جاء انتخاب باراك أوباما حدثاً شاذاً بين رؤساء الولاياتالمتحدة الأميركية منذ استقلالها حتى تاريخه. وقد تمثل الشذوذ من خلال لون بشرته واسم أبيه، أما ما عدا ذلك من حيث خروجه من أحد الحزبين اللذين يتداولان السلطة ويحتكران الرئاسة ومجلسي النواب والشيوخ، أو من جهة رضا الأجهزة بما في ذلك رضا الجيش عن ترشيحه وانتخابه رئيساً أو من جانب الطبقة الرأسمالية المسيطرة، فهو ضمن القاعدة الأميركية في الترشح والانتخاب والوصول إلى الرئاسة. التفريق بين ما هو شاذ وما هو ضمن القاعدة العامة في انتخاب باراك أوباما لرئاسة الولاياتالمتحدة الأميركية، ضروري لئلا يؤدي الالتباس إلى إصدار أحكام خاطئة في فهم الرجل وعلاقته بالمؤسسة الأميركية الحاكمة وبالمصالح الأميركية العليا التي حكمت سياسات الرؤساء الأميركيين جميعاً داخلياً وخارجياً. وهنا يجب أن يسقط ما هو شاذ في انتخاب أوباما أمام ما هو القاعدة في فهمه، أو في توقع ما سيخرج من إدارته ومنه من سياسات أميركية. إذا كان هنالك ما يمكن أن يُحدث تمييزاً فلن يكون مختلفا عما يميّز -أو ميّز- كل رئيس أميركي عن الرؤساء الآخرين، وهو تمييز في شكل الإداء وليس في الجوهر والاتجاه العام. ويتوّلد التمييز بالنسبة إلى كل رئيس من سماته الشخصية جزئياً، بما يكاد لا يذكر من حيث أهميته، قياساً بأهمية خصوصية الظروف وموازين القوى اللتين تفرضان حتماً ذلك التميّز. فشتان بين رئيس واجه حرباً عالمية أو أزمة اقتصادية عالمية، ورئيس جاء بعد انتصار في حرب عالمية أو خروج من الأزمة الاقتصادية، أو جاء في ظروف سيادة الإمبراطورية البريطانية عالمياً، أو ظروف الحرب الباردة، أو ظروف ما بعد انتهاء الحرب الباردة وهكذا. ولهذا يجب أن يُقرأ أوباما وما يُتوقع منه، لا من خلال لونه وانحداره من أب مسلم لم ينشأ في كنفه، وإنما من خلال الظروف وموازين القوى الراهنة وما يتوّلد من تحديات داخلية وخارجية في وجه الولاياتالمتحدة. فترشيح المؤسسة الحزبية (الحزب الديمقراطي) وبعض مراكز القوى المتنفذة لأوباما -كعادة الترشيح لرئاسة الولاياتالمتحدة- جاء في ظروف قادت إلى اختياره بما يملك من صفات شخصية "كاريزمية" وخطابية تحتاج إليها المرحلة أو تلك الظروف، وهو ما سمح بتجاوز شذوذ اللون واسم الأب، وليس دين الأب لأن باراك نشأ بروتستانتياً. وجدت الولاياتالمتحدة نفسها في أواخر عهد جورج دبليو بوش ومنذ المراحل الأولى لاختيار مرشحي الانتخابات الرئاسية القادمة، في حالة تدهور على مستوى نفوذها العالمي نتيجة سلسلة من الإخفاقات الكبرى، ومن ضمنها التورط في حروب فاشلة أنهكت الميزانية وهبطت بسمعة أميركا العالمية إلى الحضيض، وأدت إلى بروز منافسين دوليين كبار عسكرياً واقتصادياً. ووجدت الولاياتالمتحدة نفسها وهي في حُمى الانتخابات بين براثن أزمة مالية واقتصادية دونها أزمة أوائل ثلاثينيات القرن العشرين. فقد طارت هباء التريليونات من الدولارات الرقمية الوهمية، وسقط الاقتصاد الحقيقي في الركود، فراحت كبريات المصارف والشركات تعلن الإفلاس وترسل ملايين العمال والموظفين إلى البطالة. وبكلمة، وجدت الولاياتالمتحدة نفسها في حفرة عميقة لم تدخل مثلها من قبل، بل لم يحدث من قبل أن