لم تمنع اسرائيل المساعدات التي حملها أسطول الحرية، والموجهة إلى الفلسطينيين المحاصرين في غزة، فقط، بل منعت مثقفين ومفكرين غربيين من التعبير عن آرائهم، بعد أن أرادوا دحض أسطورة ''اسرائيل التي لا تخطأ''. قبل ثلاثة أسابيع لم تسمح لنعوم تشومسكي، المفكر الأمريكي الكبير، من أصل يهودي، دخول الضفة الغربيةالمحتلة، وأجبرته رفقة ابنته التي كانت، على العودة الى الأردن، حيث صرح أن ''اسرائيل باتت محكومة من المتدينين وقوى اليمين. وإن سياساتها في السنة الأخيرة تشير إلى أنها فقدت عقلها''. وذهب تشومسكي إلى حد وصف اسرائيل بالدولة الستالينية. وهي بالفعل النموذج السيئ في العالم، وما ادعاؤها بأنها واحة ديمقراطية وسط صحراء الديكتاتوريات العربية، إلا مجرد أكذوبة تروج لها لتبييض صورتها، تلك الصورة التي تنتج ما يسمى بديمقراطية الرجل الأبيض المزيفة. ويعتقد تشومسكي أن الممارسات الإسرائيلية أصبحت تشكل تهديدا صارخا لمصالح أمريكا في الشرق الأوسط، وتضعها في مواقف حرجة بانتهاجها أساليب مزعجة، كعدم العمل بما يمليه القانون الدولي، ومن خلال مواقفها المتعنتة كإعلانها عن تأسيس منطقة استيطانية جديدة مع كل زيارة يقوم بها وزير خارجية أمريكي منذ عهد الرئيس جورج بوش الأب إلى العهد الحالي، فهي مثل الابن المدلل الذي لا يعرف الضوابط. ويعتقد تشومسكي أن تحولات جذرية قد بدأت تحدث في المدة الأخيرة لدى الرأي العام الأمريكي إزاء ما يجري في منطقة الشرق الأوسط. وقال في حوار صحفي ''قبل أسبوعين ألقيت كلمة أمام مجلس الشؤون الدولي في بوسطن، وفوجئت بهم يطلبون مني التركيز على الشأن الفلسطيني''. وساهم تشومسكي بقسط وافر في تغيير هذه العقلية الأمريكية المتعنتة، والتي أثرت فيها النظرة الدينية التوراتية، إلى درجة أن السياسة اصطبغت بتعاليم التوراة. ويركز تشومسكي جل تحليلاته، بالأخص تلك التي وردت في كتابه (حرب غزة ونهاية اسرائيل) على التغيرات التي حصلت في اسرائيل خلال السنوات الأخيرة، والتي مكنت اليمين المتطرف والمتدين لكي يصبح ذا تأثير واضح في المجتمع الاستيطاني وحتى داخل النظام السياسي الإسرائيلي نفسه. ومن جهته، يعتقد المفكر الفرنسي ريجيس دوبري أن إسرائيل تقدم نفسها زورا في صورة بطل الغرب في الشرق الأوسط، فحاول دوبري أن يكسر هذه النمطية في فرنسا مثلما كسرها تشومسكي في أمريكا، وأورد في كتابه الأخير الصادر حديثا بعنوان ''إلى صديق إسرائيلي''، وجاء على شكل رسالة وجهها الكاتب إلى صديقه الإسرائيلي يلي برنافي (سفير سابق لإسرائيل في فرنسا) ''بحكم انتمائي للغرب، يحق لي أن أقول لمن يسمي نفسه ''بطلي'' ما توحي إلي ممارساته. أضف إلى ذلك أنا إنسان، وكل ما يعني الإنسانية ليس غريبا عني'' ويقول ''هناك اسرائيلتان ولست يائسا من إمكانية تغلب واحدة على الأخرى. هناك اسرائيل الانغلاقية، المتقوقعة على نفسها، الانعزالية، النرجسية، العنيفة، العنصرية. وإسرائيل الأخرى التي تضيق آفاقها يوما بعد يوم. أي اسرائيل الأقلية بشكل متنامي، الديمقراطية والتي تعترف بحقوق الفلسطينيين''. ويعي دوبري جيدا خطورة ما أقدم عليه، فحياته أصبحت في خطر بعد نشره لهذا الكتاب، ويتضح خوفه من كلامه ''أعرف أنهم سينقضون عليّ''. لكن للرجل مواقف فكرية سابقة، أوصلته إلى المقصلة حينما ساند الثورة ''الغيفارية ''(نسبة إلى تشي غيفارا) في أمريكا اللاتينية، وهو يعرف كيف يدافع عن أفكاره ولا يرفض ان يقف صامتا بينما القيم الإنسانية وحتى الغربية تتعرض للتدنيس من قبل دولة غير شرعية في فلسطين. وهو مثل تشومسكي بمثابة ضمير إنساني في زمن تراجع فيه الفكر والفلسفة عن الدفاع عن القضايا الإنسانية.