيها شافيز أثرا واضحا على جمهور القراء عبر العالم، فقد سبق له أن حمل في يده خلال ذهابه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 6002 نسخة مترجمة للإسبانية من كتاب نعوم تشومسكي ''السيادة والنجاة: مغامرة أمريكا للسيادة العالمية'' فتحول الكتاب المنبوذ في أمريكا بعد أن أثنى عليه تشافيز واستفاض في تقديمه لأكثر الكتب مبيعا على مكتبة الأمازون في الولاياتالمتحدة، وعبر العالم. ومن عادة شافيز أن ينصح رؤساء الدول الذين يلتقي بهم بالكتب التي يقرأها، لتتحول بعدها إلى كتب رائجة وشعبية. ويتطرق كتاب غاليانو، وفق منطق ماركسي لتحليل تكوين الحضارات، إلى ظاهرة قيام أمريكا والغرب على حد سواء، على استغلال أمريكا اللاتينية لبناء قوتها الاقتصادية. وألف غاليانو كتابه في أوج القمع اليميني لليسار اللاتينو -أمريكي، وفي لحظة فراره من بلده الأروغواي عام 3791 بعد انقلاب عسكري وقرر اللجوء إلى الأرجنتين، التي تركها بعد سنوات عقب حدوث انقلاب عسكري استهدف الديمقراطية. وقبل غاليانو سبق للفيلسوف الفرنسي المسلم روجي غارودي أن قال بأن النهضة الأوروبية قامت على مجتمع أدى إلى ظهور الإنسان الذي يؤمن بمبدأ إشباع رغبته في السيطرة والمنفعة. فتحول الفرد إلى المحور الوحيد القادر على خلق المبادرة التاريخية. ويقول المنطق الفاوستي المُعتمد في الغرب ''أيها الإنسان تحول بفضل عقلك القوي إلى إله وإلى سيد ومولى كل عناصر الكون''. وأصبح ممكنا لهذا الفرد بأن ينهب خيرات القارات الثلاث، واستنزاف ثرواتها لصالح أوروبا وأمريكا الشمالية، فقط لأنه ''إله جديد''. وبالفعل حدث بعد اكتشاف كريستوف كولومب لأمريكا سنة 2941 تدفق كميات من الذهب والفضة، سُرقت من الهنود، فازداد معدل الوفيات بين الهنود بسبب الأعمال الشاقة في مناجم المعادن الثمينة، بينما زاد عدد سكان ايرلندة مثلا بنسبة 04 بالمئة. وما قام به الرئيس شافيز يشبه إلى حد بعيد ما أقدم عليه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة حينما ذكر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي جاء إلى الجزائر ليتفاوض حول اتفاقيات تجارية بين الجزائروفرنسا. فقال الرئيس الجزائري: ''أريد اعتذار فرنسا على مجازر سطيف يوم 8 ماي 5491''. وكان رد الرئيس الفرنسي: ''لم آت إلى هنا من أجل الحنين إلى الماضي''. فرد بوتفليقة بذكاء ''الذاكرة قبل الاتفاقيات التجارية''. وبالفعل تحولت الذاكرة المجروحة في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية وإفريقيا إلى وعي سياسي، ومن ثَم انتصارات انتخابية رائعة مثل ما حدث في بوليفيا أو في فينيزويلا أو في الإيكواتور. وبالفعل ستظل الذاكرة محل شد وجذب بين الغرب والمستعمرات، ولن تكون هناك علاقات اقتصادية وتجارية إلا في حالة اكتساب الغرب الجرأة الكافية لاكتشاف الوجه الخفي لتاريخه. ذاك الوجه البشع والمخيف.