هو المناضل، الإعلامي الجرئ والوطني المخلص الملتزم، الذي تشرئب نفسه لخدمة مبادئ الحرية، إيمانا منه بضرورة استرجاع الكرامة المسلوبة والأرض المغصوبة.هو صوت الجزائر المدوي الذي كان يصدح من مصر، إلى جنب صوت البندقية في الجبال، للتعريف بجلال وعظمة الثورة المباركة، بلغة تدنومن الدلالة الشفافة، حاملا الأمل لشعب يرسف في أكبال الإستدمار الفرنسي، إنه الأستاذ عبد القادر نور المدير العام للإذاعة الوطنية سابقا، ومن الرواد الأوائل المساهمين في التعريف بالقضية الجزائرية إعلاميا، "الأمة العربية" كانت لها فرصة التنقيب في ذاكرة المجاهد "عبد القادر نور" لترصد لكم أهم محطاته النضالية وآماله المستقبلية. هو من مواليد 23 أكتوبر 1931 بقرية الشرفة ولاية المسيلة، تأثر منذ صغره بمحيطه الإجتماعي الذي لم يكن يختلف عن غالبية المجتمع الجزائري الذي يفضل تعليم أبنائه في الزوايا والكتاتيب، حفظ جزءا من القرآن الكريم وعلوم الفقه وبعض المتون على يد والده الذي كان مهتما به أيما اهتمام، العلامة الشيخ عمار نور الشرفي أحد رواد الزاوية التيجانية بعين ماضي، يقول نور عن طفولته: "بعد أن توفي والدي وعمري ثماني سنوات، جمعت بين الدراسة، والعمل لمساعدة عائلتي من خلال الفلاحة، لدى الخواص، التي كانت تشعرني بالسعادة والراحة، بعد أن أعود بتلك الدريهمات القليلة لأضعها في يد والدتي، وأشعر بالرضى عن نفسي، كلما سمعت دعوات أمي، التي لاسند لها غيري، كنت أعمل أجيرا وأنا طفل لدى الخواص، بعد وفاة والدي الذي لم يترك لنا مايحمينا من وهج الفاقة، كما تعلمت عدة مهن لأستعين بها في إعالة إخوتي الصغار، وعلى رأس تلك المهن خياطة "البرانس". التي كانت تدر علي بعض المال أخصص جزءا منه لأخوتي ة والجزء الباقي مصروفي للسنة الدراسية أنا وأخي الأصغر مني سنا، ولا أكتمك أيتها الأخت أني لم أعش طفولتي ولاشبابي، ولما التحقت بالقاهرة، وكان عمري حوالي 23 سنة حملني الأخ أحمد بن بلة، حفظه الله ورعاه، مسؤولية تجنيد الطلبة في صفوف جبهة التحرير الوطني. طفولة تعيسة ومكابدة الصعاب والظاهر أن الأوضاع الصعبة لم تؤثر فيه سلبا، إنما زادته قوة وصلابة، انتقل بعدها إلى منطقة القبائل إلى زاوية شلاطة، فتتلمذ على يد بعض علمائها الكبار الذين تلقى منهم تحصيلا لغويا ومعرفيا جعلاه يجتاز مسابقة الالتحاق بمعهد إبن باديس في الخمسينات، بالرغم من أنه لم يلتحق قط بمدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، حيث قضى هناك أربع سنوات، ومن أبرز الأساتذة الذين درس على أيديهم الشيح عبد الرحمان شيبان الرئيس الحالي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فنال نصيبا وافرا من علوم الدين واللغة والتاريخ، والأدب وغيرها من العلوم، التي فتحت له أبواب الجامعة المصرية. وفي شهر أكتوبر من سنة 1954، عزم نور على إكمال دراسته العلمية بالجامعة المصرية مهما كلفه الأمر، متوسما أن يصبح خطيبا ويعود لمنطقته لتنوير الشعب الجزائري وترشيده، ووفقا لشهادته " لما أنهيت دراستي بمعهد إبن باديس، كنت أريد أن أكون نفسي في الجامعة المصرية، ومن كثرة إعجابي بالأسلوب الراقي لأحد الأدباء الكبار كأحمد حسن الزيات، صاحب مجلة الرسالة، أزداد إصراري على أن أكون خطيبا". انطلق في التاسع والعشرين من شهر أكتوبر 1954 على الحدود الجزائرية التونسية مع وفد الحجاج