"الأمّة العربية" تنجح في الوصول لقبر "إبن القيم الجوزية" سجن .. عذب وقضى حياته مطاردا، مات وحكم عليه بألا يدفن في مقابر المسلمين .. ورغم محاولات إجهاض فكره إلا أن مؤلفاته يسير في ركبها الآن مئات الآلاف من المسلمين، وحتى اليوم مازال علمه مثارا للجدل، إنه العالم الجليل "إبن القيم الجوزية" الذي نجحنا في الوصول إلى قبره، فلم نتوقع ما رأيناه وحيدا .. مهملا .. يقع بتواضع متناه في أحد مداخل مقبرة دمشق القديمة، لا يستوقف أحد ولا يزوره أحد، أمر عجيب يحدث في مكان يشهد حركة لملايين الزوار سنويا، فلماذا هذا القبر تحديدا منزويا ومحجوبا عن الزوار؟، ومن هو صاحبه؟، إن شاهدة القبر تقول أنه لواحد من أعلام الإصلاح الديني الإسلامي في القرن الثامن الهجري، فهو "إبن القيم الجوزية" الذي كان فكره بمثابة صدمة دينية فجرت الشارع الإسلامي آنذاك، ورغم أن تلك المقبرة تحوي رفات الكثير من المشاهير والعظماء، بل وآل بيت رسول الله صلى اله عليه وسلم، إلا أن الجوزية حرم من الدفن فيها، فقد كفر في زمانه ولم يسمح لجثمانه بأن يدفن مع المسلمين، فتم دفنه خارج المقبرة ليصبح بعد ذلك موضع قبره في مدخلها. ومن أمام مرقده نكشف حكاية عمرها 700 عام .... وقد ولد الجوزية في دمشق عام 1292 ميلادية " 691 ه"، وإسمه الحقيقي هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن مكي الدمشقي، واشتهر باسم والده "ابن قيم الجوزية"، ومن المعروف أن الجوزية هو تلميذ ابن تيمية، درس على يديه وتأثر به، وسجن عدة مرات وتعرض للتعذيب رفقة أستاذه، لكنه أطلق من سجنه بقلعة دمشق بعد وفاة ابن تيمية، ويتفق المؤرخون على أن تاريخ اللقاء بين التلميذ وأستاذه كان سنة 712ه ، وهي السنة التي عاد فيها إبن تيمية من مصر إلى دمشق واستقر فيها إلى أن مات سنة 728ه . المسلمون يحاولون قتله بعد تحريمه لزيارة الرسول "ص" رغم أن الجوزية قدم الكثير للإسلام والمسلمين من خلال باع طويل من العلم والتفاني، إلا أنه تعرض للكثير من الانتقادات، وهناك بعض طوائف المسلمين تكن له كراهية شديدة، وتتهمه بالخروج عن شرع الله، وتوجد الكثير من القصص التي تعرضت لحياة الرجل لكن معظمها إما منحاز وإما مهاجم، ويقال أن "التقي الحصني" كان أشهر من كتب عن الجوزية بحيادية، فهو يقول : "كان إبن تيمية ممن يعتقد ويفتي بأن شد الرحال إلى قبور الأنبياء حرام لا تقصر فيه الصلاة، ويصرح بقبر الخليل وقبر النبي صلى الله عليهما وسلم، وكان على هذا الاعتقاد تلميذه إبن قيّم الجوزية الزرعي وإسماعيل بن كثير الشركويني، فاتفق أن إبن قيم الجوزية سافر إلى القدس الشريف ورقي على منبر في الحرم ووعظ وقال في أثناء وعظه بعد أن ذكر المسألة: وها أنا راجع فلا أزور الخليل، ثم جاء إلى نابلس وعمل له مجلس وعظ وذكر المسألة بعينها حتى قال : فلا يزور قبر النبي "ص"، فقام إليه الناس وأرادوا قتله فحماه منهم والي نابلس، وكتب أهل القدس وأهل نابلس إلى دمشق يعرفون صورة ما وقع منه، فطلبه القاضي المالكي فتردد وصعد إلى الصالحية إلى القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي وأسلم على يديه فقبل توبته وحكم بإسلامه وحقن دمه ولم يعزره لأجل إبن تيمية... ثم أحضر إبن قيم الجوزية وادعى عليه بما قاله في القدس الشريف وفي نابلس فأنكر، فقامت عليه البينة بما قاله، فأدب وحمل على جمل ثم أعيد في السجن، ثم أحضر إلى مجلس شمس الدين المالكي وأرادوا ضرب عنقه فما كان جوابه إلا أن قال: إن القاضي الحنبلي حكم بحقن دمي وبإسلامي وقبول توبتي، فأعيد إلى الحبس إلى أن أحضر الحنبلي فأخبر بما قاله فأحضر وعزر وضرب بالدرة وأركب حمارا وطيف به في البلد والصالحية وردوه إلى الحبس، وجرسوا إبن القيم وإبن كثير وطيف بهما في البلد وعلى باب الجوزية لفتواهما في مسألة الطلاق " . علماء الأمة يشهدون بعلمه كتب كثير من علماء الإسلام عن إبن القيم الجوزية، وكثير