يعتبر مسجد علي بتشين من المساجد العتيقة التي تزين قلب العاصمة الجزائرية، ولقد شهد منذ سنة 2004 عدة ترميمات، ما جعل المصلين لا يلتحقون به إلا في شهر ديسمبر الفارط، أين فتح أبوابه من جديد لسكان القصبة والأحياء المجاورة لها. ومع تواصل الترميمات على مستوى منارة وسطح مسجد علي بتشين، ارتأت "الأمة العربية" الولوج للمسجد لتقف عند أهم ما شملته عملية الترميم والتعديلات التي أدخلت عليه، والتي اعتبرها باحثون في علم الآثار مساسا وتشويها لأصالة المسجد. ولإبراز صحة ذلك، أردنا الرجوع إلى التاريخ و الوثائق القديمة والدراسات التي تمحورت حول مسجد علي بتشين للتعرف على طرازه المعماري القديم والوقوف على بعض المظاهر الجديدة التي بصم عليها المسجد في الوقت الراهن. يقع مسجد علي بتشين بالجزائر العاصمة، في زاوية التقاطع بين شارعي باب الوادي والقصبة، وهو مسجد جامع تقدر مساحته الإجمالية ب 500 متر مربع، وتمتد واجهته الشرقية على شارع باب الوادي والقصبة. "علي بنجنين" الإيطالي المسلم الذي دوّن اسمه في قلب العاصمة ترجع أصل تسميته نسبة الى مؤسسه علي بجنين بن عبد الله الذي كان مسيحيا ثم أسلم، وفي وثيقة عثمانية تعود لسنة 1007 هجري (1599) أن القائد فتح الله بن خوجة بيري، هو الذي أعتقه، وفي وثيقة أخرى أن علي بنجنين كان تاجرا، وحسب مخطوط متوفر في المكتبة الوطنية الجزائرية، للإدار ي الفرنسي المكلف بالعقارات في مدينة الجزائر "ديفولكس"، فلقد ورد فيها أنه كان يتاجر في السلاح كما جرت العادة آنذاك في إطلاق هذه التسمية، وفي وثيقة أوقاف خاصة به حررت بمعرفة القاضي الحنفي أنه أصبح من كبار قوات الجيوش العثمانية. وأما بعض الروايات الغربية هو الأميرال بيتشنيني الإيطالي الأصل الذي كان له ولد فيما بعد يسمى تشلبي، وقد ذكره الأسير الغربي إمانويل دارندا في مذكراته التي طبعت سنة 1956 في بروكسل، وقد بني المسجد سنة 1032 ه (1622م)، ويذكر ديفولكس أنه في 1115ه (1703) تحول اسم المسجد ليأخذ اسم سيدي المهدي وهو وكيل ذلك المسجد. وكانت تضم أحباس هذا المسجد أرضا وثلاثة دور وسبعة عشر حانوتا وثلاث غرف وفرنا وحماما وطاحونة وفندقا، وقد بلغت مداخيل المؤسسة سنة 1834 مبلغ 1610 فرنكا و15 سنتيم، ويتكون فريق موظفيه من وكيل ومؤذن وإمام وحزاب وخطيب وكناس وثلاثة مؤذنين في الداخل. ولقد استعمل المسجد في بداية الإحتلال الفرنسي كصيدلية عسكرية ثم تحول في 27 مارس 1843ميلادية إلى كنيسة للمذهب الكاثوليكي عرفت باسم "سيدة الإنتصارات"، ولم تحدث عليها تعديلات كثيرة، إلا أنه فقد منارته التي هدمت سنة 1860 بغرض المصلحة العامة والتي لم يذكر ديفولكس فحوى هذه المصلحة الأمنية التي اقتضت هدم المئذنة. أعرق مسجد يزاوج بين الطرازين المغربي الأندلسي والعثماني فيما يخص التصميم العمراني الذي يميز مسجد علي بتشين، فلقد ذكر الدكتور حسين مؤنس في دراسته للمساجد الإسلامية "أنه صغير الحجم نسبيا وبيت صلاته تنطق بالأثر التركي، إذ نجد قبة عثمانية الطراز مثمنة الأضلاع، تقوم فوق قلب بيت الصلاة مرتكزة على أربع دعائم ضخمة، وبيت الصلاة مقسم إلى إيوانات تزيين الجانبين منها عشرون قبة صغيرة، و هو العدد الذي اختلف بشأنه الباحثون، إذ أشار الدكتور مصطفى بن حموش في كتابه "مساجد مدينة الجزائر وزواياها وأضرحتها في العهد العثماني"، أن قاعة الصلاة تحيط بها أربع وعشرون قبة صغيرة وليس عشرون، ويستند الكل على أربعة أعمدة رئيسية تنخلها ثمانية أعمدة ثانوية، وقد