وجدت نفسها في حفرة عدا الأزمة الاقتصادية 1928-1932. ولكن هذه لم تكن بعمق الحفرة الراهنة، ولم تصاحبها أزمة أميركية سياسية عالمية بحجم الأزمة الأميركية الحالية، بل كانت في حالة صعود عالمي سياسياً وعسكرياً في تلك المرحلة. هذا السقوط في الحفرة هو الذي كان بحاجة إلى شخصية رئيس يتمتع بما يتمتع به باراك أوباما من كاريزمية شعبية وخطابية مليئة بوعود التغيير والخلاص، وهو ما يفسّر انضمام ملايين الشباب إلى حملته الانتخابية. كما يفسّر من جهة أخرى الترحيب العالمي الذي لقيه نجاح أوباما في الانتخابات، فهنالك دول تزعزعت أوضاعها وسمعتها بسبب سيرها في ركاب إدارة بوش الفاشلة، وهنالك نخب تماهت مع العولمة والأمركة وحتى الصهينة أُحرجت وعُزلت و"تبهدلت" بسبب الإخفاقات التي صاحبت إدارة بوش وما لحق بها من سوء سمعة، كما بسبب السقوط المدوي للرأسمالية العولمية الليبرالية بكل ما حملته من نظريات اقتصادية وقِيم هابطة. هذا كله أدى إلى أن تُنسج أوهام كثيرة حول أوباما وما يمكن أن يفعله، ووصل الأمر ببعض الإسلاميين (قلة) إلى أن يتصوروا تأثيراً كبيراً لأبيه المسلم عليه أو لكون أبيه مسلماً، فأخذوا يعتصرون خطابيْه في تركيا ومصر ليبحثوا عن تأثير أبيه فيه "ومن يشابه أبَه فما ظلم"!؟ ولكن أوباما أثبت منذ الآن وسيثبت أكثر مستقبلاً أنه ابن الحزب الديمقراطي وليس ابن أفريقيا أو حسين أوباما، وأنه ابن المؤسسة الأميركية الرأسمالية الإمبريالية العسكرية وليس ابن التغيير الذي وعد به. ثم هنالك جزء أساسي في لغته الخطابية المنفتحة التي تمدُّ يد التعاون، نابع من أن أميركا في الحفرة ولم تخرج منها بعد، وهي بحاجة إلى من يمدّ لها يد العون لتقف على قدميها من جديد. لو جاء جون ماكين الجمهوري منافس أوباما إلى الرئاسة لما ابتعد كثيراً عما يفعله أوباما من جهة الاستجداء للخروج من الحفرة المالية والاقتصادية، وقد خطت إدارة بوش نفسها خطوات في هذا الاتجاه قبل أفولها.. بل لمَا اختلف موقف ماكين في مخاطبة العالم الإسلامي أو الحديث عن ضرورة إيجاد حل "للصراع الفلسطيني الإسرائيلي"، وحتى ضمن السقف الذي وضعه أوباما، فالظروف وموازين القوى تتحكمان بالرئيس الأميركي من حيث الجوهر، وتبقى كيفية التعبير في اختيار كلمات الخطاب مرهونة بشخص الرئيس وفريقه المتعاون معه. (فريق أوباما خليط من فريقيْ كلينتون وبوش بمن فيهم أساطين من التيار الصهيوني الأميركي). ولهذا يجب أن يوضع لون أوباما وديانة أبيه جانباً وأن يُنسيا تماماً، ليحل مكانهما صورة رئيس يريد أن يُثبت أنه من "الواسبس" (البيض الأنغلوسكسون البروتستانت الأميركيون)، بل أشدّهم انتماء وإخلاصاً. فاللون وديانة الأب قد تلعبان دوراً معاكساً على الضد مما قد يذهب إليه التبسيطيون أو العنصريون المتعصبون، وهو ما فعلته كوندوليزا رايس على سبيل المثال، وما يفعله الكثيرون ممن يدخلون المؤسسة فيصبح إثبات إخلاصهم وانتمائهم لها هاجساً يسكنهم. ما تقدّم يظل ضمن التنظير الذي ستثبت التجربة مدى صحته أو غلطه، أو مدى دقته ومبالغته. ولكن ماذا لو وضعنا أوباما على محك التجربة بالنسبة إلى القضية الفلسطينية كما تجلت مواقفه ومواقف إدارته حتى الآن؟