قاصدا مصر، ومما جاء ذكره في هذا الصدد" عندما غادرت موطني، تذكرت قول الشيخ البشير الإبراهيمي لما ترك الجزائر سنة 1952 "خرجت منك وأنت موثقة، فهل يكتب لي أن أعود إليك وأنت مطلقة"، مضيفا "تأثرت بالغ التأثر وأنا أغادر أرض الجزائر الحبيبة، وذاهب للمجهول في بلاد لا أعرف فيها أحدا، والدراهم المعدودات التي لاتكاد تكفي أسبوعا واحدا خرجت متسللا عبر الحدود الجنوبية للجزائر، وعدت إليها بالطائرة معززا مكرما". في الفاتح من نوفمبر، اندلعت الثورة المباركة معلنة عن ميلاد أمل جديد للشعب الجزائري الذي لا يستكين للظلم والقهر، وقتها"نور" كان رفقة جماعة من المسافرين إلى مصر، معطلين في صحراء بنغازي، ولما وصلوا إلى طرابلس خصهم الإخوة الليبيون باستقبال حار، مما أثار دهشته، حيث ورد على لسانه " حين وصلنا إلى طرابلس، استقبلنا كالأبطال، بالهتافات المرددة بتحرر الجزائر، ووقتها لم أفهم شيأ، فنظرت إلى الجمع المرحب بنا نظرة تعجب، وسألت نفسي أنى لنا هذه البطولة ونحن مستعمرين مذلولين، بعدها التحقت مباشرة بالفندق وفتحت الراديولأتيقن من صحة الخبر الذي سمعته، فإذا بصباح الثورة قد أتى، تلك اللحظة كان أملي العودة للجزائر، إلا أن قائد الرحلة نصحني بعدم الرجوع لخطورة الوضع العسكري". التحق "عبد القادر" بالقاهرة في الرابع من نوفمبر، أين قابل هواري بومدين، عن طريق الصدفة، والذي كان يدعى محمد بوخروبة، وصديقه يوسف زرقان لأول مرة، ودعاه لضرورة تسوية وضعية إقامته لتكون شرعية، عن طريق المشاركة في مسابقة كلية دار العلوم التابعة لجامعة القاهرة، للحصول على الإقامة، في هذا الصدد روى"نور" :" بعد أن قدم بومدين ملف ترشحي بسرعة للمناضل النشيط والذكي " الشاذلي المكي" الذي كان ممثلا لحزب الشعب الجزائري بمصر، الذي قدمه بدوره إلى الجهات المعنية، نجحت في المسابقة رفقة طالب عراقي". الصوت المدوي من القاهرة لم يقف "عبد القادر نور" عند هذا الحد، فبعد نجاحه في المسابقة وبداية دراسته بالكلية لم يكن اهتمامه مقتصرا على الدراسة، بل تجاوز دور الطالب الذي يعي صياغة فكر الآخرين، وأضحى ذلك المثقف الملتزم بقضايا وطنه، وأردف قائلا:" صرت أبحث كيف أساهم في العمل الثوري، وكان التقائي بالأخ "منور مروش" الذي عرفني بمحمد خيضر وحسين آيت أحمد وأحمد بن بلة، هذا الأخير الذي طلب مني البقاء في القاهرة وكلفني بمهمة إلحاق الطلبة بجبهة التحرير الوطني، وأوصاني بأن يكون العمل سرا تفاديا لأي صراع محتمل بين المصاليين والجبهة". بدأ نور مهمته التي تقاسمها بمعية "بوزيان التلمساني" بكثير من الحذر، ففي الوقت الذي تولى هومهمة إلحاق الطلبة الجامعيين بالجبهة، عٌني رفيقه بالطلبة الأزهريين، وذكر في هذا السياق:" لقد بدأنا العمل سوية، وكنا لانكلم من نشك في ميوله المصالية، وبالفعل نجحنا في تركيز جبهة التحرير الوطني في المشرق العربي". انتخب "عبد القادر" في عام 1956 أمينا عاما لربطة طلاب الجزائر في القاهرة، كما انتخب السيد "منور مروش" رئيسا لها، وبدأ النضال التعبوي الأوسع من خلال إقامة الملتقيات الهادفة إلى التعريف بالثورة الجزائرية وأبعادها، وكذا تصحيح الأخطاء الكثيرة التي وقعت فيها الصحافة المصرية والعربية التي كانت تنقل أخبار الوضع الجزائري كما تطرحها صحافة العدو. " الفاجعة الكبرى والخائن الذي باعه بدارهم معدودات" ومن أهم الأحداث