خلق الله عز وجل الناس ليعرفوه ويعبدوه قياما بحق الربوبية والألوهية، كما قال تعالى في سورة الذاريات الآية 56 "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" لكن مفهوم العبادة تعرض للتحريف حتى أصبح يطلق فقط على أركان الإسلام، في حين أنه أوسع من ذلك وأشمل وأعمق. إذ يتضمن كل ما يصدر عن المكلف موافقا للشرع، خالصا لوجه الله تعالى "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا". * من أعظم هذه العبادات الصيامُ، حيث نسبه الله عز وجل إلى نفسه نسبة تشريف وتعظيم، كما جاء ذلك في الحديث القدسي المتفق عليه "كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي". * ولعل الصيام استحق هذا التخصيص بالنسبة إلى الله تعالى، لما له من أسرار عظيمة منها: * 1- أنه يعد الصائم لدرجة التقوى والارتقاء في مدارج السالكين: * يقول الإمام ابن القيم "وللصوم تأثير عجيب على حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال الله تعالى "ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"". * 2- أنه يزكي النفس ويدربها على كمال العبودية لله تعالى: * فلو شاء العبد الصائم لأكل وشرب أو جامع امرأته ولم يعلم بذلك أحد، ولكنه ترك ذلك لوجه الله تعالى وحده، وفي هذا جاء الحديث: "والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به" متفق عليه. * 3- أنه يكسر شهوات النفوس ويقطع أسباب الاسترقاق والتعبد للأشياء: * فالعباد لو داموا على أغراضهم لا سترقتهم الأشياء واستعبدتهم وقطعتهم عن الله كل القطع، قال الإمام القصيري في كتابه (شعب الإيمان): "فالصوم يقطع أسباب التعبد لغير الله ويورث الحرية من الرق للشهوات والشبهات، لأن المراد من الإنسان أن يكون مالكا للأشياء وخليفة فيها، لا أن تكون مالكة له لأنه خليفة في ملك الله، فإذا استغرق في أغراضه وملكته فقد أقلب الحكمة وصير الفاعل مفعولا، والأعلى أسفلَ كما قال الله تعالى: "أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين"". * وقد علم الله تعالى أن رمضان في قطع ذلك أي أسباب التعبد لغير الله إذا صامه الصائمون كما يجب، ولذلك ورد في الخبر: "إذا سلم رمضان سلمت السنة كلها. ومن زاد زادت حريته ما لم يخرج إلى ضرر بالنفس والعقل، بل الكمال المحض في حق الإنسان أن يملك الأشياء ولا تملكه، ويسترقها بالخلافة ولا تسترقه، فيتناول الشهوات في أوقاتها ويضعها في أماكنها، وهذا هو وصف الربوبية، يتصرف في ملكه بالتدبير ولا يشغله، بل يملكه كل الملك ويقهره كل القهر". * 4- أنه يشعر الصائم بنعمة الله تعالى عليه: * فإن ألِفَ النعِمَ فسيفقد الإحساس بقيمتها، ولا يعرف مقدار النعمة إلا عند فقدها، وبضدها تتميز الأشياء، وهذا ما أشير إليه في حديث رواه أحمد والترمذي، قال فيه صلى الله عليه وسلم: "عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يارب، ولكني أشبع يوما، وأجوع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك". * 5- أنه مناسبة لقهر عدو الله: * فإن وسيلة الشيطان الرجيم هي الشهوات، والتي تقوى بالأكل والشرب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع" متفق عليه. قال الإمام الغزالي في الإحياء: "فلما كان الصوم على الخصوص قمعا للشيطان وسدا لمسالكه وتضييقا لمجاريه استحق التخصيص بالنسبة إلى الله عز وجل، ففي قمع عدو الله نصرة لله سبحانه، وناصر الله تعالى موقوف على النصرة له، قال الله تعالى: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"". * فالبداية بالجهد من العبد، والجزاء بالهداية من الله عز وجل، ولذلك قال الله تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا". * ويضيف الغزالي: "..فالشهوات مرتع الشياطين، ومرعاهم فما دامت مخصبة لم ينقطع ترددهم ما داموا يترددون لم ينكشف للعبد جلال الله سبحانه وكان محجوبا عن لقائه، وقال صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات" أخرجه الإمام أحمد. وفي هذا الوجه صار الصوم باب العبادة وصار جنة". * وأختم الحديث عن أسرار الصوم بكلمة جامعة للدكتور يوسف القرضاوي، قال فيها: "والحق أن صيام رمضان مدرسة متميزة، يفتحها الإسلام كل عام للتربية العملية على أعظم القيم وأرفع المعاني، فمن اغتنمها وتعرض لنفحات ربه فيها فأحسن الصيام كما أمره الله، ثم أحسن القيام كما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نجح في الامتحان وخرج من هذا الموسم العظيم رابح التجارة، مبارك الصفقة، وأي ربح أعظم من نيل المغفرة والعتق من النار!؟ * روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه. من كتاب "تيسير الفقه فقه الصيام ص 16". * خاطرة * * إنه يقترب فهل اقتربت؟ * رمضان يقترب، كلها أيام ويهل علينا الشهر الكريم ولكن كيف حالك مع الله؟ هل اقتربت من الله؟ أما آن الآوان لأن تقترب من ربك؟ ربك الذى أعطاك كل النعم التى أنت فيها.. أما تريد قربه؟ ولكن الطريق إلى الله لا تقطع بالأقدام وإنما تقطع بالقلوب.. ولتقترب من الله فأنت تحتاج قلبا... قلبا ولكن ليس كأي.. وإنما قلب سليم. * * ولكن ما هو القلب السليم؟ * يقول ابن القيم رحمه الله: القلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرئاسة، وكيف يسلم هذا القلب؟ يقول ابن القيم رحمه الله: لا تتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء، من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص. * * حين ولدتك أمك كان قلبك سليما طاهرا، ولكن ما الذى حدث لهذا القلب الآن؟ إنها الذنوب والمعاصى تلك التى تحول بين العبد وبين ربه، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.." فاستجب لله كما دعاك لكى يحيا قلبك من جديد، واستجب لأمره وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم، قبل أن تحشر إلى الله بهذا القلب الذى بين جنبيك الآن، فالقلب السليم هو سبيل النجاة، قال تعالى: "يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ".. * ابدأ بتوبة صادقة وإياك والتسويف... وأتبعها باستغفار، فهو مطهر القلوب ومفرج الكروب و مزيل الهموم، ثم عملٍ صالح.. عسى أن تكون من المفلحين. * مفاتيح الخير * * هل أنت منهم؟ * * مفتاح القلوب هو الابتسامة وسلاح الحياة العقل. * كثير من الناس لا يبتسم إلا لمسؤوليه وأصحابه، ثم ينسى الابتسامه إذا دخل المنزل، مع أن الوالدين والزوجه والأبناء أولى بابتسامه من غيرهم. * هناك أشخاص لا يبتسم إليهم أحد، فاحرص أن تفاجئهم بابتسامة من قلبك، ستكون غاليه عليهم. * * تعرف من هم؟ * إنهم العمال وأصحاب المهن المتواضعه الذين لا يعبأ لهم أحد. * الابتسامة لها أصول ولها فن، فاحرص على تعلم متى تبتسم في وجه الآخرين. * كم من انسان دخل الاسلام سبب الابتسامه.. ما سهلها من دعوى! * شيء قليل.. ولكن يعني شيئا كثيرا إلى الآخرين. * فهذا جرير رضي الله عنه يقول كما في الصحيحين "ما حَجَبني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منذُ أسملتُ، ولا رآني إلا تَبَسَّم في وجهي". * إنها الابتسامة التي لم تكن تفارق محيا رسولنا صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، فلقد كان يتبسم حينما يلاقي أصحابه، ويتبسم في مقامٍ إن كتم الإنسان فيه غيظه فهو ممدوح، فكيف به إذا تبسم!؟ وإن وقع من بعضهم خطأ يستحق التأديب، بل ويبتسم صلى الله عليه وسلم حتى في مقام القضاء. * * اضحك وتعلم مع الصالحيين * ما ظننت أنه بقي من هذا النسل أحد! * روى علي بن العباس قال: سمعت الحسيني بن عمرو العنقري يقول: دق رجل على أبي نعيم الفضيل بن دكين الباب، فقال: * من ذا؟ * قال: أنا * قال: من أنا؟! * قال: رجل من ولد آدم! * فخرج إليه أبو نعيم وقبله وقال: مرحبا وأهلاً.. ما ظننت أنه بقي من هذا النسل أحد! * * أسئلة في الدين * السؤال: ما حكم صيام يوم الشك، وما الأحكام الفقهية المتعلقة به؟ * الجواب: يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان، إذا تعذرت رؤية الهلال حينما تكون السماء مغيمة ويشك فيه الناس، هل هو تمام شعبان أو أول يوم من رمضان؟ أما إذا كانت السماء صحوا ولم ير الهلال فلا يكون يوم شك وهو من شعبان قطعا. * وقد جاء النهي عن صيام يوم الشك، كما روى ذلك الترمذي والنسائي عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: "مَنْ صَامَ اليَوْمَ الذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم". * واختلف العلماء في هذا النهي هل هو للتحريم أو للكراهة؟ والمشهور أنه نهي كراهة، واستظهر ابن عبد السلام أنه للتحريم. * ومحل الكراهة إذا صامه للاحتياط على أنه إن كان من رمضان اكتفى به، أما إن صامه لغير ذلك فلا كراهة، مثل أن يصومه تطوعا لا احتياطا لرمضان، أو يكون معتادا على سرد الصوم كصوم يوم الإثنين أو الخميس، فصادف يوم الشك، لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَومِ يَومٍ وَلاَ يَومَينِ، إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَومًا فَلْيَصُمْهُ". * وكذلك لا مانع من صومه قضاء عن رمضان قبله، أو كفارة عن يمين أو غيرها، أو لنذر صادف ذلك اليوم، كأن ينذر صيام يوم معين فصادفه، يدل على ذلك ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانَ يَكُونُ عَلَيَّ الْصَّوْمُ في رَمَضَان فَمَا أسْتَطِيعُ أَنْ أقْضِيَ إلا في شَعْبَانَ"، فعمت الشهر كله ولم تفرق بين أوله وآخره. * ومن الأحكام الفقهية المتعلقة بصيام يوم الشك، أن من صامه للاحتياط ثم تبين أنه من رمضان لم يجزه صومه لعدم جزم النية، وأن من أصبح فلم يأكل ولم يشرب ثم تبين له أن ذلك اليوم من رمضان لم يجزه، ووجب عليه الإمساك عن المفطرات في بقية يومه، ثم القضاء بعد رمضان، وأن من أصبح مفطرا يوم الشك ثم ثبت أنه من رمضان، وجب عليه الإمساك والقضاء. * السؤال: في ليلة شك من رمضان ماض نمت مبكرا ولم أنتظر الإعلان عن رؤية الهلال وبدء شهر رمضان، وقلت في نفسي إن صام الناس صمت وإن أفطروا أفطرت، ثم علمت في الصباح بدخول رمضان فصمت، فهل صيامي صحيح أو لا؟ * الجواب: صيامك غير صحيح لعدم تبييت النية، لأن تبيين نية صوم رمضان في أول ليلة شرط لصحة الصوم، لما رواه أصحاب السنن عن حفصة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ"، والنية التي عقدتها غير صحيحة، لأنك لم تجزم بها، وهو ما يدل عليه لفظ الحديث "مَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ" أي يعزم عليه وينوه بالليل قطعا من غير تردد، ويجب عليك في هذه الحالة قضاء ذلك اليوم، كما يجب عليك إخراج فدية إن فات القضاء، حتى دخل عليك رمضان آخر. * السؤال: إذا ثبتت رؤية الهلال فهل تصلى التراويح في تلك الليلة؟ * الجواب: نعم. إذا رئي هلال رمضان أو أتم الناس عدة شعبان ثلاثين يوما، فإن تلك الليلة تكون هي أول ليلة من رمضان، يجب فيها تبييت نية الصوم وتسن فيها صلاة التراويح، لأن الليلة تابعة لليوم، كما أنه لو رئي الهلال بعد الغروب في آخر شهر رمضان، فإن تلك الليلة تكون ليلة العيد، لا يسن فيها التراويح. * السؤال: أنا مصاب بمرض مزمن لا أستطيع بسببه أن أصوم، فهل يجوز لي أن أخرج الفدية قبل دخول شهر رمضان، أو يلزمني الانتظار حتى يدخل الشهر لأخرجها؟ * الجواب: يقسم العلماء الفدية إلى قسمين، واجبة ومندوبة، أما الواجبة فلا يجزئ إخراجها إلا بعد دخول زمن الوجوب، بخلاف المندوبة، فالمستحب إخراجها بعد دخول وقتها، وهذا ما يؤخذ من كلامهم كقول النفراوي في شرح الرسالة: "ويكون الإخراج مع القضاء أو بعده فيمن عليه القضاء، لأنه لا يجزئ الإطعام إلا بعد الوجوب"، فجعل الوجوب والإجزاء خاصا بالفدية الواجبة كمن أفطرت بسبب الرضاع، أو من آخر القضاء عمدا حتى دخل عليه رمضان آخر، أما الفدية في حقك فمندوبة وليست واجبة، والأفضل لك أن تخرجها بعد دخول رمضان، سواء أخرجتها دفعة واحدة أو فرقتها على الأيام، فإن أخرجتها قبل رمضان أجزأتك ولا شيء عليك، وقد وقع لأنس بن مالك رضي الله عنه لما عجز عن الصوم في العام الذي توفي فيه، أنه لما دخل رمضان دعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم حتى شبعوا. * روى مالك في الموطأ وعبد الرزاق والبيهقي عن ثابت البناني قال: "كَبُرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه حَتَّى كَانَ لاَ يُطِيقُ الصِّيَامَ، فَكَانَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ". * ورواه الدارقطني عن أيوب عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أَنَّهُ ضَعُفَ عَنْ الصَّوْمِ عَامًا فصَنَعَ جَفْنَةً مِنْ ثَرِيدٍ، وَدَعَا ثَلاثِينَ مِسْكِينًا فَأَشْبَعَهُمْ".