بكلمة قاطعة ومطمئنة.. لم يخرج أوباما وإدارته قيد أنملة عن السقف الذي وضعه بوش وإدارته للمشكلة الفلسطينية:
1- "حلّ الدولتين" وهو الحل الذي سُمّي رؤية بوش، وقد خرجت تلك الرؤية بالاتفاق المسبق مع أرييل شارون، وهو حل تصفوي للقضية الفلسطينية لما يتضمنه -في ما سيتضمنه- من إنهاء مشكلة اللاجئين عبر التعويض والتوطين وربما "الوطن البديل"، وإنهاء كل مطالبة سابقة لحرب يونيو/حزيران 1967، أي كل ما قام عليه الكيان الصهيوني، ثم ما ستسفر عنه المفاوضات الثنائية من ضم للقدس الكبرى عدا الأجزاء التي تقوم عليها المقدسات في القدس القديمة، حيث ألمحت إدارة أوباما إلى ترتيبات دولية للإشراف عليها في حين كانت رايس قد تحدثت عن شطريْ القدس (السقف هنا أعلى من سقف أوباما من وجهة نظر "المفاوض الفلسطيني"). أما بالنسبة إلى مختلف القضايا الأخرى المتعلقة بالدولة الفلسطينية والحدود والمستوطنات والجدار والطرق الالتفافية، فقد تركتها إدارة أوباما كما فعلت إدارة بوش للمفاوضات الثنائية واتفاق الطرفين. وباختصار "حلّ الدولتين" يعني الحل النهائي للقضية الفلسطينية. 2- استمرت إدارة أوباما في التأكيد على خريطة الطريق وشروط الرباعية والدول المانحة ونهج أنابوليس في إجراءات عملية التسوية والوصول إلى "حل الدولتين"، بما يتضمن استمرار الجنرال دايتون ببناء الأجهزة الأمنية وقيادتها في تصفية خلايا المقاومة وكل ممانعة (لاحقاً)، مما يعني أن أوباما تبِع خطى بوش في قمع الشعب الفلسطيني بالضفة الغربية. 3- لا يختلف الموقف من حماس المرهون بشروط الرباعية إلا في تكثيف الاتصالات غير المباشرة وعبر وسطاء من نمط كارتر، لتحقيق ما لم تستطع إدارة بوش تحقيقه في تعاملها مع حماس. فأوباما كان مطلعاً على العدوان على قطاع غزة، وثبتت إدارته الاتفاق الذي عقدته رايس وليفني بمشاركة فريق من عند أوباما حول الحصار البحري لقطاع غزة. ولا يمكن إعفاء إدارة أوباما من المشاركة في حصار القطاع طوال الأشهر الستة الماضية. 4- حدد أوباما شرطين على نتنياهو ليطالب العرب بالتطبيع والاعتراف، وهما وقف النمو الاستيطاني والالتزام بالسلام، وقال في "مبادرة السلام العربية" ما لم يجرؤ بوش على قوله علناً، إذ اعتبرها خطوة إيجابية ولكن غير كافية، وطالب بأن يكون الاعتراف قبل تنفيذ شروطها، أي بمجرد بدء مفاوضات التسوية وليس بعد إتمامها، كما فعلت إدارة بوش. فمن هذه الزاوية يجب أن يسجل على أوباما موقف أشد سوءاً من موقف إدارة بوش. 5- الفارق الوحيد بين إدارتي بوش وأوباما في ما يتعلق بالاستيطان، أن الأولى طالبت بوقف النمو الاستيطاني بينما استمرت في المفاوضات الثنائية، أما الثانية فتطالب بوقفه قبل العودة إلى استئناف المفاوضات المتوقفة أصلاً. فالطرفان لم يمسّا جوهر الاستيطان باعتباره غير شرعي، وقد اختلف أداؤهما حول استمرار النمو الاستيطاني، وهو اختلاف لا يُبنى عليه تمييز بين الموقفين إلا لمن يريد التعلق بحبال الهواء. 