عندما يجتمع فن الخط والهندسة والموسيقى فذلك التميز بعينه، أحب الخط العربي منذ صغره فغزلت يداه أجمل اللوحات بخط الثلث، كيف لا وهو يخطو كل يوم خطوة للإقتداء بكبار الخطاطين رافعا لواء التعلم، ولعل البوابة التي يراها المفتاح للولوج نحو أسرار هذا الفن الإسلامي هي إجادة اللغة العربية، إنه الطموح الذي لاينضب في شخص الخطاط البوسني "منيب راغب أوبرادوفيتش". "الأمة العربية" اغتنمت فرصة تواجده بالجزائر على هامش المسابقة الدولية الثالثة للخط العربي، فكان هذا الحوار الحصري الذي تحدث فيه عن وضع الفن الإسلامي بالبوسنة والهرسك وعن طموحه لكتابة المصحف الشريف، وكيف تراجعت اللغة العربية عن مجالات الحياة العامة والإدارة والتجارة، لتبدأ رحلة انقراض لغة القرآن من ألسنة الناس وثقافتهم رويدا رويدا، داعيا في هذا المقام لضرورة تعزيز العلاقات الثقافية بين بلاده والدول العربية لإعادة إحياء تراث العربية الفصحى والحفاظ على الفن الإسلامي من الإندثار بعد أن كانا قرونا عديدة لغة الإبداع والتأليف في شتى العلوم. "الأمة العربية": شاركت مؤخرا بمسابقة الخط العربي بالجزائر، كيف تقيّم هذه التجربة؟ الخطاط منيب راغب أوبرادوفيتش: أنا مسرور جدا بمشاركتي في المسابقة الدولية للخط العربي المنظمة بالجزائر، وشرف لي أنا أكون من بين المتوجين، والأجمل من ذلك أن هذه المهرجانات التي تقام هنا وهناك تسمح بتشجيع الخطاطين والإستفادة من خبرات وتجارب بعضهم البعض، ولقد اكتشفت اللوحات الرائعة للخطاط الجزائري صفار باتي وغيره ممن يجيدون الأسلوب الفني الراقي النادر، خاصة مع طغيان البعد التجاري في الأعمال الخطية، بالإضافة إلى أهمية ورش العمل والمحاضرات التي تعنى بالإحاطة بقواعد فن الخط والآفاق المعاصرة له في ظل تحديات التقنيات التكنولوجية الحديثة. هل لك أن تحدثنا عن بدايتك الفنية وكيف اخترت الخط العربي دون سواه؟ كنت أحب الخط العربي والعزف على آلة القيثار منذ الصغر، بعدها وبحكم تفوقي في دراستي للهندسة تخصصت في الخط الكلاسيكي بالحرف اللاتيني وبالتحديد الخط الثلث الجلي الذي كنت أشتغل عليه في المساجد، وحاليا أنا أتعلم اللغة العربية لأستطيع كتابة الخط بالحروف العربية باعتبارها البوابة للولوج لأسرار هذا الفن الإسلامي، وعلى هذا الأساس أقوم بعدة معارض لتوضيح صورة المسلم المشوهة، وهذا عبر لوحاتي الخاصة بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وحكم من التراث الإسلامي. هل يمكن أن نقول إن دراستك للهندسة أعطتك قدرة أكبر على الإبداع والتميز في إبراز الجوانب الفنية التي ترقي بفن الخط العربي؟ بالفعل، تخصصي في الهندسة ساعدني أكثر في الإبداع الخطي، ذلك لأنه يعتمد على عملية التصاميم، ومن ثم فالهندسة أعطتني فرصة أكبر لإتقان التراكيب الموجودة في الخطوط لاسيما خط الثلث الذي أجيده، وهذا بالطبع لا يعني أنه أهم من خطوط أخرى كالمغربي أو الفارسي أو الديواني أو النسخ لأن لكل خط جمالياته ومناسبة كتابته. بمن تأثرت من الخطاطين؟ تأثرت بالخطاط عبد الله عباسة وكتابات الأستاذ أشرف كواتتش المشهور بكتابة المصحف البوسني، وكذا الأستاذ سامي أفندي الذي يعد أول من كتب تاريخ وتراجم الخطاطين المشهورين في تاريخ الخط العربي. يقال إن اللوحة الخطية الجيدة يجب أن يستعمل فيها الورق المصقول وأجود الأقلام وأرقى الأحبار، فهل هذه المواد متوفرة ببلدكم؟ في وقت ليس ببعيد، كنت أستعمل الورق العادي، وبصراحة كان يصعب علي إيجاد ورق يدوي مقهر بحكم أنني كنت لا أعرف صنع هذا الورق. لكن مع وجود اللقاءات التي تقام في البلاد العربية الإسلامية، استفدت كثيرا وأصبحت أتقن صنع الورق والحبر وقلم القصب، وهذا يعطيني نتيجة جيدة، لكن هذا لا ينفي أنني أقتني بعض الورق والأقلام كلما أتاحت لي فرصة المشاركة في معارض دولية. فمثلا خلال السنة الماضية فقط، اشتريت ورقا هنديا خلال عقد ملتقى للخطاطين بالهند. هل أنت مع الذين يرون أن استعمال جهاز الكمبيوتر في اللوحة الخطية يشوّهها؟ طبعا حسب طريقة الاستعمال، فإذا استخدمنا التكنولوجيا الحديثة بالحفاظ على القواعد القديمة، فهذا طريق صحيح ولا يشوّه اللوحة الخطية. ما مدى إقبال البوسنيين على اقتناء لوحات فني الخط العربي والزخرفة الإسلامية؟ فيما يخص الإقبال على اقتناء لوحات الفن الإسلامي، هو متواضع جدا، ويمكن أن أقول إنه نادر في بعض الأحيان، بحيث يمكن أن أبيع لوحاتي مرة في كل سنتين أو أكثر. والسبب في ذلك، أن هذا الفن لم يبلغ المكانة التي يستحقها بعد في البلاد العربية بخلاف الفن التشكيلي الغربي المطلوب أكثر. هلا أطلعتنا على واقع الفن الإسلامي بالبوسنة والهرسك؟ إن واقع الفن الإسلامي يشبه حاله بعض البلاد العربية، بحيث لا توجد جمعيات ولا مدارس خاصة بتدريس الخط العربي. والجدير بالذكر، أن هناك كلية الفنون الجميلة متواجدة بالعاصمة البوسنية افتتحت مؤخرا قسما خاصا للخط والفنون الإسلامية والآثار القديمة، هذه الأخيرة التي تضم طلبة يعدون على أصابع اليد. وكما تعرفون، أن البوسنة والهرسك عرفت حوالي قرنين من الفتح العثماني ومن ثم فجزء كبير لازال موجودا من التراث الثقافي الإسلامي والفني ذو الطراز العثماني، بالرغم من أن فترة الحرب التي أتت في أعقاب انحسار ظل الخلافة العثمانية وحلول فترة الحكم النمساوي قد عرفت تخريب الكثير من المعالم الأثرية وحرق المساجد، إلا أن اللوحات القديمة وجدران المساجد لازالت تحمل الكتابة الخطية الأولى والتي تركت على أصالتها لحد اليوم دون دهان أو ترميم. وهذه المعالم والأبنية، هي بحق ثمرة التعايش مع العالم الإسلامي الذي يجمع بين العلوم والفنون. ومما يؤسف له، أن هذا الفن لا يحظى بالإهتمام من قبل الناس، بحيث نجدهم يشترون لوحات ذات الأسلوب التشكيلي الغربي، وهذا لا يعني أنني أود إلغاء هذا الفن الجميل، ولكننا كمسلمين أرى أنه ينبغي علينا أن نحافظ على هذا التراث وجماليته بتقديمه للعالم، لأنه يؤسر القلوب وممكن أن ننجح فقط بسم الله. هل يمكن أن نرد تدني الاهتمام بالخط العربي إلى تراجع مستوى الإقبال على تعلم اللغة العربية؟ هذا صحيح، عدم إنتشار الخط العربي راجع لأننا لا نتكلم اللغة العربية. في القديم الخط العربي كان منتشرا، لأن اللغة البوسنية كانت تكتب بحروف عربية، لكن حاليا يتم إستخدم الحروف اللاتينية، وهذا بالتأكيد يؤثر على نمو وإنتشار هذا الفن الإسلامي العريق. ولعل غيابها عن مجالات الحياة العامة كالإدارة والتجارة، جعل لغة القرآن تتقلص رويدا رويدا من ألسنة الناس وتحل محلها الإنجليزية ولغات أوروبية أخرى. أنفهم من ذلك أنها محاولة لضرب الهوية الإسلامية؟ أكيد، لأنها جزء من الحالة السياسية التي تركز على الجانب الإثني، وهذا ما يحيلنا للقول إن البوسنيين بحاجة ماسة لإعادة إحياء تراث العربية الفصحى الذي اندثر من حياتهم بعد أن كان لقرون عديدة لغة العلم والإبداع والتأليف في شتى الميادين في بلادنا، وهذا يستدعي بالضرورة فك عزلتنا عن العالم العربي بتعزيز العلاقات الثقافية بيننا وبين البلدان العربية. ما هي آفاقك المستقبلية؟ أنا حاليا أعكف على تعلم وإجادة اللغة العربية قبل الإنجليزية، لأنها الأولى بالتعلّم، فهي لغة ديننا وعلينا أن ندركها لفهم معاني الشريعة الإسلامية السمحة، ومن ثم كسب ثمار العبادة من خلال قراءة القرآن ومعاملة الناس بأخلاق كريمة. كما أنني أشتغل على خط أحاديث نبوية عن أوصاف النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أن طموحي الأكبر أن أكون من بين الخطاطين الذين كتبوا المصحف الشريف وخطوا آياته النورانية.