نعم ما الذي يفرح، وأنا ما ذكرت، منذ المقال الأول من هذا العمود اليومي، سوى ما يحزن و يثير الغضب، وكأني متحامل على المدرسة والقائمين عليها، فكل ما قلته يقول القائل، يوحي بذلك. عمري العملي في ميدان التعليم الذي يزيد على نصف عمري الزمني، لا يطاوعني بأن أتحامل على المدرسة، وإن جارت علي المدرسة، كما يقول الشاعر: بلادي وإن جارت علي عزيزة، وقومي وإن ضنوا علي كرام. فكما تركت الأيام التي قضيتها بين أحضانها، أثلامها واضحة في صفحة وجهي، وقرارة نفسي، تركت أيضا إشراقات مازالت تضيء طريقي، وتمدني بنشوة الحياة المليئة . ولا أعتقد أن ميدان غير التعليم يمكن أن يوفر تلك الإشراقات والنشوة، ذلك أن عمل التعليم مختلف اختلافا جوهريا عن بقية الأعمال، والفرق لا يمكن تقليصه إلى حده الأدنى، ذلك أن العمل التربوي والتعليمي هو عمل الأنبياء، يقع في مرتبة المقدسات، فالمعلم كما يقول الشاعر:"كاد يكون رسولا" لأنه بصدد تشكيل الإنسان المستقبلي، ولا أظن أن هناك شيئا أعظم، بعد الله سبحانه وتعالى، من الإنسان! ومبعث السعادة التي أتكلم عنها ها هنا، هي هذه، الإنسان الصغير الذي شرفني الخالق بأن أكون يدا من بين الأيدي الأخرى التي تشكل صورته المتكاملة بما أبثه في روحها من قيم ومبادئ. هذه الصورة التي تقابلني في الشارع ، وهي في سعيها لوضع لبنة من لبنات بناء صرح الوطن، هي الصورة التي تفرحني و تنيرني، وذلك هو مبعث الافتخار و الاعتزاز، فإذا أنا بلغت هذا،وبنيت هذا الإنسان بهذه الصورة، فقد حق لي أن أعلق نيشان الشرف عن جدارة واستحقاق. و اليوم وأنا بعيد عن أجواء العمل التربوي، أشعر بتلك الفرحة العارمة التي تغمر كياني، كلما صادفت واحدا من أولئك الذين لمستهم بصمتي وشقوا طريقهم نحو الهدف الأسمى، وأشعر بالأسى، كلما صادفني واحد تتقاذفه أمواج الضياع.