إذا كان الأميركيون مقتنعين بحاجة أميركا إلى تغيير جذري وعاجل، وانتخبوا أوباما لإحداث التغيير المنشود، فكيف بأوضاع البلاد العربية والإسلامية حيث الحاجة إلى التغيير الجذري والعاجل أوضح من أن تحتاج إلى دليل وإقناع، خاصة بعد كل ما كشفته الحرب على غزة وما صاحبها وتلاها من تداعيات. لقد أسقط العدوان على غزة الأقنعة وتكشفت الحقائق ولم يبق لأحد -حاكما أو محكوما- عذر في عدم إدراك خطورة أوضاع العالم العربي والإسلامي وحتمية التغيير، وفي عدم تحمل المسؤولية والمساهمة بل المسارعة في إحداث تغيير جذري يتعاون عليه الجميع يوقف مسيرة التدهور وينقذ بلاد العالم الإسلامي من ورطة خطيرة ومستقبل مظلم في هذا العالم الذي ليس فيه هبات ولا يحترم إلا من يحترم نفسه ويفرض احترامه. كما أن الصمود الأسطوري لشعب غزة، والهبة المشرفة للشعوب الإسلامية وأصحاب الضمائر الحية، والمواقف المشرفة لبعض الحكومات وعلى رأسها الحكومة التركية، أحيا الأمل في التغيير وأثبت أن الأمة الإسلامية لم تمت فيها مشاعر النخوة وروح التضامن والاستعداد للتضحية، وكل ذلك من المبشرات. ولكن لا ينبغي لأحد أن يبني على ذلك أوهاما، فمرة أخرى تفاجأت الشعوب العربية والإسلامية بحدث يخطط له ويصنعه الآخرون، ومرة أخرى أتى الرد الشعبي والرسمي عاطفيا ومحدودا في سقفه ومدته وأثره، ولم يتجاوز الاحتجاج والإغاثة والمناشدة. وتحولت الدول إلى جمعيات خيرية وشركات بناء لا تتحدث إلا عن المساعدات والإعمار، وعجزت حتى عن عقد قمة طارئة لتستنكر وتندد، بل إن بعضها لم يتحرج من المجاهرة بدور الوسيط أو الشامت أو المتواطئ. أوضاع العالم العربي والإسلامي مخجلة ومفزعة ولم تعد تخفى على أحد. فالسلوكيات والأحدث ما انفكت تكشف المزيد من الأمراض، والأرقام والإحصاءات التي توصّف الأوضاع وتَطَوّرها في جميع المجالات ما انفكت تؤكد مدى هامشية هذه البلدان وهشاشتها وتخلفها، وتكشف المزيد من جوانب التخلف ومظاهر الجمود المزمن الذي يخيم على الحياة العامة في جل بلاد العالم الإسلامي بالرغم من التغير السريع الذي يشهده العالم. نعم إن العولمة والخصخصة أعادا توزيع الثروة (أو قل تكديسها) وأوجدا حراكا اقتصاديا وتجاريا وتطورا ملحوظا في الخدمات والبنية التحتية خاصة في العواصم والمدن السياحية. واستفاد من هذا الوضع الجديد عدد من المواطنين، بعضهم ممن له صلة بالحكم أثرى، وبعض آخر تمكن من تحسين وضعه من خلال العمل مع الشركات الأجنبية أو من خلال بعض الأعمال الحرة. ولكن هذا الحراك -وإن أدى إلى نجاحات فردية ومظاهر ومشاريع استعراضية- لم يترجم إلى تنمية حقيقية ولم يبن اقتصادا وطنيا قادرا على المنافسة أو حتى الصمود في وجه العولمة المتوحشة. كما أن الحراك الاقتصادي والتجاري لم يشمل الكثير من المواطنين الذين كان نصيبهم التهميش والبطالة والفقر والحرمان والسكن في الأحياء العشوائية والقصديرية بل في المقابر.