هوإبن أحد رواد العلماء المسلمين، من مواليد 11 نوفمبر 1929 بمدينة الأغواط، كبر وترعرع بمنطقة ميلة، أبدى منذ صباه نبوغا وسعة إطلاع، جعل أباه يؤثره على غيره من أبنائه ويكن له جبا خاصا، أخذ الفقه عن والده وتلقى علومه بالمدرستين الفرنسية والعربية "حياة الشباب" التي أنشأه والده بميلة، ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره توفي والده، فبعثه خاله إلى جامع الزيتونة ومعهد الصادقية بتونس تحت إشراف الجزائري مختار بجاوي والشيخ التونسي سكيس ليتخرج منهما عام 1950، حين عاد إلى لجزائر التحق كمدرس بمعهد إبن باديس وه وإذ ذاك في عنفوان شبابه، لايتجاوز إثنين وعشرين من عمره، وقد دفعه حبه المفدى للوطن للانضمام إلى الثورة سنة 1955، ليتعرف على الشهيد عبان رمضان الذي يعتبره من أر وع الشخصيات التي أثرت فيه، وظل يناضل إلى غاية نيل الحرية. وغداة الاستقلال عمل صحفيا وسفيرا بالخارج في عدة دول أروبية وعربية، له عدة مؤلفات منها "المؤتمر الإسلامي الجزائري، الشيخ مبارك الميلي حياته العلمية ونضاله الوطني، حق المعرفة وحق الأمل" وغيرها من الكتب. أكيد عرفتموه هومحمد الميلي الذي فتح قليه وبيته ل"الأمة العربية"، ليبوح لنا ببعض ما تختزنه ذاكرته، متحفظا في كثير من الأحيان عن الإجابة على أسئلتنا المتعلقة بالعشرية السوداء والوضع السياسي والثقافي بالجزائر، مرددا كلمة "لا أعرف" بابتسامة هادئة ولكنها تحمل الكثير من الدلالات، إلا أنه لم يخف حلمه في أن تتحسن جزائر اليوم وتخرج من غياهيب الركود الذي مس مختلف مناحي الحياة. " عندما يصدق حدس الطفل مبارك الميلي ويقطع 48 كلم مشيا على الثلج، هروبا من رعي الماعز" عادت ذاكرة "محمد" إلى ما رواه له والده عن الطريق الذي سلكه يقينا منه بأن له رسالة تنتظره، حيث قال" بعد أن توفي والده وعمره أربع سنوات، أنزله جده منزلة إبنه، وألحقه بالمدرسة القرآنية لتعلم الفقه والنحو، وبعدما إنتقل جده للرفيق الأعلى كان قد أوصى صديقه"عمي أحمد" لرعاية "مبارك" فأجبره على رعي المعز"، واسترسل في شهادته عن أبيه: " إنه كان لايفضل ذلك الجو ويسميه بالجحيم، فكان يحاول في كل مرة الهروب، وإذا بعمي أحمد يقف له بالمرصاد، حتى جاء ذلك العام الذي أتى فيه شتاء قارص ولبست المنطقة حلتها البيضاء، فكانت تلك هي الفرصة المواتية للنجاة من قيد عمي أحمد، فقطع 48 كلم مشيا على الثلج من دوار ومامن بميلة وصولا إلى عاصمة ميلة موطن استقرار جده من أمه الشيخ محمد الميلي". وأضاف نجله أن هناك نشرية تابعة لولاية قسنطينة كانت قد نشرت مقالا جاء فيه:" ميلة كانت تعيش على هامش التاريخ وسكانها كانوا يقاطعون المدرسة الفرنسية، حتى جاء "مبارك الميلي" الذي غير المنطقة بكاملها، فأقنع الناس بأهمية إدخال أبنائهم المدرسة الفرنسية لما توفره من حرية التعبير والتفكير وتذوق الحياة، وكذا المدرسة العربية"حياة الشباب" التي أسسها، إضافة للنادي الإسلامي الجزائري الذي كان يلقن فيه المحاضرات للشباب الذين لايذهبون للمسجد، وأصبح بذلك يشكل دولة داخل دولة". " النجل الصديق عند مبارك الميلي" إستحضر "محمد" أيام طفولته الأولى وعلاقة الصداقة التي كانت تربطه بأبيه، حيث ذكر أنه كان المفضل بين إخوته من دون إظهار ذلك له، واستند على ما وجده مكتوبا في أوراق مذكرات أبيه لما ذهب لفرنسا من أجل علاج مرض السكري. فقال على لسان والده:" قررت أن أنسى كل علاقاتي وأتفرغ للعلاج، وقد نجحت في ذلك، إلا من ناحية إبني البكر محمد، فلم أستطع أن أتخلص من ذكراه، وكلما أتذكره تكاد الدموع تطفح من عيني، ولولاه لكانت غيبتي أطول". " محمد الميلي ومساره التعليمي والنضالي" سرد "محمد" أن