بين تلك الأزقة المتعرجة، والبيوت المتلاصقة خلف الجامع الأموي بدمشق، نقلت قدمايّ بخطى بطيئة بفعل الزحام والحشود البشرية التي قادتني رغما عني إلى مقام السيدة رقية بنت الحسين. كنت عاجزا عن فهم ما يجري إلى أن وصلت إلى صحن القبر حيث رأيت أضخم سرادق أبصرته عيني، الآلاف من الرجال والنساء جاؤوا من جميع أنحاء العالم في مشهد مهيب ليجتمعوا في هذا المكان، فعرفت من بعد أن الوقت والمكان هما للعزاء في شخص السيدة رقية، ورغم مرور ما يزيد عن ألف وأربعمائة عام، إلا أن هذا المكان يلتهب كلما اقتربنا من العشر الأولى من شهر محرم، فضلا عن الزيارات التي لا تنقطع على مدار العام. ذكر عبد الوهاب بن أحمد الشافعي المصري (المتوفى عام 973 ه) مقام السيدة رقية في كتابه "المنن: الباب العاشر": هذا البيت بقعة شرّفت بآل النبي صلى الله عليه وسلم في دمشق وبنت الحسين الشهيدة رقية، وقد ذكر العلامة الشيخ الحافظ سليمان القندوزي الحنفي (المتوفى عام 1294 ه) اسم رقية على لسان أبي عبد الله الحسين: ثم نادى يا أم كلثوم، ويا سكينة، ويا رقية، ويا عاتكة، ويا زينب، يا أهل بيتي عليكنّ مني السلام. إن للاسم تأثيرا عميقا على نفس الإنسان كما ثبت ذلك في علم النفس، ولذا ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن من حق الولد على والده ثلاثة: يحسن اسمه، ويعلمه الكتاب، ويزوجه إذا بلغ). وأما كلمة (رقية) -كما جاء في اللغة- فهي تصغير راقية بمعنى الارتفاع والسمو، والتصغير هنا للتحبيب. وهكذا جميع أسماء بيت النبوة، فهي جميلة ورزينة، ترمز وتشير إلى معاني الرفعة والطهر والنقاء والخير والصلاح. كان للحسين -رضي الله عنه- عدة أولاد، بنين وبنات، منهم طفلة ذات ثلاث سنوات هي (رقية) والتي أجمع المؤرخون الإسلاميون على أنها مدفونة في سوق شارع العمارة بدمشق. وقد ورد ذكرها في كتب الباحثين، خاصة في واقعة كربلاء، ويقولون إن الحسين ناداها ونطق باسمها في أكثر من موضع وحادثة، وخصوصا في الساعات الأخيرة من استشهاده عندما أراد أن يودّع أهله فنادى بأعلى صوته: (يا أختاه! يا أم كلثوم، وأنت يا زينب، وأنت يا رقية، وأنت يا فاطمة، وأنت يا رباب، انظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن عليّ جيباً، ولا تخمشن عليّ وجهاً، ولا تقلن عليّ هجراً). الذي يبدو من مجمل التواريخ أن السيدة رقية ولدت ما بين عام (57 ه و58 ه) وتوفيت في (5 صفر 61 ه). قصة استشهاد رقية بدمشق مؤلمة وتعجز الأفلام الهوليودية عن تجسيدها، فتقول كتب التاريخ: إن السيدة رقية في ليلة قامت فزعة من منامها وقالت: أين أبي الحسين؟ فإني رأيته الساعة في المنام مضطربا شديدا، فلما سمعت النساء بكين وبكى معهن سائر الأطفال، وارتفع العويل، فانتبه يزيد بن معاوية من نومه وقال: ما الخبر؟ فأبلغوه بالأمر، فأمر أن يذهبوا برأس أبيها إليها، فأتوا بالرأس وجعلوه في حجرها، فقالت: ما هذا؟ قالوا: رأس أبيك، ففزعت الصبية وصاحت فمرضت وتوفيت بعد يومين. وفي بعض الروايات: "فجاؤوا بالرأس إليها مغطى بمنديل فوضع بين يديها وكشف الغطاء عنه فقالت: ما هذا الرأس؟ قالوا: إنه رأس أبيك، فرفعته حاضنة له وهي تقول: يا أبتاه من الذي خضّبك بدمائك؟ يا أبتاه من الذي قطع وريدك؟ يا أبتاه من الذي أيتمني على صغر سني؟ يا أبتاه من بقي بعدك نرجوه؟ يا أبتاه من لليتيمة حتى تكبر؟ ثم وضعت فمها على فمه وبكت بكاءً شديداً حتى أغشي عليها، فلما حركوها فإذا هي قد ماتت". يقع مقام السيدة رقية على بعد (100 متر) أو أكثر من المسجد الأموي بدمشق، وعندما تشرع في الدخول إلى صحنه يلفت نظرك تلك اللوحة التي على باب مقامها مكتوب: (هنا مقام السيدة رقية بنت الحسين الشهيد بكربلاء)، وعندما تدخل للداخل تجد مقاما كبيرا مصنوعا ومشغولا بالذهب والفضة، ومن حوله مصلى كبير مفروش بأثمن السجاد الفارسي، وفي السقف توجد العشرات من النجف التركي النحاسي المكسو بماء الذهب، ويحيط بهذا كله صحن كبير معبد بالرخام والأحجار النفيسة. وقد دأب المسلمون سنة وشيعة على زيارة مقام السيدة رقية حتى أصبح من المشاهد الشهيرة عالميا، أما الأغرب فهو ذلك العزاء السنوي الذي يقام في صحن قبرها، ويحرص الكثير من الناس على حضوره وتقديم العزاء في المتوفية وكأنها ماتت لتوها