"ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك عنه مسؤولا"، وبقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"، فالويل كل الويل لمن أطلق العنان للسانه أو قلمه من غير تبين ولا توثق، وكان سببا في صد أحد عن النهل من هذا المعين القرآني الوضاء!!! - ما أروعك أخي الأستاذ نسيم.. حققت لي ما كنت أتمناه من زمان... رجعت من رحلتك التدبر عفوا من "التربص التكويني المغلق في الكليات العقيدة الإسلامية من منطلق قرآني"، كما سميته، وما يثلج الصدر أخي نسيم هي شجاعتك وإقدامك وقرارك بالذهاب إلى هذا التربص بمنطلق علمي ومنهجي حسبي أنك طرحت كل الأفكار المسبقة من ذهنك والخلفيات الراسبة في ذاكرتك خارج أسوار معسكر أمير التدبر الأستاذ داود بوسنان، فغصت بما تملك من بضاعة عمق الرجل اللغز والبعبع هادم عرفنا وتقاليدنا وذاكرتنا كما يعتقد الكثير منا. اختار الأخ نسيم اختراق صفوف التدبر والقفز بهدوء دون ضجيج إلى الصفوف الأمامية وبالضبط إلى القيادة، فكان هذا الروبرطاج... إخواني في كل مكان تابعوا هذه النشرة العلمية لعائد من رحلة ليست كباقي الرحلات، إنه الأسبوع القرآني المسمى عندنا بستة أيام التدبر. "أفرفر نيجدي" مصطلح باللسان الميزابي شائع عند كل من خرج ستة أيام وتفرغ فيها للتدبر، ومعناه إن الإنسان خلق من تراب وكل من حضر الدورة طبعا من تراب... فيلتقي هذا وذاك والآخر أي العالم والعادي العامي والتاجر والمهندس والطبيب فيغربلون ترابهم أمام القرآن ليصبحوا تراتبا واحدا بعد خروجهم من الدورة، وبعد هذه الغربلة يكون المرء قد خرج بعد عملية مسح شاملة scanner لحياته السابقة وتصحيح مرة أخرى لعلاقته مع الله والعباد... وبعد هذا فورا يلجأ إلى تصفية ما تراكم في السنين الخوالي... وهكذا تحصل عملية رد المظالم وتصحيح كل ماتشابه سواء مع الله أو مع العباد لا ريب أن كل واحد منا قد تناهى إلى سمعه خبر تلك الرحلات القرآنية التي تقام في ربوع وادينا الحبيب أو في إحدى مدن التل بين الفينة والأخرى!! ولا ريب أن كل واحد منا قد دَلَفَ إلى خلده بعض ما يروج في الأوساط، ويذاع في المجالس، ويعقد في المنتديات حول ما يُعبر عنه بموضوع "التدبر" أو "جماعة التدبر"!!! نعم، لا شك أن كل واحد منا قد انقدحت في ذهنه صور نمطية مختلفة الأشكال، متباينة المعالم عن ماهية تلك الرحلات، وماهية مرتاديها، وقد تشكل في عقله قناعات ومسلّمات ربما قد تكون أصلب من الحديد، جراء قوة تلك الدعايات بغض النظر عن صحتها وسقمها!!! وأنا في الحقيقة ممن تجاذبهم في الموضوع طرفان؛ طرف ينحو بي نحو التشاؤم والتقزز والابتعاد عن هذه الجماعة، اعتبارا بأنها نذير شر، ومعول هدم للمجتمع وقيمه وإرثه الحضاري، وتماسكه الاجتماعي، وفاتحة قضاء على العلم الحق، وإيذانا بتمييعه وتسطيحه... وطرف يلزني إلى سبر حقيقة هذه الجماعة، وتبين مكامن القوة فيها من خلال ما ألحظ من بشائر خير، ومن تحول عجيب في السلوك والتصورات نحو الأحسن لدى خاصة أهلي وأقربائي وأصدقائي!!! فكنت محتارا في أمري، متقلبا في أفكاري، لم يتبلور لدي موقف واضح أقتنع به، وتطمئن له نفسي؛ حتى عقدت العزم جازما على التجرد من الخلفيات المسبقة، والأفكار القبلية تجردا تاما، وحضور إحدى الرحلات كاملة غير منقوصة، حتى لا تكون أحكامي بعد ذلك نوعا من الهذيان، إذ قد استقر في عرف العقلاء أن ليس الخبر كالعيان!!! فدعوني الآن أصف لكم بعض ما عشت، وبعض ما تحصل لدي من انطباعات وملاحظات، بكل موضوعية وتجرد... لو أردنا بداية وصف الرحلة وصفا منهجيا، أو التعبير عن فحواها تعبيرا عصريا مطابقا لما هو عليه الواقع؛ فيمكن أن نقول إنها "تربص تكويني مغلق في كليات العقيدة الإسلامية من منطلق قرآني"؛ فإطلاق عنوان من شاكلة هذا على نظام الرحلات هذا ولو على مستوى الطبقة المثقفة فحسب أنسب في نظري، وأفضل من