تسعى السلطة الحالية للبلاد جاهدة بناء اقتصاد وطني قوي متنوع يرتكز على قطاعات متعددة وليس على قطاع واحد بلغ فيه نسبة الصادرات أكثر من 92 % حسب التقرير الأخير للديوان الوطني للإحصائيات ، مبرزة نيتها وإرادتها الفعالة والجادة في تنويع الاقتصاد من خلال مختلف الاجتماعات والقرارات ذات الأهمية وفي أعلى المستويات في هرم الدولة من خلال اجتماعات مجلس الوزراء المتعددة وتحت قيادة رئيس الجمهورية مستحضرة أولا واقع وحال الاقتصاد الجزائري المتمثل في مجموع التهديدات المحتملة مقابل الفرص والمميزات المتاحة ، هذه التهديدات تتمثل أساسا في العجز الدائم لميزان المدفوعات وخاصة عجز الميزان التجاري حسب آخر تقرير للديوان المذكور واعتماد الاقتصاد على قطاع المحروقات إضافة إلى عجز موازنة الدولة رغم تخفيض النفقات العمومية والاعتماد على سعر مرجعي تم تخفيضه إلى 30 دولار للبرميل وهو قرار شجاع إضافة إلى الاستيراد المفرط لكثير من السلع الذي حطم المؤسسات الموجودة كما بلغ التهرب الضريبي مبالغ كبيرة جدا ومنظومة مصرفية ثقيلة وتقليدية لم ترقى لدعم المؤسسات زد على ذلك تغول السوق السوداء للسلع والصرف والكتلة النقدية خارج الدورة والذي أيضا بلغت أرقاما كبيرة جدا ومقلقة ، يضاف إلى هذه التهديدات عامل الوضع الصحي العالي الصعب والذي عطل المؤسسات الاقتصادية عن نشاطها خاصة الخدماتية منها كما أثر على أسعار النفط والذي استدركته السلطات الجزائرية بتخفيض السعر المرجعي كما ذكرنا سابقا . كما يقابل هذه التهديدات الموجودة أو المتوقعة مجموعة الفرص والمزايا الخاصة بالجزائر كالموقع الاستراتيجي المهم حيث توجد الجزائر في منطقة تواصل بين القارات الثلاث الإفريقية والأوروبية والآسيوية وكذا المساحة الواسعة للبلاد ومقدرات فلاحية متنوعة مناخية وموسمية كالسهول والهضاب والصحراء وساحل يمتد لأكثر من 1.200 كلم إضافة إلى طاقات متجددة للشمس والرياح ومناجم متعددة ومتنوعة متمثلة في الذهب والفولاذ والحديد ومختلف المعادن الثمينة وطاقات بشرية تمثل نسبة الشباب منها نسبة كبيرة تفوق وتميز كثيرا منها في المجال العلمي والتكنولوجي مما يسهم في انتقال اقتصادي للمعرفة تستعمل فيه التكنولوجيات الحديثة الذي يوفر الوقت والجهد والكلفة كالتجارة الالكترونية والدفع الإلكتروني وغيرهما . وعليه فلا يمكن تصور وبناء خطة لا تأخذ في الحسبان واقع الاقتصاد الجزائري المتمثل في مجموع التهديدات المحتملة والفرص والمميزات المتاحة ثم تنطلق إلى بناء رؤية اقتصادية واضحة المعالم تعتمد أساسا على تثمين واستغلال أمثل للقدرات الطبيعية والبشرية بهدف بناء اقتصاد متنوع المشارب ليس معناه الاستغناء عن قطاع المحروقات الذي يعد سلعة واسعة الاستعمال سواء للأفراد أو المؤسسات الاقتصادية أو الدولة عموما مهما كانت الظروف بل يجب التوسع في إنتاجه وخلق استثمارات أكثر والاتجاه نحو إنتاج النفط الصافي والقضاء على الاستيراد فيه إضافة للتوسع في إنتاج الغاز بكل أنواعه خاصة المكثف الذي تعتبر أسعاره مغرية جدا وتكلفته قليلة وكذا الاهتمام بالصناعات البتروكيميائية لكن بالمقابل دفع الاستثمارات نحو القطاعات الأخرى التي تمتاز بها الجزائر كالفلاحة التي تعتبر المحرك الأساسي للاقتصاد باعتبارها أولا أمنا غذائيا مهما حيث يجب أن يحضى القطاع الفلاحي بأهمية بالغة باعتباره القطاع الذي يغطي جل احتياجات الساكنة وهو الغذاء ويقدم للاحتياجات الأخرى الكمية المعتبرة من المادة الأولى كالصناعات النسيجية والغذائية والمصبرات من خلال المنتوجات الفلاحية المتعددة كما قد يسهم أيضا في احتياج الدواء . إن الوضعية الحالية لقطاع الفلاحة بالجزائر ليست في مستوى ما تمتلكه الجزائر من مقومات زراعية وحيوانية وغابية ومن المساحات الواسعة بكل أنواعها كالصحراوية والسهلية والسهبية، وأيا كانت أسباب تأخره عن الإقلاع الحقيقي ولعب دوره الأساسي في الاقتصاد سواء تعلق الأمر بمرحلة التنمية المخططة غير المتوازنة التي أعطت الأولويات لقطاعات أخرى كقطاع المحروقات أو نتيجة التغييرات الهيكلية العديدة التي عرفها القطاع الفلاحي والمشاكل التي عاناها ، فإن النتيجة هي التبعية الغذائية في وقت أصبح فيه الغذاء سلاحا كبيرا ووسيلة تستعمل لإخضاع الشعوب والأمم ، لذلك