التي أثرت في"عبد القادر نور" خلال هذه الفترة، متابعة وتعذيب كل من يحمل لقب نور، ولم يكن يعلم بذلك إلا بعد عودته بعد انتصار الثورة، وتعود تفاصيل الواقعة إلى ذلك اليوم الذي تلقى فيه رسالة من أخيه في باريس، والتي يدعوه فيها إلى توضيح الجهة التي قامت بالثورة للعمال الجزائريين في فرنسا، عن طريق صوت العرب بالقاهرة الذائع صيته في فرنسا، ومما جاء على لسانه:" بعد أن تقدمت إلى صوت العرب، وإذا بمقدم البرنامج الأستاذ محمد أبوالفتوح يقدمني للمستمعين بذكر اسمي كاملا، قبل أن أنبهه بعدم تقديم هويتي لوجود مراكز استماع للمستعمر، فقرأت البيان الذي كان يحمل المعاني النضالية للثورة ومن قام بها، مع مطالبتي بضرورة وقف الاغتيالات حقتا لدماء الإخوة المناضلين، وبمجرد إتمامي للبيان تكون الفاجعة قد حلت، فلقد شن الفرنسيون حملة اعتقالات وتعذيب لكل من يحمل لقب نور، وتعدى ذلك إلى تعذيب والدتي بالإضافة إلى قصف القرية بكاملها بما فيها المنزل الذي كان يحوي مكتبة والدي فاحترقت كل المخطوطات التي كان يملكها الوالد بما فيها المخطوط الذي كنت أود طباعته لما أعود للجزائر "الرسالة السنية في رد على أتباع ابن تيمية" الذي كان غير معروف عند كثير من العلماء" مواصلا بقوله:" ما زاد في قلبي أسى معرفة من باعني الذي تسرب إلى الصفوف، وأصلح ذائع الصيت. وبداية من ديسمبر 1956 تم إنشاء صوت الجزائر بإذاعة صوت الجزائربالقاهرة، جندت جبهة التحرير مجموعة من الطلبة منهم عبد القادر بن قاسي، وعبد القادر نور وغيرهما لإذاعة الأخبار والتعاليق السياسية ببرنامج صوت الجزائر الذي أصبح يسمى صوت "الجمهورية الجزائرية، بعد تكوين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وفي أول ماي من سنة 1962عين عضوا في الخارجية. " إنهاء البث الإذاعي لصوت الجمهورية الجزائريةبالقاهرة والعودة لأرض الشهداء "بكلمة مؤثرة فيها شكر وتقدير لزملائنا في صوت العرب وللشعوب العربية من المحيط إلى الخليج" وفي يوم23 أوت 62 19، أنهى عبد القادر نور على إثر برقية واردة من الجزائر، البث الإذاعي لصوت الجزائربالقاهرة، ليستدعى للالتحاق بالإذاعة في الجزائر، والتي كانت تضم أكثر من 1200 عامل من صحفيين مهندسين وتقنيين، الأمر الذي جعله يتردد بعض الشيء، ويوضح موقفه هذا بقوله:" بعد رجوعي للجزائر قمت بزيارة الوالدة المريضة وأخي الوحيد "بشير" الذي وجدته منهكا بعد أن قضى سنتين في السجن، المهم بعد ترتيب أمور عائلتي، فكرت مليا بعد أن نصحني الأخ محمد حربي، بعدم دخول الإذاعة على أساس: أنك ستجد أناسا عاشوا حياتهم كلها، فيٌ خدمة الإعلام الفرنسي، فقررت الولوج للإذاعة بمبدأين، أولهما الحفاظ على الهوية الوطنية وثانيهما قطع حبل الاستمرارية مع النظام الاستعماري "الالتحاق بالعمل الإذاعي بالجزائر لأساهم في أول خرق لاتفاقيات إيفيان" اتجه نور صوب الإذاعة وإذا بالعلم الفرنسي يرفرف فوق البناية، الأمر الذي حز في نفسه كثيرا، وأول ما دخل تعرف على عيسى مسعودي صورة بعد أن كانا يتعارفان على بعضهما صوتا، وقررا أن يحاولا بكل الطرق من أجل إنسحاب الفرنسيين بطريقة شرعية، ذلك أن إتفاقيات إيفيان لاتنص على الانسحاب الفوري من الإذاعة والتلفزة والسينما، وبعد عدة محاولات باءت كلها بالفشل، كالإهانة التي تعرض لها وزير الإعلام حاج حمومن قبل السفير الفرنسي الذي رفض