أن توسم ب" تدبر القرآن الكريم" أو "رحلة مع القرآن" أو "في رحاب كتاب الله"، إذ أن تلك العناوين الفضفاضة توحي بأن الرحلة مشروع حضاري شامل ومتكامل للتعامل مع القرآن الكريم من جميع مداخله وأبوابه، وهي في الحقيقة لا تعدو أن تكون تكوينا رصينا في مواضيع عقدية وتصورية أساسية في حياة كل مسلم، كما سيتبين لنا من سرد المواضيع المطروحة في الرحلة... كما أن تلك العناوين تفتح المجال واسعا لتأويلات شتى مستوحاة من مجرد الاسم، متغافلا أصحابها أن الاسم لا يطابق المسمى تمام المطابقة دائما؛ فتلفي بعضهم يجهد نفسه في البحث عن مفهوم التدبر، ومعانيه اللغوية والاصطلاحية، ويحاول إسقاط ذلك على ما يتوهمه كائنة عليه الرحلة في الواقع، فيتوصل إلى نتائج ترضي ذوقه من مقتضى تحليله ذاك، يبثها في الملأ على أنها الحق الذي يمارى، والفهم الذي لا يجارى... وتلفي بعضهم يتخيل الرحلة جهدا تنظيريا أو تقعيديا أو تفسيريا، يضاهي ما قام به الأفذاذ من العلماء؛ كالرازي والألوسي وابن حيان والزمخشري في القديم، والشنقيطي وابن عاشور في العصر الحاضر، فترى كل همه التنقيب في كتب علوم القرآن وأدبيات التفسير؛ لاستجماع قائمة طويلة من الشروط التي ذكرها الأوائل لتحقيق أهلية تفسير كتاب الله عز وجل، يلوح بها في وجه صاحب الرحلة كالمحاكم له... في حين أن الرحلة لا تعدو أن تكون حديثا في آيات بينات واضحات (clear et net على حد تعبير الأخ داود)، وفي غالب الأمر مهجورات، منتقاة بعناية لتحيط بالمواضيع المزمع طرحها في الرحلة، وكلنا يعلم أن المفاهيم والتصورات والكليات (العقدية منها خصوصا) عادة ما تعبر عنها أدلة كثيرة متظافرة آخذ بعضها بعناق بعض، فيتحصل من مجموعها ما هو أقرب إلى الجزم واليقين، وهذا هو المعبر عنه بالاستقراء، وتكون آحاد تلك الأدلة كقطع الفسيفساء التي تساهم كل واحدة منها في تشكيل الصورة النهائية، وإبرازها واضحة للعيان، وهذا هو عين ما يقوم به علماء التفسير الموضوعي كإحدى الخطوات الإجرائية، وهو ما أبدع الأخ داود في تطبيقه، خصوصا في موضوع "الضر في القرآن الكريم". ولا يخالن أحد أن الأخ داود من الفقر المعرفي بحيث لا يستطيع التمييز بين الواضح والمشتبه، وبين ما هو متأت فهمه لكل من امتلك حظا أدنى من اللغة، وبين ما هو من اختصاص الراسخين في العلم؛ فالعلم يعطيك بقدر ما تعطي له من جهد وطاقة ووقت، وكل من عرف تاريخ الأخ داود يعرف منه مجاهدته ومصابرته، ومزاحمته للعلماء؛ في سبيل تحصيل العلم، ونشدان الحقيقة... ولكنها المظاهر التي كثيرا ما تقف حجابا كثيفا أمام الحقائق!!! ودائما أقول لأصدقائي متفكها: "لو فُرِض أن دكتورا مرموقا من دكاترة العقيدة في جامعة من الجامعات الراقية، أعلن في الملأ عن تنظيم تربص مغلق في العقيدة، وأطلق عليه اسما من الأسماء البراقة التي ألفناها في ملتقياتنا ومنتدياتنا، ثم إنه قام بعد ذلك بطرح نفس تلك المواضيع التي تطرح في الرحلة، وبنفس الأسلوب الذي يستعمله الأخ داود؛ لتُلُقى هذا الدكتور بالحضن والترحاب، ولنُشر اسمه في الجرائد، ولهرع الناس علماؤهم ودهماؤهم للاستماع إليه... ولكن بما أنها صدرت من إنسان بسيط ليس من ذوي الشهادات والمناصب، والزعامات؛ وليس من اللاهثين وراء المقامات السنية، وخطف الأضواء أمام الجماهير؛ فالحرب كل الحرب لما يأتي به، ولو كان عين الحق، ولب الصواب!!! ولست في هذا المقام أهزأ من أصحاب الشهادات العلمية، أو أنتقص من قدر أحد أو مكانته، ولكن كل ما أود التأكيد عليه هو أن الصور الظاهرة ليست كل شيء في معرفة الأشياء على ما هي عليه فعلا في الحقيقة والواقع ونفس الأمر كما يعبر الأصوليون!!! وأود أن ألاحظ في سياق حديثي عن الآيات البينات ملاحظة مهمة، تتمثل في أن الاهتمام ببعض الآيات البينات في الرحلة لا يعني أنها كل ما في القرآن من جهة، ومن جهة أخرى لا يعني