وجب على السلطات العليا إعطاء الأهمية البالغة لهذا القطاع وتشخيص معوقاته وعقباته التي يعاني منها ثم وضع استراتيجيات تنموية فعلية كفيلة بإزالة أو الحد من هاته العقبات بغية جعل هذا القطاع الاستراتيجي يلعب دوره الأساسي في الحد من التبعية الغذائية وتحقيق الأمن الغذائي في المرحلة الأولى ثم المرحلة الثانية لعب دور تنويع الصادرات خارج المحروقات لما له من فعالية كبرى في عملية التنمية وتشكيل مجال واسع لتشغيل اليد العاملة وامتصاص البطالة خاصة في المناطق الريفية ، لذاك فإن كثيرا من البحوث لا تزال تتطور قصد الوصول به إلى مسايرة التحديات الاقتصادية الحديثة . كما يجب مساهمة القطاع الصناعي الخاص في الإنتاج الاقتصادي الوطني وتطوير أدائه فجعل من الحكومة تحضير مخطط إقلاع اقتصادي ذو جدوى اقتصادية وبدراسة استشرافية وليس ظرفية تهدف لتعزيز النمو الاقتصادي والإسهام في تنمية الناتج الداخلي الخام بتوفير الاحتياجات الداخلية من السلع والخدمات في مرحلة أولى يتم فيها استغلال القدرات المحلية من الطاقات الطبيعية والبشرية ثم في مرحلة ثانية يمكن الاستعداد لتحضير منتوجات صناعية ذو ميزة تنافسية عالمية يتم فيها الإسهام وبشكل فعال في التصدير والتنافس مع قطاع المحروقات ، كل هذا يجب أن يمر عبر مراحل مهمة كالتعريف بالفروع الصناعية ذات النمو العالي وتحليل القدرة التنافسية تحديد نقاط القوة والضعف للصناعات الجزائرية وتذليل الصعوبات التي قد تواجهها بتوفير المناخ اللازم سواء للاستثمار المحلي أو الأجنبي وإنشاء صناديق لتمويل الصناعة مع تسهيل إجراءات إسهام رجال الأعمال برؤوس أموالهم لتدعيم هاته الاستثمارات إضافة إلى تقييم الموارد المحلية والصناعات الموجودة وإحيائها كالصناعات البتروكيميائية والحديد والمعادن ومواد البناء والنسيج والكهربائية والالكترونية والصناعات الصيدلانية والغذائية ، وإضافة صناعات جديدة كصناعة الاتصالات والسيارة في مرحلة أخرى مع الاهتمام بالعامل البشري وعدم الاكتفاء به فقط كعامل إنتاج بل يجب تطوير وتنمية مهاراته والعمل على تكوينه بعقد اتفاقيات مع الجامعات ومنحه شهادات عليا جامعية مهنية تسمح له بالابتكار والمعرفة ، كل هذه الصناعات يجب أيضا حمايتها من الاستيراد المفرط كما يجب على الفرد في المجتمع بالتحلي بثقافة أولوية المنتوج المحلي واقتنائه وعدم التفاخر بالمنتوجات الخارجية التي يمكن للجزائري أن يبدع فيها كما هو مطلوب من السلطات البحث عن أسواق خارجية للمنتوجات الموجه للتصدير ومنحها امتيازات جبائية لتلعب الدور المهم في تنويع الصادرات . ومنه وبناء على هذه الرؤيا المفصلة والواسعة للاقتصاد الحقيقي يمكن لنا تحديد أهداف واقعية وبسيطة ممكنة التحقيق تتمثل أساسا في خلق استثمارات فلاحية وصناعية وتوسع في قطاعات المحروقات واهتمام أكثر بالطاقات المتجددة والمناجم من خلال الاعتماد أساسا على وسائل مالية وبشرية ومادية وهيكلية تكون ضرورية لتحقيق الأهداف المرحلية متوسطة الأجل ولذلك فإن جل الوسائل والآليات تندرج ضمن التشريعات والقوانين اللازمة والمستقرة خاصة فيما تعلق بقانون الاستثمار الذي يحفز ويوفر المناخ الملائم لجلب الاستثمارات المحلية والأجنبية والذي يعالج العوائق المختلفة كالعقار وتحويل الأرباح والضرائب والجمركة كما تعد المنظومة المصرفية عاملا مهما لدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومرافقتها وتوجيهها نحو نشاطات الإنتاج وخلق التوازن مع قطاع الخدمات رغم أهميته خاصة فيما تعلق بالتسويق والجمركة والتخزين إذ تعد هذه الخدمات مهمة جدا لكن وجب التوسط بين الإنتاج والخدمات وبناء شبكة مؤسسات اقتصادية متكاملة تعمل في كل المجالات وتسهيل نشاطها وتحفيزها وحمايتها من الاستيراد والمنتوج الأجنبي ومنحها الطلبات العمومية من خلال الصفقات العمومية بالتساوي حسب النشاط والصنف والجدية مقابل التزاماتها بتوفير مناصب الشغل وإسهامها في تنشيط الدورة الاقتصادية والالتزام بدفع الضرائب والاشتراكات المختلفة وإمكانية مساعدتها في تسويق منتوجها والبحث لها عن أسواق أجنبية تسهم من خلالها في الصادرات خارج قطاع المحروقات كما يجب الرقابة الصارمة عليها مع تحفيز المؤسسات الفعلية في نشاطها . أحمد سواهلية أستاذ جامعي وخبير اقتصادي