كانت هذه الأعمدة الثانوية في الأصل ستة عشر موضوعة مثنى مثنى، وقد أضاف الفرنسيون سنة 1843، الإسمنت بين كل اثنين بغرض التقوية، فصارت تبدو ثمانية فقط، ومما يتضح أن الأقرب الى الصواب ما ذكره "بن حموش"، لأنه استند على وثائق عثمانية في دراسته هاته على خلاف الدكتور الكويتي حسين مؤنس الذي اعتمد على بعض الكتب التي تناولت المسجد. وأضاف "بن حموش" أنه قد كانت هناك ساحة داخلية من جانب الأيمن للمسجد، أما قاعة الوضوء أو الميضأة فقد كانت خارج المسجد وهي على امتداد الواجهة المطلة على شارع القصبة. أما أسفل قاعة الصلاة، فيضم سبعة حوانيت، بالإضافة إلى مدخل ضيق يؤدي إلى الضريح، بواسطة درج من ثماني عشرة درجة، ويخرج المحراب على شكل جناح من هذه الواجهة، أما المئذنة فهي مربعة القاعدة ويبلغ طولها خمسة عشرا مترا، وتقع عند زاوية التقاطع بين الشارعين الرئيسين، وتحتها عين للشرب سميت عين الشارع. أما الواجهة الجنوبية التي تمتد على شارع القصبة، فقد كانت تضم تسعة حوانيت، بالإضافة إلى المدخل الرئيسي، وقد حول الفرنسيون البوابة الرئيسية التي كانت في مسجد كجاوة إلى هذا المكان سنة 1843، وقد كتب على دفة من هذا الباب كلمتي"ماشاء الله" التي ينسبها المؤرخون إلى المعلم أحمد بن لبلاجي أمين النجارين. من جهته، أكد الباحث "سعيد بوزرينة" أن المسجد علي بتشين أول مسجد يبنى بالقبة المركزية، أما المئذنة التي تحتل الركن الشمالي الشرقي والجنوبي الشرقي، فهي فقيرة من حيث الزخرفة، وقد فقدت الكثير من شكلها لما حولت إلى كنيسة. وفيما يخص العناصر الزخرفية التي تميزه، قال "بوزرينة" أنها حديثة عملت بطريقة تشبه الزخارف المغربية في عصر الإزدهار والمتواجدة في الشبابيك والقبة المركزية وشبابيك القباب الثانوية المشكلة من نجوم وأطياف نجمية وفقا للتقاليد المغربية، والتي مازالت محتفظة بشكلها، كما توجد زخارف أخرى على هيئة معينات محفورة في الجص تحدها خطوط مفصصة ذات أصول أندلسية، ويتوسطها إسم الجلالة"الله" بالخط الكوفي على أرضية نباتية من مراوح نخيلية وأنصافها نجدها، خاصة في بطون العقود. وخلص الباحث "بوزرينة" إلى أن الدارس لتخطيط مساجد مدينة الجزائر ونظامها المعماري، يصنف مسجد على بتشين ضمن طرازين رئيسيين، الطراز المحلي والوافد، بمعنى أنه يرتكز من جهة على الأعمدة والدعامات، ويتميز بقلة الزخرفة، وكذا الحجم الصغير الخاص بالصلوات الخمس، كما أنه يتواجد في الأحياء الشعبية ذات السقف المسطح، ومن جهة أخرى يعتمد على أنماط معمارية وأشكال تخطيطية وافدة، من أبرز عناصرها القبة المركزية، ما يوضح لنا أن هناك تعايش بين الطرازين، تنم عن استمرار للتقاليد المغربية الأندلسية من جهة والانفتاح على الطراز العثماني. محو آثار الزليج المزخرف بزهرتي القرنفل واللاله لقد نالت زهرة القرنفل المحورة حصة الأسد في مسجد علي بتشين قبل ترميمه، إضافة لزهرة اللاله التي انتشرت في فنون وعمران العثمانيون بكثرة، لكون اسمها يتكون من نفس أحرف كلمة الجلالة "الله"، ولقد وردت هذه الزهرة على قطع الزليج في مؤخرة الصحن في مسجد علي بتشين، وهذا وفقا لصور كانت قد أدرجتها إحدى الطالبات في مذكرة تخرج حول ميضأة مساجد مدينة الجزائر. ولكن الزائر الذي يرتاد مسجد علي بتشين لا يجد هذا النوع من البلاطات الخزفية المجسد ة من زهرتي القرنفل و اللاله، وكل ما يعثر عليه من زليج هو حديث الصنع، موجود في كلا من المحراب والمشكل من زخارف هندسية مختلفة كالنجوم والمربعات والمعينات موزعة بطريقة تناظرية، إضافة إلى البلاط الموجود في النافورة والذي يطغى عليه الشكل الهندسي الثماني وتحيط به أزهار، وبلاطات أخرى على شكل مثلثات ومربعات، أما الزليج المستحدث في العين المحاذية للمحلات السبعة التابعة للمسجد، فيحتوي على تجميعات مشكلة من زخارف نباتية، وهي بلاطات كما أكد لنا ذلك باحثون في علم الآثار، لا تمت بصلة للفترة العثمانية، وهو ما اعتبروه تشويها ومساسا لأصالة المسجد.