عرض الأخ داود لها (خصوصا فيما يتعلق منها بآيات الأنفس والكون والنبات...) عرضا بسيطا يلائم فهم العوام، مكتفيا غالبا بالفهم الأول المتبادر من الآية... اختزال الطاقة الدلالية للآيات القرآنية (أو ما يسمى بخاصية الاكتناز) في معنى دلالي واحد، ولا يعني كذلك البتة تهميشه لدور العلوم الإنسانية، والتجريبية المختلفة (وعلى رأسها علم اللغة والبيان) في تفجير الطاقات المخزونة في النص القرآني... ولكن دواعي تفضيله لتلك الطريقة أمور: أولها: قصر فهم العوام عن الارتقاء إلى تلكم المستويات الرفيعة... فما تفقه بربكم عجوز بلغت من الكبر عتيا في الخصائص الفزيائية للماء، وأبعاد النجوم، ودقائق علم البحار، وما شاكل ذلك؟!!! خصوصا وأن الأخ داود من أكبر همومه "عولمة الذكر" كما صرح لنا في غير مناسبة، مصداقا لقوله تعالى: "إن هو إلا ذكر للعالمين، لمن شاء منكم أن يستقيم"، وكثيرا ما يباسطني في الرحلة بعد أن أشتكي له قلقي من اللغة البسيطة التي يستعملها، فيقول:"لا تنس أني أستعمل لغة الأسرة السعيدة التي تضم في ثناياها "مامه عيشة" و"لالة ستي" و"داديك حمو".. "فتنفرج من ثمَّ أساريري ويهدأ بالي!!! ثانيها: قصر عمر الرحلة، وكثرة المواضيع المطروحة، مما لا يدع فسحة للاستفاضة في إيراد المعلومات، والتعمق في العلوم المختلفة، وإلا خرجت الرحلة عن إطارها الموضوعة له، ولانقطعت المواضيع في منتصف الطريق، فلم تحصل الفائدة المرجوة... ومع ذلك شاهدنا لأزيد من ساعتين شريطا من أحدث الأشرطة العلمية في موضوع خلق الإنسان، بشرح أحد الأطباء المختصين، وكأن هذا من داود إشارة إلى أن الآفاق القرآنية لا تحدها حدود، كما أن فيه تأكيدا ذكيا غير مباشر إلى أنه لا يستنقص من قيمة العلم والعلماء البتة!!! ثالثها: وهو أهمها، ويتمثل في تركيز الأخ داود على الجانب الهدائي قبل الجانب المعلوماتي؛ فهو يسعى إلى إيقاد جذوة الإيمان بالله في نفس كل رحَّال ، واستشعار عظمته في الكون، وتذكر نعمائه وذكرها في كل آن وحين، وهذا ما يكفي في تحقيقه المعاني الأولى المتبادرة من الآيات إذا صاحبها استحضار العقل، وخشوع القلب، ثم تكون كل معلومة يستفيدها المرء بعد ذلك؛ إن لغوية وإن بيانية، وإن طبية أو فلكية نورا على نور؛ لأنها صادفت محلا طيبا، وتربة صالحة، وإلا كانت تلك المعلومة وبالا على صاحبها في الآخرة إن قُدر له أن استفاد منها في حياته الدنيا... "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" وهذه الملحوظة الأخيرة من أهم ما استفدته من الرحلة القرآنية، إذ فهِمت أن القرآن كتاب هداية وذكر قبل أن يكون كتاب معلومات وفكر، وإلا فما فائدة ذكر الشمس والقمر والنجوم والماء في مئات الآيات إذا كان المقصود مجرد الإعلام والإخبار؟!! كما فهمت سر سأمي من قراءة كتاب الله الذي لا أجد فيه إلا معلومات قديمة علمتها منذ صغري، خصوصا بعد أن أحلق في سماء التقعيد الفقهي، والتحليل الأصولي، والتنظير الفكري... فأدع كتاب الله جانبا متوهما أنه أنزل على أناس لا يرتقون إلى مستوياي، وأنني في غنى عن تدبر كتاب الله، نعم، لا تعجبوا هذا ما كان يوحيه إليه الشيطان، فأقوله بلسان الحال، وإن كنت طبعا لا أقوله بلسان المقال!!! وفهمت أيضا لماذا لم يلامس شعاع الهداية أفئدة بعض المستشرقين، وبعض المسيحيين العرب، بل حتى بعض المفكرين الإسلاميين الذين قطعوا في علم التفسير والدراسات القرآنية شأوا بعيدا، وبلغوا فيه مبلغا عظيما!!! وأدركت أن العلم وحده ليس كل شيء! بل لا يعد في الحقيقة شيئا إن لم يكن مصبوغا بصبغة الله، مشبوبا بنور الله، وهذا ما لا يتأتى إلا بالمداومة على الذكر والتلاوة آناء الليل وأطراف النهار!!! أفيحلو للبعض بعد كل هذا أن يعتبر بجرة قلم كل ما يقوم به الأخ داود (بتوفيق من الله كبير) تسطيحا للقضايا، وتهميشا للعلم!!! إنه لعمري لعمق العمق!!!