6- جورج ميتشل في زيارته الأخيرة فسّر حل الدولتين بقيام "دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل اليهودية"، وزيادة "اليهودية" هنا ليست بلا معنى ولا يمكن المرور بها مرور الكرام، علماً بأن الشرط الأساسي لامتناع نتنياهو عن تأييد حل الدولتين يرمي إلى الضمان المسبق للاعتراف بيهودية الدولة من قِبَل الفلسطينيين. إلى هنا يكون أوباما قد سعى إلى تصفية القضية الفلسطينية عن طريق إلغاء حق العودة وانتزاع الاعتراف بيهودية الدولة (تهجير عرب 48) والاعتراف بالقدس عاصمة لها، وإخضاع الضفة الغربية للمفاوضات مما يعرّض أجزاء أساسية منها للمصادرة أو المبادلة بأراض في صحراء النقب. فضلاً عما يسعى إليه الجنرال كينيث دايتون لإيجاد قوى أمنية فلسطينية ترى في الكيان الصهيوني صديقاً أو حليفاً بينما ترى العدو في المقاومة والممانعة، وهي القوات المرشحة لأن تكون عماد "الدولة".. "الدويلة" الفلسطينية المحاصرة العاجزة الفاقدة للسيادة والقامعة لشعبها بعدما صادرت حقوقه وآماله. ومع ذلك سيظل هنالك من يرون في أوباما تغييراً إيجابياً ويدعون إلى الانفتاح عليه وتشجيعه على المضي بمشروعه الفلسطيني آنف الذكر، وكفاه إصراره على وقف "النمو الاستيطاني الطبيعي" ورفض نتنياهو حتى الآن له. وقد ترجم هذا التوجه اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة يوم 24/6/2009 إذ وعدوا باتخاذ إجراءات تساعد أوباما في سعيه لتحقيق تسوية. والمقصود هو القيام بإجراءات تطبيعية -كما طالبهم جورج ميتشل- تقدم سلفاً لأوباما ليُقنع نتنياهو بوقف النمو الاستيطاني والانخراط في مفاوضات التسوية، وبهذا يكون نتنياهو قد نجح في مناورته حين رفض الاعتراف علناً بحل الدولتين وتمسّك بالنمو الطبيعي للاستيطان بانتظار تنازلات مقابلة حتى يستجيب لضغوط أوباما. الأمر الذي لم يدركه أغلب الوزراء العرب حين وعدوا بتقديم هذه التنازلات المجانية، هو أن الحرص على التسوية لا ينبع من رغبة أوباما ومن ثم هو بحاجة إلى مساعدته في هذه المهمة الصعبة مع نتنياهو واللوبي الصهيوني، وإنما هو قرار من البنتاغون حيث قال قائد القوات الأميركية في آسيا الجنرال بتراوس إن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ضروري لمساعدة الجيش على إنجاز أهدافه في العراق وأفغانستانوباكستان وأماكن أخرى، مما يجعل حركة أوباما وميتشل مستندة إلى موقف الجيش، فضلاً عن جزء كبير من الحركة الصهيونية التي أصبحت تريد إنجاز تسوية بالشروط التي حملها أوباما وهي التي لا تختلف عن شروط بوش وشارون: "حل الدولتين" وفقاً لخريطة الطريق ونهج أنابوليس. ولهذا يكون تقديم التنازلات لأوباما لتسهيل مهمته سياسة خاطئة لا تقرأ حقيقة الدوافع الأميركية فتظنها مجرد رغبة تخص أوباما وإلاّ ضاعت الفرصة، فالجيش في أمس الحاجة إلى التسوية الفلسطينية للخروج من مآزقه العسكرية المتعدّدة، وإذا ما ساعده ذلك فعلاً وانتقل إلى تسجيل انتصارات عسكرية فسيخسر الفلسطينيون والعرب والمسلمون فلسطينياً وعراقياً وأفغانياً وباكستانياً وسودانياً وصومالياً. انظروا إلى أوباما كيف يتصرف في الحرب التي يخوضها في باكستان وماذا يفعل في أفغانستان حتى يُرى ابنا باراً للمؤسسة الإمبريالية الصهيونية العدوانية الأميركية، على الضد من كلامه المعسول في تركيا ومصر وهو يخاطب العالم الإسلامي. ولا مبالغة إذا قلنا إن القضية الفلسطينية تواجه الخطر الأكبر في تاريخها على يدي "أوباما-ميتشل".