نقوش معاصرة على الجدران ومحراب يفقد أحد أضلاعه إن المتفحص لمسجد "علي بتشين" في شكله الحالي لا يجد الزخارف ذو الأصول الأندلسية، ولا الكتابات الخطية المنقوشة التي كانت على الجدران الداخلية للأقواس المرتبطة مع المراوح النخيلية، وفيما ذكرته الدراسات أن الخط الكوفي ورد مرة واحدة في المسجد، لما نقش اسم "الله" على أحد المعينات، أما باقي الكتابات الخطية الموجودة على جبس الجامات ذات الأشكال الهندسية فلقد حملت اسم الله بخط النسخ، وما يلاحظ أن الكتابات الأثرية المدونة بالخط العربي لا وجود لها اليوم، ويقتصر الأمر على وجود كتابة خطية مستحدثة فوق قوس المحراب دونت عليها من اليمين البسملة وسورة الإخلاص وصدق الله العظيم، وهي خطوط التبس علينا تصنيفها في خط من الخطوط العربية، وهنا ندعو الخطاطين لتوضيح لنا طبيعة الخط الذي يظهر لنا في غير قواعده، والله أعلم. أما فيما يخص المحراب فبعد أن كان سداسي الأضلاع كما ورد في مخطوطات عثمانية، أضحى خماسي الأضلاع، ويحيط بجدرانه أشكال هندسية ونباتية محورة قال عنها متخصصون أنها غير متطابقة مع الديكور العثماني في هذا المسجد الذي كان يميزه أشكال وردية ومراوح نخيلية مشكلة من سيقان متتابعة. ابتداع أعواد خشبية بين تيجان الأعمدة وظلة خشبية منصبة فوق الأبواب إن الداخل لمسجد علي بتشين يلمح الأربطة أو الأعواد الخشبية التي تمتد عرضا بين تيجان الأعمدة المتجاورة، لتربط بعضها إلى بعض وتحول دون انفراجها تحت ثقل العقود، وهي الأعواد التي لم تذكر قط من قبل الباحثين أنها كانت في المسجد، ولقد اعتبرها الدكتور حسين مؤنس في ذات المصدر أنها من العيوب المعمارية التي تشين جمال العقود وتقلل جمال المسجد كله. والملفت للانتباه عند ولوجك لمسجد "بتشين" وجود موضع الشماسة فوق الأبواب، والتي لم تدرج في الرسومات البيانية القديمة التي تبرز التصميم الخارجي للمسجد، وهي ظلة خشبية زخرفية ذات طراز عثماني تقام فوق الأبواب والنوافذ لتحمي الداخل إليها من الشمس والمطر. ميضأة مسجد علي بتشين تتحوّل من مكانها الأصلي لتعوض بدورات المياه كانت ميضأة مسجد علي بتشين أو نافورة الوضوء تتواجد بوسط صحن المسجد وهي على امتداد الواجهة المطلة على شارع القصبة، اليوم أدرجت النافورة إلى داخل المسجد بعد أن فقدت بعضا من شكلها العثماني الأصيل، خاصة على مستوى البلاطات التي تحيط بالميضأة، وكذا الحجم والزخارف الموجودة في الحوض، ومع ذلك فهي لاتزال محتفظة بالقطعة الرخامية التي تعلوها والتي جاءت على شكل باقة ورد، لكن الشيء المؤسف له، أنه بعد أن كانت معطلة أصبحت مجهزة وغير موضوعة للإستعمال، وحل محلها دورات المياة التي نصبت على مستوى الصحن، مع محو كل المداخل الستة التي كانت تحيط بالميضأة، إذ كان كل مدخل حسب ما تبرزه الصور القديمة التي بحوزتنا يحتوي على دعامتين رخاميتين يعلوهما قوس، وعلى سطح كل دعامة أشكال حلزونية وأزهار، كما يكسو حائط الميضأة بلاطات خزفية مشكلة من زهرة اللاله وزهور مختلفة مشكلة من سيقان وأوراق، متكررة ومتوازنة تحدث أثرا زخرفيا جماليا، ولكن للأسف كل هذا اندثر، وما صادفناه ونحن نجوب في المسجد وجود بقايا للأعمدة مركونة في إحدى زوايا الصحن ليومنا هذا، والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان ما مصير هذه القطع الأثرية إن كان الترميم قد تم، وهل سيكون مآلها مثل غيرها من القطع التي قبرت، أم سيكتب لها أن تعيش في أحد المتاحف الجزائرية، ويعود إلى تاريخها كل دارس وعاشق للتاريخ؟ المسؤول على الورشات بمسجد علي بتشين "بن مبارك" يكشف ل "الأمة العربية" "تكلفة ترميم فاقت المليارين ومهمتنا متابعة إنجاز مخطط الترميم" كشف مسؤول على مستوى ورشة مسجد علي بتشين، "بن مبارك"، أن مؤسسة ايكوتراب تتولى في الوقت الراهن مهمة تهيئة المحلات التابعة للمسجد وتركيب الكهرباء، وكذا إتمام صنع المنارة ذات السبعة أمتار، هذه الأخيرة التي اعتبر الحصول على موادها بالطريقة القديمة صعب، مؤكدا أن الترميمات كانت باستعمال المواد القديمة كالآجر، الرمل، الرخام والجبس والخشب، ولقد تم مؤخرا إيجاد عامل يتقن صنع المنارة بمواد طبيعية جلبت من منطقة أميزور ببجاية. وفيما يخص التعديلات التي تمت على مستوى المسجد، قال عنها "بن مبارك" إنه ليس لديه أية معلومات عن الطراز المعماري الذي كان عليه في الماضي، ومهمته تكمن في متابعة مدى تطبيق مخطط الترميم الذي أنجز من قبل مكتب دراسات متخصص، ولكنه لم ينفي وجود تغيرات على مستوى الرواق الداخلي للمسجد، وإستحداث ثريات جديدة و منبر عادي وقرميد على الطريقة الحديثة ذلك أنه لا يوجد من يصنعه بالطين المحمى على الطريقة التقليدية. وأضاف "بن مبارك" بأن الأبواب صنعت بحطب يختلف عن القديم، لأنه بمجرد تعرضها للشمس تتشقق طبقات الطلاء،أما الباب الرئيسي للمسجد قال بشأنه محدثنا أنه تم صنع نسخة طبق الأصل من الباب الأصلي الموجود حاليا بمعهد الفنون الجميلة، والتي ستركب للمسجد على شهر. وفي ذات السياق، وفي سؤالنا له حول بقايا الآثار التي لازالت مركونة بإحدى زوايا الصحن، قال"بن مبارك" إنه سيتم ضمها مع النافورة (المنتهية الصنع) كآثار قديمة. من جهة أخرى، صرح "بن مبارك" أن تكلفة ترميم مسجد علي بتشين هي مليار و900 دينار. أما باقي الدراسة الخاصة بإنجاز بيت للإمام ومدرسة قرآنية وقسم خاص بالنساء، فأكيد قال "بن مبارك" أن تكلفته الإجمالية تصبح تفوق المليارين، داعيا وزارة الشؤون الدينية لأن تباشر في الإعلان عن تكملة المشروع والإنطلاق فيه. إلى متى نبقى نستهين بآثارنا وهي تتهاوى أمام أنظارنا؟ ومهما يكن من تغيرات على المسجد قد يراها البعض غير مهمة، لسبب بسيط هو أن الفائدة بالنسبة إليهم تكمن في إعادة فتحه من جديد بعد أن كان آيلا للسقوط، إلا أن الواجب قوله إن الترميمات التي تمس بالجوهر الأصلي لمساجدنا العتيقة هي بمثابة طي صفحة من صفحات ذاكراتنا التاريخية، والمسؤولية في ذلك مسؤولية الجميع، والذي أردناه من خلال هذا التحقيق أن نلفت اهتمام المسؤولين والباحثين وكل جزائري غيور على هويته من التغيير الذي يطال معالمنا، أو بالأحرى ذاكرتنا التاريخية. فإذا كانت بالماضي نهضة معمارية مساجدية في البلاد الإسلامية، فعلى الذين يودون اليوم إنشاء مساجد من طراز جديد، عليهم أن يبرزوا ذلك في مساجد غير المساجد العتيقة، لأنها حصون ذاكرتنا. والسؤال الذي يبقى يطرح: إلى متى سنظل نستسهل اندثار كل حجرة من معلم تاريخي، وهل من صحوة للذين هم في غفلة من أمرهم؟