وفاة أبيه كانت بمثابة الفاجعة، فقرر خاله وقتها بعثه إلى جامع الزيتونة ومعهد الخلدونية بتونس إلى غاية تخرجه عام 1950، وحين عاد إلى الجزائر إلتحق كأستاذ وعمره لايتعدى 22 سنة بمعهد إبن باديس الذي أسسه العربي التبسي. ومن المواقف التي تذكره بخصال العربي التبسي الذي كان يتميز بالصرامة والطيبة، "أنه ذات مرة ذهب ثلة من المشايخ الذين كانوا بدرسون بالمعهد إلى العربي التبسي، يعيبون طريقة تدريسي نظرا لأني لم أكن أخالطهم، وبينما أقوم كالعادة بعرض درسي حتى أقبل العربي لمتابعة الطريقة التي أتبعها، فقال لي:" لقد ذكروا لي أنك لست كفؤا فوجدتك قادرا وتستحق هذه المكانة"، ولقد استمر في التدريس إلى غاية 1955 سنة إلتحاقه بالثورة. ولم بغفل "محمد" إخبارنا عن طريقة إلتحاقه بالثورة قائلا" لقد شاهدت أحد الشباب الثائر من حركة انتصار الحريات الديمقراطية وهويموت برصاص الاستعمار وأمه تزغرد عليه، ولما لاحظها أحد العساكر، قال لها إنك مجنونة أتزغردين وإبنك مات، فردت عليه" إذا كان إبني شاب وله أسبوع منذ أن تزوج وقبل بالتضحية فمعناه أن نهايتكم قد قربت". "موت الشهيد عبان رمضان مؤامرة من قبل مجموعة الستة" وعن الشخصيات الثورية التي تعرف عليها قال "محمد الميلي":" من بين الثوار الذين كانت تربطني بهم علاقة متينة الشهيد عبان رمضان باعتباره شخصية متواضعة وقوية من أروع ما يكون، فهو الذي خطط لمؤتمر الصومام لتوحيد القيادة، وفي نفس الوقت عمل ميثاق للثورة، تضمن مبادئ أساسية من ضمنها أولوية السياسي على العسكري والداخل على الخارج"، وواصل بقوله " لقد استطاع عبان رمضان ضبط الأمور، ونتيجة ذلك خاف قادة مجموعة الستة مثل كريم بلقاسم ومحمد بوصوف من أن يصبح قائدهم فقرروا إعدامه". وأضاف الميلي أن وقتها أخبره عبان رمضان بأنه سيذهب للعاصمة لمقابلة محمد الخامس وفقا لرسالة تلقاها من الإخوان، ومن حينها لم يرجع، حتى جاء بلاغ نشر بجريدة المجاهد مفاده أن عبان رمضان استشهد. وبدا"محمد" متأثرا بوفاته قائلا:" نحن لم نصدق هذه الكذبة، لأننا كنا نعرف جيدا الخلافات والصراعات التي كانت موجودة بين القيادات بسبب التهافت على السلطة، وتواصلت الأمور على ذاك المنوال حتى الاستقلال". "تكبيل قلمي سبب استقالتي من جريدة الشعب، وغياب الرؤية النقدية حال دون تحسن أوضاع البلاد" غداة الاستقلال، اشتغل "محمد" بصحيفة الشعب، بحيث كانت له مقالات نقدية تحليلية، وروى عن سبب استقالته من الشعب:" في إحدى المرات صرح بن بلة بضرورة العمل والخوض في تجربة الصناعات الثقيلة، وكتبت آنذاك مقالا أقترح فيه البدء بالاستثمار في الصناعات التحويلية والزراعية، وإذا بالرئيس يتصل بي متسائلا عن سبب إنتقادي له، فرددت بأن الأمر يدخل في إطار النقاش المفتوح، فأخبرني الرئيس الأسبق بن بلة بضرورة مشاورته قبل الكتابة، ولم تمر برهة من الزمن حتى قدمت استقالتي". ووصف "محمد الميلي" الصحافة بأنها كل شيء في حياته، وهي من جملة الهوايات التي ورثها عن أبيه، ودعا الصحفيين لأن يتحلوا بالنظرة النقدية وحرية التعبير من خلال فتح النقاش بين مختلف الهيئات دون المبالغة في التمجيد أوالنقد، وذلك حتى يتسنى في نظره الخروج من المشاكل التي ورثناها عن الحزب الواحد والتي مازلنا نتخبط فيها إلى يومنا هذا. موضحا أن تحقيق توازن أي مجتمع متوقف على الدراسة المعمقة والنقدية للتاريخ والواقع بصورة تفضي إلى نقاش واسع مسؤول يعالج الأسئلة الكبرى التي تطرحها أصناف الشك التي تفرزها الدراسة المعمقة توصلا إلى إستخراج العبر التي تساعد على فهم المشاكل ذات الصلة، وبالتالي تساعد على الصيانة الموفقة لحلول تفضي هي الأخرى إلى تشكيل القرار المطلوب