صدر حديثا عن دار الحكمة كتاب لمحمد بغداد بعنوان 'الفتنة الصغرى ' الفتوى الفقهية في زمن الثورات العربية'، والذي يتناول أهم الفتاوى الصادرة في حق الثورات العربية لتأثيرها في الحياة العامة وسيطرتها على مسار الأحداث، وعمق تناولها في النفوس الثائرة على الأنظمة البائدة، والتنافس الشديد بين الجماهير والأنظمة من أجل الحصول عليها والظفر بشرعيتها. قدم تصدير الكتاب الذي جاء من الحجم المتوسط في 284 صفحة، الدكتور بومدين بوزيد بعنوان 'الفتوى والسياسة فقه الجسد الافتراضي' والذي اعتبر كتابات محمد بغداد ذات الخصوصية الثقافية الإعلامية بأنها تشكّل إضافة في المقال الثقافي السياسي الجزائري، مضيفا بأنه مرجع يلخص لنا الخلاف الذي ظهر بين النخب الدينية خلال سنة من التغيرات والسقوط لبعض الحكام العرب، وكيف شكلت الفتوى الفضائية صناعة رائجة بالنسبة للذين يستغلونها للربح التجاري دون احترام لخصوصية المجتمعات والمذاهب. استهل الكتاب بمقدمة تطرقت إلى أهم مؤشرات طغيان الخطاب الديني على الربيع العربي وكيف حادت مسلكية الفتوى عن النمط التقليدي الذي عرفت به من التأني في النطق بالفتوى إلى استغلال الفضاءات الافتراضية في الترويج للفتاوى المتعلقة بانطلاق الثورات، والتي عمقت الإنقسام والتشرذم في أوساط الأمة. وختم الكاتب 'بغداد' كلمته التمهيدية بدعوة القارئ إلى التمحيص والملاحظة في متابعة الأحداث بعيدا عن تخمة الإستهلاك الإعلامي المكثف، موضحا بأنه يبتغي من وراء كتابته فتح نقاش نقدي ومسؤول يرتقي إلى مستوى التحديات القادمة. تناول الكتاب خمسة فصول، حيث شكل موضوع علاقة السلطة السياسية بأدبيات المنظومة الفقهية أحد محاور الفصل الأول الذي جاء بعنوان 'أذكار الخروج'، حيث ركز فيه على تحول مفهوم كلمة الفتنة التي كانت بمثابة سلاح في يد مختلف الأطراف في صراعها التاريخي إلى لحظات للإنعتاق وتجسيد الإرادة الإنسانية بعيدا عن التخويف، متوقفا عند نص ابن حزم للحديث عن قضية رأس السلطة السياسية ومفهوم معارضة السلطة في الإسلام. فيما افتتح 'بغداد' فصله الثاني الموسوم ب'المنافحة العمودية' بما كتبه أبو جميل الحسن العلمي في مقاله ' علماء السوء في زمن الثورات' و الذي أصدره نتيجة الفتاوى الكثيرة التي زاحمت أخبار الثورات العربية، موضحا بأن الفتاوى انقسمت إلى شقين منها المدعم للثورات باعتبارها الفرصة التي تعيد للأمة حقوقها المهضومة، ومنها المحذر منها كونها تنحصر في إطار النقمة الإلهية والنتيجة الحتمية للذنوب والمعاصي. استدل الكاتب في إبراز خريطة الفتوى التي صاحبت سيرورة الثورات العربية على أشهر الفقهاء الذين اتخذوا من الوسائط التكنولوجية وسيلتهم في إطلاق فتواهم. ومن الذين أيدوا شرعية السلطة واتهموا المعارضين بإثارة الفتنة، ذكر 'بغداد رأي رئيس هيئة كبار العلماء في السعودية الشيخ 'عبد العزير أل الشيخ' الذي جرم المظاهرات وقال إن لا هدف لها وجاءت لضرب الأمة وتشتيتها'، وهي الفتوى التي اعتبرها 'بغداد' بأنها أول فتوى تصدر عن الحركة الوهابية غير مستندة للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية. ليتبع المؤلف بأسلوب استدلالي شرح موقف شيخ الوهابية في الجزائر 'فركوس' الذي يدخل كل التيارات الإسلامية التي تعتمد الأنظمة والوسائل الديمقراطية في زمرة الكفر، وهو الموقف الذي يصفه صاحب الكتاب بالمتناقض بين 'دعوته إلى تصحيح الأوضاع السياسية والإجتماعية والتربوية والمهنية، والمطالبة بعلاج آفاتها ومضارها بالتغيير إلى ما هو أسمى وأحسن'. وواصل 'محمد بغداد' في تبيان مواقف فقهاء وعلماء اليمن الذين أصدروا فتاوى الدفاع عن الأنظمة الاستبدادية وتحريم المظاهرات والاحتجاج على الأوضاع الاجتماعية البائسة والقهر السياسي، واصفا الفقيه في اليمن بأنه يفضل استمرار الفساد ويرفض السعي إلى الإصلاح، كونه اعتبر المحتجين هم من ينشر الخوف والرعب بالرغم من أن كل الشعوب تعرف بأن الاحتجاج في اليمن كان سلميا والمتظاهرين هم من