يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج: 77) وقال أيضا: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة: 148) لقد أمرنا الله تعالى بفعل الخير والمسارعة فيه كما أمرنا بالصلاة التي هي أوكد عرى الإسلام، والخير في الإسلام يشمل كل عمل صالح، ويتناول كل خلق كريم، طاعةً لله عزَّ وجلَّ، وحباً في الفضائل في إخلاصٍ وصدقٍ حسنٍ. فالخير من اللسان قولٌ جميلٌ، والخير عند البلاء صبرٌ جميلٌ، والخير عند الخلاف صفحٌ جميلٌ. والخير أقوالٌ وأفعالٌ تغرس المحبة، وتوّرث المودة، وتوّثق الروابط، نجدةٌ وإغاثة، وتراحمٌ وملاطفةٌ، وإخلاصٌ ووفاءٌ، مشاركةٌ في السراء، ومواساة في الضراء، وكل هذه من الخيرات.ومن الخيرات التي دعا الإسلام إلى المسارعة فيها والحرص فعلها، بعد أن رسم منهجها، وأوضح آدابها، حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وفي مثل ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم ستٌ) قيل: ما هنَّ يا رسول الله؟ قال: (إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّتْه، وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتبعه)، ومن هذه الحقوق حق يخفى على الناس باختفاء صاحبه ومن يُؤدَى إليه، فإذا كانت بعض الحقوق تضيع مع حضور أصحابها ومطالبتهم بها، فكيف يُؤدى حق من غُيّب وافتُقد؟لقد كان من أدب السلف أنهم إذا فقدوا أحداً من إخوانهم سألوا عنه، فإن كان غائباً دعوا له، وخلفوه خيراً في أهله، وإن كان حاضراً زاروه، وإن كان مريضاً عادُوه. يقول الأعمش رحمه الله: كنا نقعد في المجلس، فإذا فقدنا الرجل ثلاثة أيام سألنا عنه، فإن كان مريضاً عُدناه.وحفظُ الحق حين يكون أخوك المسلم في حالةٍ من العجز أمر مؤكد، وحين يكون حبيس المرض وقعيد الفراش وفي انقطاعٍ عن مشاركة الأصحاب، يتأكد حقه وتتوجب عنايته، وهذا هو الشأن في حق المريض والسقيم، وقعيد الفراش والعليل، وقد تكفل الله بمساءلة العباد يوم القيامة عن حق المريض المُضاع، وذُكر أنه سبحانه يلوم الصحيح المِضياع، المفرّط في الأجر وعدم إجابة الرب المُطاع، ففي حديث قدسي يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة: (يا بن آدم؛ مرضت فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟). فكفى بهذه المساءلة توبيخا وتقريعا، وكفى بها حسرة على فوات الأجر والثواب في يوم يكون المرء أحوج إلى حسنة واحدة توضع في كفة حسناته لعلها تُرَجحها فيكونُ من الناجين بفضل رب العالمين.وأخرج الإمام مسلم عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي قال: (مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: (جَنَاهَا) أي: ثمارها. ومن ثواب عيادة المريض ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوةً، إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية، إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريفٌ في الجنة). وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (من عاد مريضاً ناداه منادٍ من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً) أخرجه الترمذي وحسنه.والنبي صلى الله عليه وسلم حين نبه على حفظ هذا الحق وحث عليه، أمر بالتزام أخلاق هذا الخلق ومراعاة آدابه، ففي عيادة المريض ينبغي أن يتجلى سموُّ الخلق ورفعة السلوك، لأن في عيادة المريض إيناسٌ للقلب، وإزالة للوحشة، وتخفيفٌ من الألم، وتسليةٌ للنفس والأقارب، فرب كلمة أو فِعلة في غير موضعها تفعل في المريض ما لا يفعله العدو في عدوه.ولذا كان لزاما على العائد أن يتحلى بالآداب المرعية في عيادة المرضى والزُمنى، ومن ذلك ألا يطيل العائد وقت الزيارة، ولا يَثقل بكثرة المساءلة وإطالة الحديث، ولا يذكرُ له ما يحزنه، أو يزيده وجعاً إلى وجعه، ولا يذكر صديقاً له بما يكره، أو عدواً له بما يحب، ولا يتحدث عن أهله وأولاده إلا بكل خير، رفقاً به وملاطفةً له. فإن في الإطالة إثقالاً على المريض، ومنعاً له من تصرفاتٍ قد يحتاج إليها. ومن محاسن لغة القرآن أن فرقت بالتسمية بين الدخول على القريب والحبيب وبين الدخول على العليل والمريض، وذلك لما تستدعيه حاجة كل فريق، فسمّت لقاء الأحباب والأصحاب بالزيارة، وسمت ملاحظة المريض والنظرة إلية بالعيادة، قال بعض الظرفاء لقوم عادوه في مرضه فأطالوا الجلوس: المريض يعاد، والصحيح يزار. ومن الطُرف أن رجلا دخل على عمر بن عبد العزيز يعوده في مرضه فسأله عن علته فأخبره، فقال الزائر: إن هذه العلة ما شفي منها فلان، ومات منها فلان. فقال عمر: إذا عدت مريضاً فلا تنع إليه الموتى، وإذا خرجت عنا فلا تعد إلينا. وقال سفيان الثوري: حماقة العائد أشر على المرضى من أمراضهم، يجيئون من غير وقتٍ، ويطيلون الجلوس. وقال شاعر:يعُدنَ مريضاً؛ هنّ هيّجن داءه * * ألا إنما بعض العوائد دائياأما إذا كان المريض يحب تكرار الزيارة ولا مشقة عليه فلا بأس، ومردُّ ذلك إلى الطبائع ومقتضيات الأحوال، فقد يأنس المريض ببعضٍ من قريب أو صديق حميم، ويملُّ آخرين.روي أن يحيى بن خالد مرض فكان إسماعيل بن صبيح إذا دخل عليه يعوده وهو مغمىً عليه وقف عند رأسه ودعا له ثم يخرج؛ فيسأل مرافقه أي القائم عليه في مرضه عن منامه وشرابه وطعامه، فلما أفاق يحيى، قال: ما عادني في مرضي إلا إسماعيل بن صبيح، ذلك أن المريض إنما يسره من كان خفيف الظلّ، لطيف السؤال، لين الجانب، تكفي منه النظرة التي تجلب المسرة.ومما ينبه إليه في هذا المقام أن بعض الناس يثقلون على أنفسهم؛ فيحملون إلى المريض هدايا وغيرها حتى يحسب المريض أن هذا دينا عليه إذا سلم، وقد يحملون أموراً من عادات غير أهل الإسلام، وهذا ليس من آداب الزيارة في شيء، بل هو تكلُّف ظاهر، ومجاملات ثقيلة وتقليد أعمى، وقد يدفع هذا التكلف من لا قدرة لهم إلى التقاعس عن الزيارة الشرعية التي أمر الله بها ورسوله. وإنما المريض بحاجة إلى الدعاء، والكلمات الطيبة، والملاحظاتُ الرقيقة أولى من هذه المحمولات.