السبب في ذلك أن الحراك الاقتصادي والتجاري تحقق بوصفات لتحرير الاقتصاد ولإصلاحات هيكلية وضعتها الدول والشركات الكبرى وفرضتها من خلال الأذرع المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولأن تلك الدول والشركات والأذرع ليست جمعيات خيرية، فإن وصفاتها لم تراع إلا مصالحها التي تتحقق بمزيد من الإلحاق والاستهلاك وليس بمزيد من الإنتاج والتنمية والاستقلال. ولذلك لم يكن صدفة أن يتحرر الاقتصاد في ظل أنظمة دكتاتورية، وألا تواكب الانتقال إلى اقتصاد السوق أيّ إصلاحات سياسية. ونتج عن هذه الازدواجية الغريبة بين اقتصاد السوق وشمولية النظام تكدس الثروة والسلطة في أيدي قلة من الناس وتفشي الاستبداد والفساد، وتحول جل دول العالم الإسلامي إلى دول تابعة تستند فيها الأنظمة الحاكمة -وجودا وبقاء- إلى الخارج. كما أنه لم يكن صدفة أن يتم إضعاف المجتمع المدني وتعميق الفوارق الطبقية، وذلك من أجل تسهيل الإلحاق وتشجيع الاستهلاك، فتقلصت الطبقة الوسطى وأصبح المجتمع فاقدا للقناعة وللمناعة، وتفشت ظاهرة الاستدانة والمنافسة المحمومة على المظاهر والكماليات والملذات، حلالها وحرامها.وتساوى الجميع -وإن اختلفت الأسباب والأهداف- في فقدان الأمان وفي الهوس بالمال والقلق على المستقبل. ونتيجة لهذه الأوضاع وبتغذية من الفضائيات ومواقع الإنترنت الهابطة انتشرت السلوكيات المنحرفة و"الحلول" اليائسة لجمع المال وللهروب من الواقع كالمخدرات والجريمة بأنواعها والدعارة والرشوة والقمار والزواج العرفي والشعوذة وقوارب الموت. وفي مثل هذه الدوامة يصبح اهتمام المواطن العادي بالشأن العام فضلا عن الانخراط فيه ترفا فكريا، اللهم إلا إذا كان ذلك تنفيسا بالقول فيما هو مسموح به من القضايا وبالدرجة المسموح بها. إن العالم العربي والإسلامي في ورطة ساهم فيها كل الأطراف، وأخطر ما فيها أنها نتاج لحلقة أو حلقات مفرغة وتفاعلات متسلسلة لم تزدها الأيام وسلوكيات الأطراف المعنية إلا استحكاما، ولا تلوح في الأفق أي مؤشرات للخروج من هذه الورطة خاصة أن الجميع يصر على التنصل من المسؤولية ويتمسك بنفس المقاربات والسلوكيات رغم ثبوت فشلها وعقمها، كما أن أطرافا رئيسة في المعادلة غير منزعجة من الوضع القائم وغير حريصة على تغييره. ولذلك فإن أي تغيير أو خروج من هذه الورطة يستوجب كسر هذه الحلقات بعد تشخيصها والإقرار بها وبالمساهمة فيها، والقيام بمراجعات حقيقية وشجاعة تؤدي إلى تحمل المسؤوليات، وتغيير في القراءات والمقاربات، ودراسة لكل السيناريوهات، والانفتاح على كل الخيارات، والاستعداد لكل الاحتمالات. وتتشكل هذه الحلقة المفرغة التي تنهش جسم العالم الإسلامي وتعرقل عملية التغيير فيه من ثلاثة أضلع رئيسية: أولها: الترابط الوثيق بين مصالح النخب الحاكمة في الحفاظ على السلطة والامتيازات، وبين المصالح الأجنبية التواقة للمزيد من النفوذ والثروات والأسواق. هذا الترابط معلوم ومرفوض لدى الشعوب ولكن القليل من يدرك أنه في الحقيقة ورطة ومأزق، لأنه ما انفك يتكرس ويترسخ سواء حمل عليه الناس أو تركوه. الضلع الثاني للمأزق: يتمثل في الاشتباك المزمن وحالة "اللاحرب واللاسلم" بين المعارضة خاصة الإسلامية منها وبين الأنظمة القائمة. وكما غابت القدرة على حسم هذا الاشتباك المزمن، فقد غابت الجرأة والحكمة والمناورة والمرونة لفكه، فتحول إلى ورطة وحلقة مفرغة يغذي بعضها بعضًا. فلا الأنظمة