منذ استشهاد الحسين بن علي، حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في اليوم العاشر من محرم سنة 61 للهجرة، وهناك في كل بقعة من المناطق التي ينتشر بها الشيعة في العالم الإسلامي، تقام طقوس غريبة لا يعرفها أو يفهما الكثيرون، مما دفعنا للوقوف على ما يجري في المزارات الشيعية، فرأينا ما لم تر عين وسمعنا ما لم تسمع أذن. كنا في حيرة من أمرنا ونحن نحدّد وجهتنا، هل نذهب إلى كربلاء بالعراق، أم إلى القاهرة أم إلى دمشق؟ ما يحدث في العراق وما قد يلحق بنا من مخاطر بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة هناك، حرمنا من التوجه إلى كربلاء والنجف والكوفة، حيث معقل الشيعة وبؤرة نزوحهم من كل أنحاء العالم إلى هذه الأماكن. أما بالنسبة للقاهرة، حيث يوجد القبر الثاني للحسين، فإنه يفتقد الإقبال مثلما هو الحال في كربلاء، والسبب هو أن الشيعة المصريين مثلهم مثل اللبنانيين أتباع للمذهب الفاطمي الذي يرفض ما تقوم به بقية طوائف الشيعة، مثل الإمامة والإسماعيلية والزيدية، فهم يرفضون تسميتهم بالأشياع، ولكنهم يفخرون كونهم من نسل رسول الله "ص"، ويطلق عليهم "الأشراف"، لذلك قلما نجد طقوسا غريبة في مقام الحسين بالقاهرة، فلم يبق أمامنا سوى دمشق، حيث يوجد القبر الثالث للحسين وقبور معظم آل البيت. توجهنا إلى الضاحية الغربية من الجامع الأموي، فوجدنا الجموع السوداء الغفيرة تسد عين الشمس. كانوا ألوفا مؤلفة، يتدافعون باتجاه باب صغير مكتوب فوقه "مقام رأس الحسين بن علي سيد الشهداء". أخذت أشق لنفسي طريقا بين هذه الأمواج البشرية المتلاطمة، حتى وصلت إلى هذا الباب وكدت أدخل، إلا أن الأيادي الغليظة أوقفتني ومنعتني من الدخول. لم أفهم في البداية لماذا منعوني وحدي من ضمن هذه الألوف، وكيف تفطّنوا إلى هويتي وأني لست من "الحجيج". حاولت إفهامهم أنني صحفي وفي مهمة رسمية، لكن كل محاولاتي باءت بالفشل. ابتعدت حائرا من هذا الموقف، وبينما جلست لأستريح من عناء هذه الجولة الفاشلة، فإذا بي أكتشف أنني الوحيد بين الناس الذي لا يرتدي اللون الأسود وأني الوحيد الذي لم يضرب رأسه أو يبكي، فعرفت سر منعي من الدخول. وما أن اهتديت للسبب، حتى دب بداخلي النشاط من جديد وأسرعت باتجاه سوق الحميدية القريب من الضريح، فوجدت عشرات المحلات التي تبيع الأشياء الخاصة بالشيعة، وبالأخص اللباس الأسود، فهممت بشراء عباءة كتلك التي ترتديها المرجعيات الدينية وعمامة بيضاء، ولحظتها عرفت أن العمامة السوداء مخصصة للمرجعيات الدينية. أما البيضاء، فهي للشيوخ العاديين. البائع الذي كان شيعيا كان في قمة الذكاء، لدرجة أنه عرفني وفهمني دون أن أفصح له عن شيء. ولأنه تاجر، فقد باعني الأشياء بأضعاف ثمنها، فقد التمس حاجتي الشديدة إليها. وما إن اقتربت من باب الضريح، حتى تلاصقت بأحد الأفواج، حتى وجدت نفسي أندفع وسط هذا الزحام كورقة شجر في محيط من الأمواج، فرأيت لأول مرة في حياتي الصراخ والعويل والنحيب وضرب الرؤوس والصدور بالأكفف والقبضات. الجميع ينعي الحسين. وبلغة فارسية غير مفهومة، بدأت وصلات من النحيب، ذلك كله فوق قبر صغير من الفضة وبداخله مقام رخامي موضوع فوقه عمامة، يقال إنها للحسين رضي الله عنه. إن أتباع المذهب الشيعي، وبالأخص في العراق وإيران، يمارسون هذا التعنيف البدني والنفسي، شعورا منهم بالذنب في حق الحسين حينما غدر أهل الكوفة به وسلّموه ليزيد بن معاوية، حتى أن الكثيرين يستهجنون ما يقوم به شيعة العراق من ضرب أجسادهم بالسيوف والسكاكين حتى يضرجون في الدماء، فهم يفعلون ذلك عن جهالة وتحت دافع عقدة الذنب. يقول بن تيمية: "لما استشهد الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء، قتلته الطائفة الظالمة الباغية وأكرم الله الحسين بالشهادة، كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته، أكرم بها حمزة وجعفر وأباه عليا