الكتابة كلمة تشبه الإنسان يمكنها أن تحوي كل شيء .. أي شيء .. ما نتوقعه من الإنسان نتوقعه منها: فرح، حزن، تشاؤم، غضب، رضى، صدق، كذب، خبث، طيبة، قداسة، نجاسة، فجور، تقوى.. فعل الكتابة يتغذى من كل هاته الأشياء يعيش منها وبها .. بالقدر الذي يستخلصه من صاحب الفعل .. أي بحسب مؤهلاته الإبداعية والأخلاقية والإنسانية والفلسفية والشعرية والجمالية.. وعليه فإن لكل غايته من الكتابة ولكل هدفه الذي يريد أن يصل إليه. من الكتاب من يهتم بتكديس الواقع والخوض في تفاصيله دون احتجاج أو محاورة، وهناك من يملك قوة إدخال الواقع في بوتقة الحلم والجنون ويخضعه للمساءلة المربكة.. لكل كاتب كتابته.. ولكل وعيه ورؤيته للذات وللآخر وللأشياء.. ولكل جوابه إذا ما سئل لماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟ ... سؤالان على بساطتهما يختزلان جوهر الإبداع .. عبد القادر رابحي .. شاعر وناقد قد يبدو أنه ليس ثمة من داع للكتابة عن الكتابة، حتى و إن بدت الكتابة عن كتابة الشعر أقرب إلى كتابة الشعر إن لم تكن هي الشعر في حد ذاته. لا أستطيع من موقع تجربتي المتواضعة أن أقول إن كتابة الشعر هي الخلاص، لأنها تبدو عكس ذلك تماما. إنها المأزق الحقيقي الذي لا يجد فيه الشاعر منفذا للتنفس غير منفذ اللغة. و من هنا تبدو الكتابة توريطا للذات في متاهة الاستشراف الفكري اللامتناهية، و محاولة لتوطيد الصيرورة الوجودية داخل فرن اللغة المستعصي على الترويض. كلما كان المعنى قريبا كانت الكلمات بعيدة. وكلما كانت الكلمات قريبة يتباهى المعنى بحريته المطلقة التي تمارس على اللغة نوعا من التضليل لاستدراج الشاعر نحو أدغال المغامرة الشعرية. ثمة نوع من النرجسية في القول إنني أكتب لذاتي، كما أن هناك نوعا من الإدّعاء في القول إنني أكتب للآخرين. مفارقة يجب على الشاعر أن يملأ فراغاتها بمحاولته الإمساك بالمتناقضين طيلة مسيرته مهما كانت قصيرة أو طويلة من أجل أن يجد له موطأ قولٍ في بياضات الصمت المطبق. من يستطيع، و الحال هذه، أن يراهن على نفسه، أو أن يدعي تحقيق الذات التي يبدو فيها الآخرون هم الكتاب الحقيقيون ؟. كل إنسان كاتب بطريقة أو بأخرى. و كل إنسان يحاول أن يقنع الآخرين بجدوى ما يفعل في الواقع، لأن الواقع أكثر وعيا وأعمق فهما من أي كاتب كان. و لذلك يبدو الكاتب تابعا في الكثير من الأحيان لحركية الوعي التي يجب عليه أن يتمثلها، رغم ادعائه السَّبْقَ كعادته في نشر الوعي لدى الآخرين. لا يمكن أن نتصور أن هدف الكتابة هو تقديم الدروس للآخرين لأنها تبدو و كأنها مجرد تأريخ جمالي لما يفعله الآخرون الذين لا يكتبون أصلا، أو يكتبون بطريقة أخرى لا تعتمد على الوهم اللغوي في تحقيق ذات أصحابها. و في كثير من الحالات يكون هذا التأريخ مجرد ''تزييف للوعي'' يتعمد الكاتب تغليفه بالجمالية السائدة من أجل إقناع الأجيال القادمة بقدرته على إفراغ المعنى الحقيقي من اللغة، و استبداله بمعنى آخر يتحمل توريث الوعي المزيف - في قالب أكثر تقبلا من طرف التاريخ، و أكثر تماهيا مع توعكاته و رضوضه- لمستقبل البياض المُغري بالقراءة من طرف المتعطشين لمعرفة ما كتبه الكتّاب عن الأسلاف وهم يصنعون حركية التاريخ. الإشكالُ الحقيقي في هذه المفارقة أن الكاتب يبقى وحيدا بوصفه شاهد إثبات على صدق الحركية أو زيفها من خلال إعادة كتابته للحادثة التاريخية من زاوية بلاغية بحتة. وهنا تكمن مأساة الكاتب و غربته. ثمة كتّابٌ في التاريخ الأدبي انتهوا إلى هذه الوحدة القاتلة لأنهم كانوا صادقين مع أنفسهم في علاقتهم بالآخرين، و لأجل ذلك بقوا أحياء في هذه الصيرورة.