تمكنت من تصفية المعارضة -وإن تمكنت من تهميش بعضها وترويض بعض آخر- ولا المعارضة نجحت في تغيير الأنظمة أو إصلاحها أو حتى إضعافها. ولعل هذه الورطة هي الأخطر والأكثر استحكامًا، وهي التي تغذي جل الحلقات الأخرى وتحول دون حلحلة الموقف. ويحتاج كسرها إلى الكثير من الشجاعة والحكمة والمرونة من الطرفين أو على الأقل من الطرف الذي له مصلحة كبرى في حلحلة الوضع القائم. العقبة الثالثة أمام عملية التغيير: تتمثل في الغياب المحير لصاحب الشأن: الشعب، وعزوفه -طوعا أو كرها- عن الشأن العام. فبسبب قلة الوعي بخطورة الوضع أو عدم الاهتمام، ونظرًا لغياب ثقافة الانخراط في الشأن العام وتفشي ثقافة الخلاص الفردي، وبسبب الإحباط المتكرر والطموحات المنخفضة التي لا تتجاوز البعد الشخصي والمادي، وتحت وطأة الضغوط السياسية والمعيشية، نتيجة لكل ذلك أصبحت جل الشعوب العربية والإسلامية حريصة على حياة -أيّ حياة - ومستعدة لمقايضة الحرية والعدالة والسياسة وحتى الكرامة بالحياة والأمن.فاهتمامات المواطن العادي وطموحاته لا تكاد تتجاوز نفسه وأسرته وتكاد تنحصر في الجوانب المادية، ونادرا ما تشمل أوضاع البلاد والعباد ومستقبلهم. العديد من المواطنين يتابعون الأخبار ويتحدثون في السياسة كما يتحدثون في الرياضة حديث المتفرج الذي لا يترتب عليه عمل ولا أثر، وهو أقرب للغو والتنفيس والتسلية أو قتل الوقت. طبعا القسط الأكبر من المسؤولية في عدم انخراط جل المواطنين في الشأن العام تتحمله القيادات والنخب المتنازعة التي عجزت عن تعبئة الشعب وتفعيله وتأطيره. ولكن تظل الاستقالة الشعبية وفقدان إرادة التغيير سواء بسبب غياب الوعي بضرورة التغيير أو بسبب فقدان الأمل في إحداث التغيير العقبة الرئيسية أمام أي جهد تغييري في العالم العربي والإسلامي. لقد مر على العرب والمسلمين زمن طويل وهم خارج ساحة الفعل، خاضعين للاستعمار الذي مهدت له قابلية الشعوب للاستعمار، ثم خاضعين -وإلى حد ما قابلين- للاستبداد. ولقد أحدثت فترات الاستعمار والاستبداد في المجتمعات الإسلامية تشوهات فكرية ونفسية وخلقية واجتماعية وسياسية واقتصادية عميقة. ولئن نجحت الشعوب في إجلاء الجيوش المحتلة فإن التضحيات الجسام التي بذلتها في مقاومة الاحتلال لم تؤت الثمار المطلوبة ولم تحقق تطلعات الشعوب للاستقلال والحرية والعدالة والتنمية. وتحول إجلاء الجيوش إلى غاية بدل أن يكون مرحلة توجه بعدها التعبئة التي صاحبت المقاومة والجلاء نحو التنمية وبناء الدولة وتحويل الجلاء إلى استقلال. فكان أن تحول النجاح الباهر في المقاومة إلى فشل ذريع في البناء والتنمية.وللأسف فإن تحول الهدف المرحلي إلى رسالة يخلد الفرد أو الشعب بعد تحقيقها إلى الراحة، وتحول الوسيلة إلى غاية -إن وجدت غاية ورسالة- يمثل ظاهرة متكررة في حياة المسلمين الخاصة والعامة، وعواقبها وخيمة إذ تحول دون الحفاظ على التعبئة، ودون الانتقال السلس من مرحلة إلى أخرى، ودون مراكمة المكاسب والإنجازات لتحقيق نقلة نوعية أو اختراق، ودون أن تترجم الأهداف المرحلية إلى أهداف إستراتيجية (إن وجدت). فبعد إجلاء الجيوش الأجنبية قطفت ثمرة جهاد الشعوب نخب افتقدت