يمنحنا فيلم ''سكارفاس'' للمخرج الأمريكي بريان دي بالما، درسا في أخلاقيات السياسة. يعلمنا حكمة نافعة، ويخبرنا أن مسار التاريخ لا يسير وفق الأهواء والنوايا السيئة. بل أنه يخضع، وعلى العكس تماما، لمنطق إنساني تتحكم فيه صيرورة عادلة، قد تغفو ردحا من الزمن، لكنها سرعان ما تستعيد نهوضها، لتكون بالمرصاد لكل من يريد التلاعب بالعقول. ويعد الفيلم بمثابة انتقام مميز من نموذج ديكتاتوري في أمريكا اللاتينية، وبالضبط ديكتاتورية العجوز الكوبي فيدال كاسترو. وبمناسبة الحديث عن أمريكا اللاتينية، ها هو الروائي ماريو فارغاس يوسا، يتحصل على جائزة نوبل للآداب، وينتقم من الديكتاتورية البيروفية التي أحرقت روايته الشهيرة ''المدينة والكلاب''، لما صدرت لأول مرة سنة 3691، وأجبرته على اختيار المنفى. فما من ديكتاتورية تصمد أمام الإبداع. ولا يسقط الزيف التاريخي إلا أمام لمسات إبداعية شجاعة قادرة على مسك المخادعين من الأذن، وتلقينهم دروسا في الإنسانية. فها هو الزيف الإستعماري ومحاولات تحريف الحقائق بخصوص أحداث 8 ماي 5491، يسقط ويتهاوى أمام فيلم ''خارجون عن القانون''، وبفضله ساهم رشيد بوشارب في نشر نظرة صحيحة ومغايرة بشأن أحداث تاريخية، وُضعت لسنوات طويلة في خانة المسكوت عنه. حتى أن غالبية الفرنسيين من الأجيال الجديدة، لا تعرف شيئا عن جحود أبائهم، وكيف قتلوا ونكلوا بجزائريين عُزل شاركوا إلى جانبهم في الحرب ضد النازية. ومهما بلغ ذكاء السياسي حدا لا يمكن تخيله، يكون له الإبداع بالمرصاد، ففي سنة 6791 قرر الزعيم الكوبي فيدال كاسترو الاستجابة لنداء الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بفتح أبواب أمريكا على المعارضين السياسيين الكوبيين، والسماح لهم بدخول فلوريدا. وكان كاسترو قد تعامل مع نية كارتر الجميلة بكثير من الحيلة والخداع، فبدل أن يفتح الطريق أمام معارضيه السياسيين، أفرغ سجونه من مروجي المخدرات والمجرمين وأرسلهم إلى فلوريدا، مدعيا أنهم معارضون سياسيون يريد إرسالهم إلى أمريكا حتى ينعموا بنموذج العم سام، الذي يعرفونه جيدا منذ عهد الديكتاتور باتيستا الذي أطاح به كاسترو رفقة رفيقه شي غيفارا. ولما تفطنت المخابرات الأمريكية لخداع كاسترو وحيلته، كان كل شيء قد انتهى. وفي هافانا كان الزعيم الكوبي يضحك ويسخر من الغباء الأمريكي. إذ دخل أكثر من ثلاثة وعشرون ألف كوبي إلى الأراضي الأمريكية، وأغلبهم من ذوي السوابق العدلية، وتحولت شوارع ميامي بعد بضعة سنوات إلى بؤرة لأحداث عنف رهيب، كانت وراءه عصابات المافيا الكوبية المتاجرة بالمخدرات. وفي عام 3891 عرض المخرج الأمريكي بريان دي بالما، المعروف بأفلامه العنيفة التي تعري المجتمع الأمريكي، فيلمه الشهير ''سكارفاس''، واستقى أحداثه من تلك الواقعة، فانتقم للرئيس جيمي كارتر، وفضح ممارسات المافيا الكوبية في ميامي. وقدم دي بالما شخصية المهاجر الكوبي ''توني مونتانا'' التي جسدها الممثل الشهير ''آل باشينو''، الذي استغل نية جيمي كارتر من أجل خدمة حقوق المعارضين السياسيين، ليتحول إلى مجرم وقائد عصابة مافيا، وكون ثروة بواسطة المتاجرة في المخدرات، بعد أن دخل أمريكا مدعيا أنه ناشط سياسي معارض. ونراه في الفيلم يخبر رجال الشرطة الأمريكيين أثناء استجوابه أنه ''لا يطيق العيش تحت رحمة العجوز (يقصد كاسترو)، ولا يريد ارتداء الأحذية الروسية الغليظة، ويرفض أكل الإخطبوط على مدار السنة''، في إشارة منه إلى صعوبة العيش في ظل الديكتاتورية، فيزعم أنه تربى على أفلام هوليود، وكان دائم الإعجاب بالممثل همفري بوغارت. الدرس الذي يلقنه لنا فيلم ''سكارفاس''، هو الدرس نفسه الذي نتعلمه من فيلم ''المواطن كاين'' للمخرج أورسن ويلس (2491). فقد ألقت السينما على كاهلها منذ ''المواطن كاين''، مهمة هزم السياسة، ومسك الساسة من الأذن.