تحمّلوا اعتداءات النظام السياسي. ليرفقه بتوضيح رأي أحد الأسماء البارزة في الحركة الإسلامية المعاصرة الشيخ 'محمد سعيد رمضان البوطي' من المظاهرات خلال تناول الإجابات التي رد بها الشيخ على خصومه الذين يصرون على ملاحقته بمختلف الأسئلة التي لها علاقة بالنظام وسلوكاته، والذي يرى بأن الفساد في مختلف مفاصل الدولة لا يعدو أن يكون مجرد تصرفات وسلوكات شخصية إدارية لا علاقة لها بالسلطة، على أن يبقى أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سيد المواقف، وهو ما جعل الكاتب يصنف فتواه إلى زمن الخلفاء الأمويين أو العباسيين. هذا، وأنهى 'محمد بغداد' فصله الثاني، برأي الشيخ 'ربيع المدخلي' باعتباره من الأصوات القوية في الساحة الدينية والتي تراهن عليها الحركة الوهابية، عبر عرض أحكامه الشرعية التي أطلقها على خلفيات المعارضة والثورة، وكذا الحلول الميدانية التي قدمها لتحصين الجيل القادم على الطاعة المطلقة للأنظمة السياسية، من خلال تطهير المكتبات من كل الكتب من الأفكار المدمرة والانهزامية، والتي أطلق عليها 'بغداد' بأنها الحالة التي عرفها المسلمون مع الغزاة وفي أزمنة الإنحطاط النادرة في تاريخ المسلمين. أما، في الفصل الثالث والموسوم ب 'المرافعة الأفقية'، فلقد تضمن وجهات الفقهاء الذين ساندوا الثورات، منهم 'يوسف القرضاوي' الذي انصبت جهوده في تزويد الثورات بوقود الفتاوى وان كانت المبررات خارج المنظومة الفقهية نفسها، لاسيما تلك التي بررت انتحار بعض الثوار المقهورين من رعايا الأنظمة العربية، وموقفه من الثورة الليبية والقضية البحرينية. ليتبعه إيراد وجهة نظر الشيخ 'حاكم المطيري' التي تأكد شرعية الفعل الثوري في إزالة ظلم الأنظمة وإقامة العدل ونصرة المظلومين، فيما جاء موقف مثقف الإسلاميين وفقيه المقاصد 'أحمد الريسوني' يدعو الفقهاء بالانخراط في القضايا السياسية وإطلاق صفة الشهيد على قتلى الثورات العربية، وكيف بشر بميلاد مرحلة جديدة تتجاوز مرحلة ما سمي في تاريخ الفكر الإسلامي بمرحلة التجديد إلى مرحلة المراجعة الجارفة التي تزيل الكثير من القضايا الهشة. في حين، يفتح الدكتور 'عصام البشير' المجال أمام تقاتل رجال الدين والفقهاء من أجل الظفر بثمرات الثورات العربية، وأن هدف العلماء هو تصحيح المفاهيم واستقلال الإفتاء. بينما الشيخ 'عائض القرني' فلقد شغل باله خلال الثورات العربية المشتعلة بلغة وسائل الإعلام المستندة على القاموس القرآني، مقيما الثورات بأنها سرقت من شعوبها مستثنيا ثورة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمان في الجزيرة العربية. إضافة إلى ذلك، عرض الكاتب مجموعة من الفتاوى اليمنية التي ناصرت الثورات وتتهم السلطة بالاستبداد، وتحملها مسؤولية قيادة البلاد إلى الهلاك والدمار، لينتهي الفصل الثالث بمقال عن استعادة الأزهر الشريف لمكانته العظيمة في نفوس المسلمين من خلال استيلاء النخب الأزهرية على قيادة الثورات المنتصرة. أما فيما يخص الفصل الرابع الذي جاء بعنوان 'عويل الصراخ' فلقد حلل 'بغداد' الحملات الشرسة التي أطلقها العلمانيون على النخب الدينية في خضم التحولات الكبرى في البلاد العربية. ليخلص الكتاب بفصل ختامي أطلق عليه عنوان ' ألم الصبر وصرامة السيف'، تطرق فيه إلى مشكلة السلطة في تفكير المنظومة الفقهية. واختتم 'محمد بغداد' قوله بحصر الخلاف الشديد في مسألة الثورات العربية فقهيا، بين احتمالين إما الإنهيار التراجيدي للمنظومة الفقهية الإسلامية برمتها، وإما المزيد من تغلل المنظومة الفقهية في حياة الناس وارتفاع مستويات استهلاك الخطاب الديني، معتبرا الامتحان الحقيقي الذي سيواجه كل هذا الكم من الفتاوى، إلى الطبيعة التي ستؤول إليه نتائج الثورات العربية وما ستصير إليها حركتها، مستنتجا بأن المنتوج الفقهي الذي ظهر أثناء الثورات العربية قد وضع الفقيه نفسه في موقع إصدار قرار الحرب والسلم، ورفع القضية من مستوى الحاجة البشرية العادية إلى علياء الغيب.