منهم الذين أشادوا به وشهدوا له، منهم إبن رجب الذي يقول عنه : "كان ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة، والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله والانكسار له، والإطراح بين يديه وعلى عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك ولا رأيت أوسع منه علما، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس بمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله، وقد امتحن وأوذي مرات ، وحبس مع الشيخ تقي الدين "إبن تيمية" في المرة الأخيرة بالقلعة منفردا عنه ولم يخرج إلا بعد موت الشيخ، وكان في مدة حبسه منشغلا بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر ففتح عليه من ذلك خير كثير وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف والدخول في غوامضهم وتصانيفه ممتلئة بذلك" . وقال عنه إبن كثير: "لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جدا، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك " . هل أخطأ أم كان على حق ؟ من الأسئلة المحيرة الثائرة حتى اليوم هل أخطأ ابن القيم أم كان على حق؟، وهل إنكاره لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حلال أم حرام، إنه السؤال الذي فجر الخلاف والفرقة الفقهية بين العلماء والتشاحن بين المسلمين منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، وكان مدعاة لتناحر الطوائف وصل حد تكفيرها لبعضها البعض، لكن رغم هذا الجدل سيظل إبن القيم الجوزية ومن قبله إبن تيمية المؤسس الحقيقي للفكر السلفي، وأبرز فتاواه والتي حورب بسببها مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وفتواه التي تجيز المسابقة بغير محلل، وإنكاره شد الرحال إلى قبر الخليل عليه السلام، ومسألة الشفاعة والتوسل بالأنبياء، ورغم ما يصيب الرجل من قدح من عديد المذاهب الإسلامية إلا أن أحدا لا ينكر دوره في الاجتهاد والوصول لمرتبة العلماء، وإيمانه القوي بالله عز وجل وصبره على المصائب والشدائد في سبيل نشر أفكاره . رحلة العذاب والإهانة فقد لاقى الجوزية اضطهاد وعذاب شديدين نظير أفكاره، يقول إبن حجر في الدرر الكامنة: "غلب عليه حب إبن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه، واعتقل مع إبن تيمية بالقلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة، فلما مات إبن تيمية أفرج عنه وامتحن مرة أخرى بسبب فتاوى إبن تيمية، وكان ينال من علماء عصره وينالون منه" . 98 مؤلفا في الفقه والتفسير ترك الجوزية 98 كتابا في الفقه والتفسير أشهرها : الصواعق المرسلة، زاد المعاد، مفتاح دار السعادة، مدارج السالكين الكافية الشافية في النحو، الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، الكلم الطيب والعمل الصالح، الكلام على مسألة السماع، هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، المنار المنيف في الصحيح والضعيف، إعلام الموقعين عن رب العالمين، الفروسية، طريق الهجرتين وباب السعادتين، الطرق الحكمية، ذم الهوى، تبليس إبليس، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، الجواب الكافي لمن سئل عن الدواء الشافي . قبره يتعرض للانتهاكات عبر التاريخ وبعد هذه الرحلة والحياة المليئة بالعلم والجدل توفي إبن القيم الجوزية في ليلة الخميس 1350 م، 751 ه وقت أذان العشاء بعد أن بلغ من العمر ستون سنة ، فصلي عليه في الجامع الأموي ثم بجامع جراح، ووري الثرى في هذا المكان الذي نقف عليه، والغريب أن قبر الجوزية تعرض للانتهاكات عبر التاريخ من قبل بعض أفراد الطوائف الكارهة لفكره، وأكثر من مرة يتعرض للتدمير والتدنيس، حدا ببعض المتطرفين إلى التغوط والتبول فوقه، إلى أن قامت السلطات السورية بإعادة بناء القبر وتهذيبه وتعيين حارس عليه، ثم صدر قانون بمعاقبة كل من يمس بحرمة القبر .