للرؤية والقدرة والأمانة المطلوبة في القيادة الناجحة. وبدل من أن تبني دولة مؤسسات، وظفت هذه النخب إمكانات البلاد لبناء نظم استبدادية فاسدة وفاشلة رفعت شعارات التنمية والوحدة وتحرير فلسطين وحتى الإسلام، فغضت الشعوب الطرف نسبيا عن مساوئ الأنظمة بما في ذلك القمع، ولكن مع فشل الأنظمة في تحقيق أي من الشعارات التي رفعتها بدأت الشعوب تشعر بالإحباط وخيبة الأمل، فعادت، بعد أن استيقظت من غفوتها وتخلصت من آثار الصدمة ، عادت للنضال لتحقيق نفس المطالب التي قاومت من أجلها الاحتلال الأجنبي. قادت الشعوب في صراعها مع الأنظمة أحزاب وتيارات علمانية قومية ويسارية، ثم تسلمت قيادة الشعوب الحركات الإسلامية. ولكن في جل الحالات تمكنت الأنظمة من "الصمود" في وجه كل محاولات الإصلاح أو التغيير، وبالرغم من تكرر المحاولات وجسامة التضحيات فإن أثر عقود من النضال العلماني والإسلامي في البلاد العربية والإسلامية في أوضاع الأنظمة والشعوب كان محدودا، ونجحت الأنظمة في احتواء هذه الجهود أو تهميشها أو محاصرة أثرها. ونتيجة لجملة من العوامل المتشابهة وغير المتشابهة أصبح الكثير من الأحزاب والحركات المعارضة جزءا من الواقع القائم الذي قامت لتغييره، وتحول من قوة تغيير إلى إزعاج تمرست الأنظمة على الحد من تأثيره على الشارع وعلى أجندتها، بل إن بعض تلك الأحزاب والحركات تحول إلى عقبة أمام التغيير. ومنذ جلاء أو إجلاء الجيوش المحتلة والعالم الإسلامي يدور في حلقة مفرغة لم يزدها الزمن وتصرفات الأطراف المعنية (النظام، الراعي الأجنبي، المعارضة، الشعب) إلا استحكامًا، وما انفكت الأوضاع السائدة تتجذر وتتدهور. فسياسات الدول الإسلامية والأجنبية لا تزيد المعارضة والشعوب إلا نقمة، وفي المقابل فإن هذه النقمة لا تزيد النظم الإسلامية إلا جزعا وتصلبا، ولا تزيد العلاقة بين النظم الإسلامية من جهة والدول والشركات الأجنبية من جهة أخرى إلا رسوخا، حتى إن بعض الأنظمة العربية والإسلامية -كما كشفت الحرب على غزة- أصبحت تتصرف بوضوح وعلانية غير مسبوقين- كأنها أجهزة تنفيذية وأمنية لحكومات أجنبية، تنفذ ما يليها من قرارات واتفاقات تلك الحكومات. كما أن الاحتقان الذي لا تتوفر له قنوات للتعبير الإيجابي، كثيرا ما يتحول إلى يأس أو سلبية أو هروب من الواقع أو استسلام له أو تنفيس بدون تأثير أو بتأثير عكسي، وكلها عوامل مغذية ومكرسة للوضع القائم ومعرقلة للتغيير. وبالرغم من الجهود المخلصة والتضحيات الجسام، فإن العالم الإسلامي لا يتقدم نحو أي تغيير حقيقي، ولا تكاد توجد في العالم الإسلامي أعمال ولا خطط واقعية يمكن أن تؤدي إلى إحداث تغيير، بل إن التغيير في العالم الإسلامي اليوم لا تتوفر له الإرادة ولا القيادة فضلا عن الرؤية. كثيرون أولئك الذين يتذمرون من الوضع القائم ويتمنون التغيير ولكن ما نيل المطالب بالتمني ولا بالتذمر ولا حتى بالصبر السلبي الذي لا تصحبه خطة وعمل ومحاولات جادة للخروج من المأزق.فالتغيير يستوجب فهم الواقع وحسن التفاعل معه والحكمة في إدارة عملية التدافع ودفع استحقاقات التغيير سواء كانت تضحيات غير مجانية أو تنازلات غير مخلة بثوابت الدين.