و على العكس من ذلك يبدو الكثير من الكتاب و كأنهم انتصروا على صيرورة المرحلة، ولم يكن لهم من البقاء أطول مما أتاحته لهم هذه المرحلة من لمعان و بريق. و لذلك فإن حركية التاريخ كفيلة بغربلة موروث الكتابة و تصفية الحادثة التاريخية من البلاغات المزيفة التي تعتمد على اللغة في تمرير محاججة البقاء في الأنساق الدلالية والأسلوبية للنص الموروث. و لعله من هنا، تبدو المراهنة على الذات في تحقيق البقاء و التباهي بالأثر، مجرد تفنّج فكري وصلف معرفي عادة ما يصطدم الكاتب من خلال التركيز عليهما، بخطورة المغامرة الإبداعية وهي تحاول أن تُفهِمَ الكاتب مع مرور الزمن، بأن السطو على الكتابة من خلال الادعاء بامتلاك جوهر اللغة هو مجرد وهم ليس هناك دليل قاطع على صدق زيفه أكثر من نصوص الكاتب الكاذبة في طرحها المرحلي، و في تزمتها في إعطاء الدرس الجمالي لمن ليست لديهم رغبة في تقبله من وجهة نظر الكاتب المغلقة. و من هنا كذلك يراهن الكتاب الحقيقيون على إيجاد مكان لذواتهم في مستقبل الكتابة من خلال تجنب ما قد يثير قلق اللغة و هي تتحقق بصورة زائفة في حاضر الكتابة. و المشكل أن الشعر لا يقبل التزييف، و لذلك فهو لا يمكن أن'' يُقلَّد'' على عكس الفنون الأخرى كالرسم والموسيقى والنحت و المسرح والرواية وغيرها ، لأن ''يا ليت الفتى حجر'' لا يمكن أن تكون في صورتها الفكرية واللغوية إلا لشاعر واحد هو امرؤ القيس. و لا يحق بعدها لأي شاعر آخر أن يعيد قولها ، و لو عن طريق التناص أو التضمين أو الاقتباس، من دون أن تحيل إلى صاحبها. لأنها أصبحت مرتبطة به بصفة جذرية ونهائية، وراجعة إليه في صدق مجازفته الشعرية، و ملتصقة به إلى الأبد في مستبقلية فهمه للزمن وتصوره للكتابة. و ربما كان شيء من الإجابة عن سؤال لماذا تكتب في هذه الخصوصية التي يبحث عنها الشعراء، و المتمثلة في البحث عن التميز في ذات القول لا في قول الذات، حتى و إن بدت مسافة الفارق الفلسفي بين ذات القول و قول الذات على قدر كبير من التماهي مع المتعة الداخلية للذات القائلة من جهة، و التباهي الظاهري بالقول الذاتي من جهة أخرى. و قد لا يشعر الشاعرُ نفسُه مقدار ما يعانيه من مكابدات من أجل الوصول إلى التميّز في القول الشعري الذي يبدو الوحيد القادر على تحقيق الجدارة بالبقاء في مستقبل الكتابة. الحبيب السايح -روائي- لا أكتب لإثبات جدارة أو مجد أو شهرة ما، ولكن أكتب لأني أبحث عن حقيقة وجودية يقمعها الواقع، وتدمر الحماقة آثارها.. الكتابة الروائية هي عمل لإعادة عناصر هاته الحقيقة بشكل جمالي.. فأنا أشعر أني وجدت كإنسان من أجل أن أؤدي دينا لصالح الإنسانية، وأعتقد أن لي مسؤولية ضمير ومسؤولية أخلاقية ومسؤولية ذاكرة، ولذا شخصيا أؤمن أن ما يتعلق بالمجد والشهرة والجدارة ينسحب إلى آخر اهتماماتي.. أما لمن أكتب: وأنا داخل النص يحدث أن أستفيق من غفوة الكتابة، لأتذكر بعض الوجوه التي أعرفها في الواقع وأحس أنها تنتظر مني شيئا لا يعبر عنها فقط، ولكن يعبر عما هو مكبوت ومقموع، وأيضا تعبر عن أفق لا تستطيع هاته الوجوه أن تبلغه في الواقع، فيأتي نصي ليعوّض عن ذلك.. عصام واصل .. -شاعر يمني- السؤال صعب لا لأن الإجابة عنه صعبة بل لأنها متشعبة وغير مستقرة، وباختصار أكتب لأعبر عن رفضي أو حزني أو انكساري، وكثيرا ما أكتب تعبيرا عن إحباطي بذاتي وبالعالم المتهافت الذي يأتي على المشتهى دائم، وكثيرا ما يمنحنا مزيدا من الهزائم ومشاهد الرعب والدمار. فحينما نرى طفلا حزينا جائعا يتسوّل لقمة من العابرين، أو أمّا بلا مأوى أو فقيرا ضاقت به السبل فتاه معلّقا رجاءه على وجوه الغرباء من المارة، لا شك أن ذلك حافز موجع للكتابة، ويفتحها على أفق كبير من التأملات بحزنها ومرارتها وجمالياتها أيضا . ولماذا أكتب؟..