في الوقت الذي تتجه فيه كل أنظار العالم نحو جنوب إفريقيا لمعايشة أكبر حدث كروي عالمي (كأس العالم)، وفي الوقت الذي لم نعد نسمع فيه حديثا عن الحرب والبؤس والمجاعة والخلافات السياسية، وفي الوقت الذي قلّ فيه الحديث عن غزة ومآسيها وفلسطين وجراحها والعراق وهمومها، طلّ علينا البرلمان الجزائري بقانون (غير مقنّن) مفاده معاقبة بعض العمال الذين وقفوا وقفة احتجاج الأسبوع الماضي منددين بتمادي الإدارة وعلى رأسها الأمين العام في تطبيق القوانين الخاصة بالزيادة في الأجور بأثر رجعي والتي تمّ الموافقة عليها بعد جهد جهيد وعمل مضن لممثلي العمال بالبرلمان. أمين عام الغرفة السفلى أراد الانتقام بطريقته الخاصة من العمال الذين تحدوا إرادته، بعيدا عن العرف المؤسساتي والأحكام القانونية المسيرة للعمل بالجزائر.. أراد بخرجته هذه تقديم صورة غير مطابقة للتشريع الجزائري والعرف البرلماني، فالسيد عبد العزيز زياري كان من الأولين المنادين والداعين لمراجعة القانون الأساسي، كما اجتهد مرارا وتكرارا من أجل إعطاء العمال حقوقهم كاملة غير منقوصة، وفي هذا الإطار دعا اللجان البرلمانية للعكوف على إيجاد الصيغ القانونية الكفيلة بحفظ حق العامل بداخل المؤسسة الثالثة في الدولة الجزائرية، إلا أنّ نظرة أمينه العام كانت مخالفة لقراراته، وغير آبهة للشأن العمالي، حتى وإن كان قد أوهم الجميع غداة الاحتجاج بأنّه سيعمل جاهدا لتلبية رغبات العمال حتى وإن كان الأمر يتعداه؟ تصريح الرجل الثاني في البرلمان كان مجرّد مسكّن لامتصاص غضب العمال، فقد أقدم على معاقبة بعض المحتجين بإلحاقهم بمناصب أخرى أو تعيينهم بملحقة رويسو، إنّ شعور المواطن العادي والمتمثل في العامل بداخل البرلمان، سيهتز ويفقد الثقة في كلام مسؤوليه، وهو الأمر أيضا الذي يذكرنا بما حدث مع الأمين العام السابق السيد عسول، الذي دفع ضريبة عدم اكتراثه بالعمال وتوجهه لخدمة أغراضه الخاصة وأغراض مقربيه. يحضرني في هذا المقام وبكل فخر واعتزاز كلام سمعته بأذني من الراحل المرحوم العميد محمد النذير متيجي (مدير دائرة الاتصال والاعلام بوزارة الدفاع الوطني سابقا) وهو يحدّث ثلّة من ضباط الجيش الوطني الشعبي غداة افتتاح ملتقى تكويني، قال بالحرف الواحد رحمة الله عليه ''عليكم بالأخلاق والقلم، كونوا رحماء مع مرؤوسيكم، لا تظلموا من هو أقل منكم درجة، بل حاوروهم واتصلوا معهم يحبونكم ويحترمونكم ويقدرونكم...'' في الحقيقة أنّني لا أجد تعبيرا أصدق من هذا، وليس من باب الرياء أو المزايدة أو حتى المجاملة أقول بأنّ العميد متيجي رحمه الله وهو ابن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وطالب بجامعة الزيتونة، كان وراء نجاح الجيش الوطني الشعبي في فتح المجال الاتصالي باعتماده على الاتصال كقاعدة أساسية لبناء جيل فعال ومحترف بأتم معنى الكلمة، جيل من الشباب الوطني الغيور على كل ما هو جزائري، جيل يؤمن بالحوار ويتخذ من الاتصال قاعدة أساسية للوصول إلى المبتغى. نعم إنني اليوم أتشرف وأعتز بهذه الشهادة، لأنّها صادرة عن رجل يعترف كل من عرفه عن قرب بتواضعه واحترافيته وإخلاصه وحبه الكبير للجزائر ومساهمته الفعالة للرقي بجيشنا والاعتزاز به. نعم إن العميد متيجي رحمه الله هو مثل أعلى وبدون أدنى خلفية، فقد عرفت الرجل وأشهد له بما قلت والله على ما أقول شهيد.. إنّ حسن التعامل مع المرؤوسين واحترامهم، سيزيد حتما من رفع شأن الرئيس بل ويزيد من توطيد العلاقة بين الطرفين، فيكون النجاح هو النتيجة الحتمية من دون أدنى شك، وعليه وجب التعامل مع المرؤوس وفق قواعد الاحترام المتبادل والشعور بالمسؤولية والعمل من أجل الصالح العام، فالجزائر ولا شك بحاجة لكل أبنائها وفي كل المستويات، أمّا تبني مقولة ''أنا وما بعدي الطوفان'' فهذا الأمر قد ولى زمانه وانقضى عهده ولم يعد له مكان في قواميس العمل، فعالم العشرية الثالثة في تطور مستمر خاصة من الجانب الاتصالي، الذي يعد القاعدة الأساسية في بناء العلاقات المهنية، وبذلك يجب الاعتماد على الحوار والمناقشة والإقناع بالحجة والدليل والابتعاد عن التعسف والانفراد باتخاذ القرارات، ففي الاتحاد قوة.. الردع ليس وسيلة كفيلة بضبط العامل ودفعه للالتزام بالأوامر وتنفيذها، فقد أثبتت جل الدراسات المتعلقة بالجوانب النفسية المسيرة للعلاقات في العمل بين الرئيس والمرؤوس، أنّه كلما زاد عامل الردع، قلّ الإنتاج وتوترت العلاقات، فالعالم المتقدم اليوم يولي اهتماما خاصا بالجوانب النفسية في العمل وبالاتصال كضرورة حتمية تمليها قواعد العمل بكل تجلياتها. فهل يعتبر مسؤولونا ويجعلوا من الغير قدوة لهم في حسن التسيير، أم أنّ النرجسية ستظل سيدة المواقف؟