بطريقة فجة إمداده بالهيكل التنظيمي للإذاعة والتلفزيون، سرد "نور" بعد هذه الحادثة:" المرحلة كانت دقيقة حيث اتفقنا مع عيسى مسعودي، وخالد سافر وعبد الرحمان الأغواطي وعبد العزيز الشكيري على إنزال العلم الفرنسي، تزامنا مع اقتراب الذكرى الأولى لاندلاع الثورة المظفرة، فقمنا بإنزال العلم لنرفزتهم لأنهم لم يستجيبوا لإنزاله بطريقة حضارية. وانسحب كل الفرنسيين في 28 أكتوبر 62 وبذلك حققنا خطوة جبارة بتحرير أكبر مؤسستين إعلاميتين للدولة الجزائرية الحديثة. ماحدث في الثورة التحريرية من تصفيات ليست خيانة وعلى المسؤولين إعادة بعث قانون تجريم الإستعمار الفرنسي" هذا ولم يفوت عبد القادر نور خلال اللقاء الذي جمعه مع الأمة العربية، دعوته لكل وطني مخلص إلى ضرورة كتابة التاريخ الوطني بمنظور جزائري مستقل غير قابل للتبعية الفكرية، كون المدرسة التاريخية الفرنسية المعاصرة كتبت أكثر مما كتبه الجزائريون عن أنفسهم، الأمر الذي يستدعي حسبه إعادة بعث وصياغة قانون تجريم الإستعمار الفرنسي من جديد، وفضح الكتابات التاريخية التي أنتجتها المدرسة الكولونيالية في الداخل والخارج من خلال المنهج السليم والطرح الأكاديمي الراقي، قصد الحفاظ على هوية هذه الأمة وتطعيم الأجيال القادمة حتى لاتصاب بإنفصام الشخصية في ظل سياسة غربية تهدف إلى تهجين المجتمعات وإضعافها من خلال هدم كل مقاومتها. وأرجع "نور' تردد المؤرخ الجزائري ويأسه من تطور الدراسات التاريخية، إلى عوامل عدة من أبرزها الخوف من التاريخ على أساس أنه يمثل وسيلة تجريم فلان أوعلان. وفي هذا السياق، قال المناضل "عبد القادر": "هذه طابوهات ذلك أن الخلافات والتصفيات التي حدثت في ثورتنا المجيدة لا يهدف من ورائها المصالح الشخصية بقدر ما كانت تهدف في نظري إلى الإسراع في تخليص الجزائر من مأساتها، وعلى هذا الأساس لا أعتبرهم خونة".
" تضييق ثقافي وإعلام يحتاج للانفتاح" وحاول "نور" ربط قضية التاريخ بالواقع الثقافي ببلادنا الذي يعاني التشتت الفكري والتضييق في ممارسة الحريات وعدم تشجيع الكتابة التاريخية، حيث ذكر أنه تقدم بطلب اعتماد عدة مرات من السلطات الوصية وذلك منذ حوالي 12 سنة، ولكنه لحد الساعة لم يلقى الرد، ويتضمن تأسيس الرابطة الجزائرية للحركة الطلابية أثناء الثورة من 1954-1962، التي تجمع رجال الثقافة الثوريين، وتتولى تنظيم الملتقيات وإصدار مجلة وطنية تكون رصيدا للأجيال في الحفاظ على ثوابت الأمة، بالتعاون مع مركز الدراسات التاريخية والهيئات الناشطة في المجال. ولم يخف "عبد القادر نور" تأسفه للوضع الإعلامي الذي لم يعرف بعد إنفتاح القطاع السمعي البصري الذي دعا إليه منذ الثمانينات، مبينا أن الإعلام يجب أن يكون قريبا من المواطن ويومياته لإمتصاص التجاوزات والمشاكل التي يعانيها، لكي لاتتكرر مآسي العشرية السوداء. من جهة أخرى، أوضح محدثنا أن الإعلامي الحقيقي عليه الإلتزام بالجدية والقناعة بما يقدم، ويناضل باستمرار من أجل الكيف لا الكم، بالاعتماد على اللغة العربية الجامعة لكل أبناء الوطن والحفاظ على اللغة الأمازيغية بلهجاتها المحلية التي لا يمكن تجاهلها حفاظا على الوحدة الوطنية. حلمي الوحيد رؤية الجزائر مطمئنة وفي ختام جلستنا الودية مع الأستاذ عبد القادر نور، كان الحلم الوحيد الذي ظل يردده على مسامعنا أن يرى الجزائر مطمئنة لا أكثر ولا أقل.