أكتب لزمن سيأتي ذات يوم ربما، وأكتب للبسطاء والمسحوقين من أمثالي، وكذلك للحبيبة الافتراضية التي أرسمها على شكل وطن، وللوطن الحزين الذي أرسمه على شكل حبيبة أيضا. ضيف الله عبد القادر قاص وكاتب سؤال الكتابة .. الكتابة هذا السؤال الجوهري في العملية الإبداعية .. أنا أسميه سؤال التورط .. حينما يشعر الكاتب بتورطه في فعل الكتابة ينتابه أرق لا فكاك منه، هذا الأرق يجعلني دائم التفكير حول أسئلة كثيرة مرعبة في حياتي،أسئلة مصير الإنسان .. لماذا هذا الشقاء ..لماذا هذا الموت المجاني.. لماذا هذا التراجع للقيم.. أسئلة كثيرة تحز داخل الذات.. من هنا تأتي الكتابة لتربئى هذا الشرخ الروحي.. الكتابة أمل في وجود عالم بعيد عن التوتر والحقد.. الكتابة هي بحث عن الحب الإنساني لمن تكتب: سؤال التلكؤ .. أسميه هكذا.. حينما يطرح هذا السؤال على أي كاتب، لا تكون دائما الإجابة حاضرة لأنني أعتقد أنه سؤال صعب.. سؤال التلكؤ حسب اعتقادي نحن نعيش اليوم نسبية المفاهيم، العالم في تغير سريع، والهيمنة الرقمية والتكنولوجية حولت كل شيء إلى رقم حتى الإنسان صار رقما في المعادلة المادية.. انحصرت الأذواق.. وانحصرت القراءة.. ولم تعد الناس تهتم بما يصدر من كتب حتى صار السؤال يطرح بحدة لمن كل هذه الكتابات، إذا سلمنا أن هناك كتابات بقدر نسبة المتعلمين على الأقل.. إذن نحن أمام سؤال صعب ومتملص خاضع لتغير.. ولكنني ربما سأجيب على جانب يعنيني على الأقل في هذه الفترة وفي هذه الظروف المحيطة بي.. أنا أكتب لأثبت ذاتي في خارطة هذا المحيط الذي ألمني يوما ولا زال.. ثانيا وبالموازاة أكتب كذلك ليحبني الناس.. لأن الحب مسألة ربما غابت عن التفكير وعن إثارة السؤال حولها من خلال مفكرين على الأقل.. هل الناس تحب بعضها؟ .. هل هناك قيم للحب بين الناس وقيما لتسامح؟ .. ربما الإجابة واضحة هي أننا اليوم فقدنا الكثير من هذه القيم.. أنا أكتب إذا لأسترجع بعضها على الأقل.. الخير شوار .. -روائي وصحفي - لماذا تكتب، ولم تكتب؟.. منذ مدة طويلة لم أعد أطرح على نفسي هذا السؤال، فقد نسيته، وأنا الآن متردد فيما أقول. أعود إلى البداية، بل إلى ما قبلها، فساعتها أذكر أني كنت أرغب في الكتابة، من أجل إفراغ أشياء كانت تملؤني وتكاد تفجرني من الداخل، وكان فعل الكتابة بديلا عن الانتحار أو الجنون في أحسن الحالات، كان ذلك قبل امتلاك ناصية الكتابة، والآن وأنا منخرط في هذا الفعل أشعر بأني تورطت أكثر فأكثر في هذا الطريق، ولم يعد لي خيار آخر ولا مجال للرجوع، بل ومن شدة انخراطي في هذا الفعل نسيته مثلما أكدت في البداية، ولم أعد أطرح السؤال على هذا النحو على الإطلاق. أما عن سؤال: لمن أكتب؟ ولئن كان مكملا للأول ووجه الآخر فقد يكون الأصعب، وهو يحيل إلى ما قبل البداية بدوره، فكنت أكتب لنفسي أولا محاولا التخلص من ذلك البركان الداخلي الذي سلف ذكره، ثم من أجل متلقي قد يكون قريبا، وذلك تحقيقا لرغبة إنسانية وهو أن ''أكون شيئا مذكورا'' (بتعبير أحد الكتّاب الاجتماعيين)، بالنسبة لمحيطي الصغير ثم الأكبر إن استطعت إلى ذلك سبيلا، وسرعان ما أصبحت أكتب إلى متلق افتراضي بمفهوم نظريات التلقي، ولا أدري إن كان ذلك المتلقي موجودا بالفعل أم أن وجوده لا يتعدى النظري. بوداود عميّر -قاص ومترجم- لماذا نكتب؟.. الكتابة هي حاجتنا للآخر، و حاجة الآخر إلينا، هي التعبير عن مكنوناتنا ودواخلنا بما تحويه من ثنائية السخط والرضا، هي خطابنا للتغيير بدون جدوى في عالم لا يؤمن بالتجريد وبالمحسوسات، نكتب في محاولة الإيهام أن الحياة مشاعر وأحاسيس وعواطف ووجدان وليست ماديات فحسب... نكتب لأننا نتصور بعد سفر شاق في الفكر والأدب و الحياة، اختلس منا شيئا من ضوء عيوننا وأحالنا إلى انطواء مبكر، ووسّع أحداقنا عبر متاهات أفق ممتد صوب البحر، أن العالم كان مفترضا أن يكون كرة أرضية تتفجر حبا وامرأة جميلة، لا بغضا و كراهية، عالما ينضح بكائنات كان يجمعهم كل شيء و بات يفرقهم كل شيء... نكتب شاهدين على هذا العصر ، عسى أن يقرأنا ذات جيل و سيقولون: هؤلاء - من حسن الحظ - لم يكونوا أغبياء... لمن نكتب؟.. هل نكتب لأنفسنا؟ و ما جدوى الكتابة إذا؟ نكتب للآخر، و لكن الآخر غير آبه، لم يعد يولي القراءة اهتمامه، ضغط اليومي، الغوص في العالم الافتراضي، النزعة إلى الانفراد وأشياء أخرى تدفع القارئ المفترض إلى العزوف التلقائي عن القراءة . أدونيس تنبأ بانسحاب القارئ من جدلية الكاتب والمتلقي، الشاعر مثلا، لم يعد يقرأه سوى شاعر مثله، و حتى على هذا المستوى اتخذت القراءة تكتلات يضيق مجال تواصلها مع كل جنس أدبي. لمن نكتب؟ بات موضوع جدل توليه الفلسفة المعاصرة جانبا من جوهر اهتمامها، بعد أن طوت موضوعاتها الكلاسيكية أو تكاد، فهل تجد الفلسفة المعاصرة حلا لمعضلة لمن يكتب الكاتب؟ كريم قادري .. كاتب وشاعر نحن نكتب لنبيض الأوراق السوداء لتجد لنفسها مكانا بين ثنايا العذاب المستمر واقتصادا لحبات الأسبرين والأقراص المهدئة وحفاظا على استمرارية الوقت وعدم رجوعه إلى الوراء كما فعل سابقا وبكاء على حظنا العاثر المستكين في زوايا غياهبنا.. نحن نكتب لنحافظ على سلالة الانسان من الانقراض والتحول وعدم التورط في المواقع المخصصة للآهات ولنكشف على الجمال المخبوء ولنحرك النفوس الرواكد والكشف عن الحقائق بلباسها الداخلي، وترقيق النفوس الرواكد والمنحطة إرضاء لغرورنا الزائد وضعفنا وعدم مقدرتنا على المواجه المستمرة.. نحن نكتب لنوزع الحروف الأبجدية توزيعا يرضيها ونجملها بالكلمات والمعاني السافلة لتجد الأذن ما تراه. نحن نكتب خوفا على ضياء النجوم ومن غزو الظلام لها، وخوفا من الظلام أن يذبحنا ويدمينا من المعنى إلى المعنى... نحن نكتب ليقال لنا لماذا تكتبون...؟ لمن نكتب؟ نكتب للموت والحياة معا وإلى الطبشور والحبر، وخوفا على لقمة عيش أساتذة الأدب، نحن نكتب للأحفاد الذين ولدوا قبلنا وللأجداد الذين سيولدون، نحن نكتب ليجد الأعمى ما يقرأه والأصم ما يسمعه من إخبارنا. نحن نكتب لبائع الفول السوداني ليجد ما يزن به لزبائنه الدائمين والى سائق الطاكسي ليجد ما يمسح به زجاج سيارته والى طلبة الرياضيات ليجدوا ما ينكتون به في مجالسهم. نحن نكتب للعاشق كي يسرق قبلة من حبيبته باسم شرعية ما نكتبه وللمتشرد واليائس واليتيم والمفكر والحراقة والأسئلة...الخ نحن نكتب للماء العكر والحلو وللبلابل والى حبيباتنا وأصدقائنا والمعارف والغاوين.. نحن نكتب للمحامي ليجد ما يقوله في افتتاحية مرافعته.