لم يستطع أي طبق مأكولات أن يزيح الكسكسي عن عرشه في الجزائر منذ أزيد من ألفي سنة. فرغم تعاقب الحضارات والعادات وتنوع المأكولات خاصة في ظل انتشار الإعلام السمعي - البصري، صمد الكسكسي وظل سيد المطبخ وملك المائدة بلا منازع، ونادرا ما تجد جزائريا لا يشتهي هذا الطبق. وإلى عهد قريب كانت المرأة التي لا تتفنن في تحضير هذا الطبق مذمومة ويصعب عليها إيجاد عريس. واليوم توجد بالجزائر عشرات المصانع لصنعه وتعويض جهد المرأة ورفع هذا الشرط عنها. ومع ذلك فإن الحفاظ على التقليد مستحب بحيث تنظم مؤسسات رسمية وشبه رسمية مسابقات على مدار العام في مختلف ولايات الجزائر لاختيار أشهى طبق كسكسي تقليدي، يشارك فيها النساء والرجال بالمئات وهي أكثر أنواع مسابقات المأكولات استقطابا للمشاركين والمتتبعين على السواء، وتتضمن فضلا عن إعداد أطباق يجري تقييمها من لجنة تحكيم محلفة ويتذوقها الجمهور، محاضرات وندوات حول تاريخ الكسكسي وطرق تقديمه في كل منطقة. أقدم طبق وتفيد الدراسات أن هذا الطبق الذي تتناوله معظم العائلات الجزائرية مرة في الأسبوع على الأقل يعد أقدم طبق كامل حافظ عليه سكان الجزائر وداوموا على تناوله ولم يفقد قيمته. قالت عمار نوارة وهي أستاذة وباحثة في علم الآثار إن سكان شمال غرب إفريقيا هم أول من حضر طبق الكسكسي ودلت الكتابات بأن بدايته كانت بين 240 إلى 150 قبل الميلاد، وانتشر تدريجيا لكن لا احد يعلم بالضبط المكان الذي ولد فيه . وأكدت في محاضرة ألقتها مؤخرا بمناسبة مسابقة جرت في ولاية ميلة بأن الكسكسي كان من أهم أطباق السكان البربر ومتأصل في تقاليدهم ويعكس نشاطهم الاجتماعي المبني أساسا على الزراعة. أما الدكتورة ليلى بن عطاء الله الأستاذة بمعهد التغذية بجامعة قسنطينة فحللت تركيب الكسكسي وقالت أنه طبق كامل الفائدة يجمع سميد القمح الصلب يطهى بالبخار وكمية من الخضار الطازجة والبقول الجافة تغلى مع التوابل واللحم وتشكل المرق الذي يسقى به الكسكسي. وقالت " لقد تمكن أسلافنا من إيجاد غذاء متكامل ومفيد بالجمع بين ما يملكون من خيرات زراعية وقتها في طبق واحد عالي الجودة والقيمة الغذائية". وعرضت أمام الحضور عدة طرق لتقديم الكسكسي وقالت " خلال مسار ما يزيد عن عشرين قرنا من الزمن تطورت طرق تقديم الكسكسي وتعددت وحتى التسميات تعددت أيضا بحيث يسمى في العاصمة (الطعام) وفي قسنطينة (النَعمة) وفي سطيف (البربوشة) وفي منطقة القبائل (سكسو) وفي غرب البلاد (كسكسي) وهناك أيضا من يسميه "المردود" أو " المسفوف" لكن مكوناته هي واحدة على العموم دقيق يطهى بالبخار والخضار.
مكونات متوارثة
ولئن كانت المكونات هي واحدة فقد تفننت الأجيال المتعاقبة في إيجاد طرق متنوعة لتقديم الطبق فتارة يحضر بالمرق الأحمر وأخرى بالأبيض الخالي من الطماطم. ويفضل سكان شمال البلاد لحم الخروف والبقر فيما في الجنوب يسود الماعز والإبل كما تستخدم عائلات كثيرة الدجاج مكان اللحوم الحمراء.. والكسكسى بالمرق يقدم في معظم الولائم كما يعد الطبق المفضل الذي يكرم به الضيف. وثمة طرق أخرى لتناوله. ففي رمضان مثلا يفضله معظم الناس في وجبة السحور لكن بدون مرق، حيث يدهن بكمية كبيرة من زبدة البقرة ويخلط بالزبيب بنسبة ثلثين من الكسكسي إلى ثلث من الزبيب. وهو شهي ويقاوم العطش. ويستهلك الكسكسي أيضا بالحليب أو اللبن وفي مناطق الهضاب العليا يسقى بعسل النحل لكن هذا النوع يقتصر على ميسوري الحال كونه مكلف جدا فسعر اللتر من العسل يصل إلى ثلاثة آلاف دينار) أكثر من 40 دولار). ومنهم أيضا من يأكل الكسكسي بالسكر الناعم. ومهما كانت الفوارق بين هذه الطرق فإن الكسكسي يشترط أن يكون من سميد القمح الصلب يطهى على البخار ولا توجد طريقة أخرى لتحضيره. وطريقة الطهي بسيطة جدا، حيث توضع كمية من الكسكسي في إناء تصطف على قاعدته ثقوب صغيرة يسمى الكسكاس ويوضع الإناء فوق قدر الماء أو المرق يغلي على النار، وحين يخرج البخار بكثافة من «الكسكاس» يكون الكسكسي جاهزا فيدهن بالزبدة أو الزيت ويوضع عليه المرق أو الحليب أو العسل أو السكر... وكل بالصحة والعافية.
عالمي رقم قياسي
ويملك طبق الكسكسي الجزائري الرقم القياسي العالمي من حيث الحجم وهو مسجل في كتاب جينس للأرقام القياسية. فقد حضر طلاب معهد الفندقة والطبخ بولاية تيزي وزو طبقا عملاقا بمناسبة المسابقة العالمية التي جرت في مدينة "سان فيتو لوكابو" بصقلية في ايطاليا وفازوا بالمركز الأول. وكان طبقا بوزن 6500 كلغ منها 6 ,2 طن من الكسكسي و5 ,1 طن من الخضار وطنين من لحم الخروف. وكان الطبق كافيا لإطعام 22 ألف شخص. وصنعت شركة مؤسسة للأدوات المعدنية خصيصا لهذا الحدث طبقا لطهي الكسكسي ارتفاعه ثمانية أمتار وقطره 30,4 أمتار، يرافقه دست (كسكاس) ضخم للطهي على البخار وزنه مملوء ثلاثة . وبعد الانتهاء من تحضير الطبق شرع الطلاب بمساعدة ايطاليين متطوعين من ذوي الاختصاص في خدمة المطاعم في توزيع الوجبة على آلاف ممن حضروا الحدث. وقال الطالب رشيد أكساس وهو ممن اشرفوا على إعداد الطبق " إن كل العالم أكل من كسكسي الجزائر ولا أتصور أن ثمة جنس غاب عن الموائد ذلك اليوم".