شهر الصيام.. لماذا لا يكون شهرا للصيام؟ هو هذا السؤال الذي ألقاه علي اليوم، صديقي الأستاذ الذي أعيته دروب الحياة، بعد أن قضى أكثر من نصف عمره الزمني في معاناة الصعود والهبوط في تلك الدروب الوعرة، قلت له بسذاجة الأطفال: ولكننا نصوم كل عام! رأيته يبتسم ابتسامة عريضة لم أر مثلها من قبل، حيث كانت ابتساماته عبارة عن تهكم واستهانة، تخرج من بين شفتيه ميتة لا حياة فيها تغري بالمضي قدما، أما ابتسامة اليوم فكأنها خلاصة مخزون مغمور، انفلتت دون علم صاحبها، فأطلقت لنفسها العنان في أرجاء رحبة، تعبق الأجواء بأريج جديد الطيب، ويا تعاسة من لم ينل من عبقها نصيبا! حدّق في وجهي، متأملا، باحثا عن شيء ما في تقاسيم صفحة شبيهة بأثلام رسمتها سكة المحراث، ورأيت عينه تقرأ في خطوط جبهتي تارة وفي خطوط خدي تارة أخرى، ثم قال: لا شيء يخفى على الأثلام.. قيد أمين... أعدته إلى الموضوع الذي طرحه في البداية عن الصيام، فقلت له: اتركنا الآن من الأثلام.. وقل لي ماذا تعني بسؤالك"لماذا لا يكون شهرا للصيام"؟ قال كمن يخرج كلماته من قاع بئر عميقة: "يا صديقي! لم يعد للناس صيام.. أرأيت تلك الأثلام التي يخطها الزمان على جبهتك دون علمك ولا إرادتك.. عند كثير من الناس لا تجد أثرا لها، فهل ترى أن الزمان لم يمر عليهم؟ الزمان لا يخطئ أحدا، ولكن بعضهم يخفي خطوط حياته وراء انتفاخة مموهة، كتموه عيوب وجه المرأة بالمساحيق.. انظر إلى يومياتنا! جوارحنا وحوش جائعة.. همها الوحيد هو البحث عما يطفئ اللهفة الجامحة.. فهل ترانا بعد هذا نصوم؟ سكت، لم أجد ما أجيب به، وفي قرارة نفسي أقول: ليت نبوءته تتحقق، فيعود الإنسان إلى إنسانيته، فيصوم عن كل ما يبعده عن صفته الإنسانية! ولذلك، سأصوم.. حتى عن الكتابة!