والملائم، في إطار سياسة تقترح ولاتملي، توجه ولاتفرض، تقنع ولا تقمع. "من القلم إلى الحقيبة الدبلوماسية" عرج "محمد الميلي" في حديثه ل"الأمة العربية "لذكر أهم المواقف التي صادفته وهو سفير باليونان في الفترة الممتدة من 1979 إلى غاية 1983، حيث قال"كان هناك شخص يوناني له وزن في اليونان إسمه" أرماتور بردوميونيس" وكلما كنت أحضر للحفلات التي تقيمها السفارات الموجودة باليونان يأتي متأخرا، فمرة جاء دور سفارة الجزائر لإقامة حفل عيدها الوطني، وقمت بدعوة الوزير اليوناني الأول "بتون دريو" فأتى رفقة سبعة وزراء، فكانت بذلك ضجة إعلامية كبيرة باليونان، إلا أنني تعمدت عدم دعوة "بردوميونيس"، وفي إحدى المجالس التي نظمتها الجامعة العربية، إلتقيت بأرماتور واستفسر مني سبب عدم دعوته في الحفل الذي أقمته، فقلت له ليس سهوا وإنما إدراكا مني بكثرة مشاغلك ووصولك المتأخر في كل حفل، ومن ثم لم أرد إحراجك، ومن وقتها قرر الانضباط في المواعيد". وذكر" محمد الميلي" أيضا وقت كان عضوا في المجلس التنفيذي لمنظمة اليونيسكو، كيف احتدمت المعركة الانتخابية للترشح لمنصب المدير العام لليونسكو وفقا لحسابات كانت تضبط على أن المدير العام السيد أحمد مختار مبو سيترشح للمرة الثالثة، وأمام عدة مترشحين هم السيد يعقوب خان وزير خارجية باكستان، فديريكو مايور من أمريكا اللاتينية والسيد تودوروف مرشح الكتلة الاشتراكية، إلا أن المفاجأة كانت في نتائج تصويت الدور الرابع فقد نزلت أصوات مبو من 23 إلى 21 وارتفعت أصوات مايور من 18 إلى 21 صوت، بفضل التأييد الذي كان يدعو إليه "محمد" في المجلس التنفيذي، بحكم أن مايور لم يكن مؤيدا من المجموعة الأوروبية في الدورتين الأولى والثانية من دورات الإقتراح داخل المجلس التنفيذي، وبحجة أنه مرشح أميركا اللاتينية التي تنتمي مثل مجموعتنا للعالم الثالث فهو مرشح العالم الثالث". وأضاف "محمد" "لما ثار الجدل دفع مندوب السينغال لكتابة رسالة باسم الحكومة السينغالية يعلن فيها سحب ترشيح السيد مبو، وانتهى الأمر بحصول السيد مايور ثلاثين صوتا، وبذلك أصبح هو مرشح المجلس التنفيذي، وبما أن هناك من الأفارقة من لم يقبل بنتيجة التصويت في المجلس التنفيذي، فقد إتجه تفكير بعضهم على العمل داخل المؤتمر العام حتى لايحصل مايور على الأغلبية المطلوبة. وقد أدى مجرد التفكير في هذا المسعى إلى بروز توتر ينذر بإيجاد إنقسام خطير في صفوف العالم الثالث وهذا ما دفع المجموعة العربية فور إنعقاد المؤتمر العام السعي إلى إعادة الصفاء بين المجموعة الإفريقية ومجموعة أمريكا اللاتينية، ومحاولة توحيد وفود العالم الثالث من أجل الدفاع عن المبادئ الأساسية للمنظمة، وقد كللت المساعي بالنجاح، وقرروا إصدار بيان باسم مجموعة ال77 ودول عدم الإنحياز إلى التصويت على السيد مايور، وبذلك أصبح السيد مايور مرشح الجميع". وقال نجل مبارك الميلي:" إن مايور منذ أن أصبح مديرا عاما لليونسكو وهويعتبر نفسه مدين لي، ولا يتوانى عن طلب مشورتي". " ثقافة تعيسة وحلم أتمنى تحقيقه" وفي ختام حديثنا مع الكاتب الصحفي والسفير السابق "محمد الميلي" أردنا أخذ نظرته للواقع الثقافي بالجزائر، فرد بعد أن تنهد:" سؤال محرج، لأنه لاتوجد حياة ثقافية بمعنى الكلمة فهي جزء من الوضع العام المتدهور، ومن ثم هي في أتعس أحوالها، على خلاف وقت الاستعمار فلقد كنا نشهد عطاءات عديدة ومتنوعة من علماء الأمة"، متمنيا في أن تخرج الجزائر من حالة الركود التي هي عليها اليوم قائلا:" من حق شعوبنا في أن تعرف ما ينتظرها دون تزييف مثلما نحن مطالبون نحو الأمل، وهوحق الشعوب في أن تساهم في تحقيق برامج تنبع من الأمل في مستقبل أفضل.