وغيرهم، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة. وعندما قتل عبد الرحمان بن ملجم أمير المؤمنين عليا، بايع الصحابة ابنه الحسن، فظهرت فضيلته التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، حيث قال: "إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، فنزل الحسن عن الولاية وأصلح الله به بين الطائفتين، وكان هذا مما مدحه به النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه. ودل ذلك على أن الإصلاح بينهما مما يحبه الله ورسوله، ثم إنه مات وصار إلى كرامة الله ورضوانه، فقامت طوائف العراق بمبايعة الحسين، فأخلفوا وعده ونقضوا عهده. وكان أهل الرأي والمحبة للحسين كابن عباس وابن عمر وغيرهما، أشاروا عليه بأن لا يذهب إليهم، لكنه خرج، فكان أمر الله قدرا مقدورا. فلما خرج الحسين رضي الله عنه، خذلوه حتى استشهد ومن معه على يد الطائفة الباغية "جيش يزيد بن معاوية". ولما أفاقوا على وقع جريمتهم الشنعاء وبدلا من التوبة إلى الله، أخذوا يتمادون في آثامهم حتى يومنا هذا، يمثلون بأنفسهم ويضربون رؤوسهم وأجسادهم بالسيوف والسكاكين، ظنا منهم بأن هذه الأفعال تكفّر عن جريمتهم في حق الحسين، ويمارسون من الأفعال التي يتبرأ منها الإسلام والحسين نفسه. بعد استشهاده، حمل رأس الحسين رضي الله عنه من كربلاء إلى دمشق على رأس حربة "شمر بن ذي الجوشن الكِلابي"، وهو أحد قتلته، فصلب هناك على شجرة. ويذكر الطبري وابن الأثير وابن الجوزي، وغيرهم كثير، أن يزيد بن معاوية أخذ قضيبا وجعل ينكث ثغر الإمام الحسين وثناياه الشريفة "أي أخذ يمثل بالرأس"، ثم أُخرِج الرأس من مجلس يزيد ليصلب على باب القصر ثلاثة أيام، فلما رأت هند بنت عمرو بن سهيل زوجة يزيد الرأس على باب دارها، دخلت مهتوكة الحجاب وهي تقول: "رأس ابن بنت رسول الله على باب دارنا". مظاهر الحزن والنياحة ولطم الخدود وشق الجيوب في ذكرى استشهاد الحسين، بدعة الإسلام منها براء، لكن للأسف هناك من أنجرّ خلف الشيطان فأغواه. قال ابن تيمية: "وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يحدث للناس بدعتين: بدعة الحزن والنواح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي، وما يفضي إليه ذلك من سب السلف ولعنتهم وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب، حتى يسب السابقون الأولون، وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب، وكان قصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة، فإن هذا ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرمه الله ورسوله". وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"، وقال: "أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة"، وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب". إن مصيبة الحسين وغيره إذا ذكرت بعد طول العهد، فينبغي للمؤمن أن يسترجع فيها كما أمر الله ورسوله، ليعطى من الأجر مثل أجر المصاب يوم أصيب بها. يعود ابن تيمية ليؤكد أن رأس الحسين دفن بالبقيع بالمدينة، عند قبر أمه فاطمة الزهراء رضي الله عنهما، أما جسده الطاهر فمدفون بكربلاء، في حين أخرج البخاري في صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه: "أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين بن علي فجُعل في طست، فجعل ينكت، وقال في حسنه شيئا، فقال أنس: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوبا بالوسمة". قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "... وكان أهل الكوفة لما مات معاوية واستخلف يزيد، كاتبوا الحسين بأنهم في طاعته، فخرج الحسين إليهم، فسبقه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة فخذَّل غالب الناس عنه، فتأخروا رغبة ورهبة، وقتِل ابن عمه مسلم بن عقيل، وكان الحسين قد قدمه قبله ليبايع له على الناس، ثم جهز إليه عسكرا فقاتلوه إلى أن قتل هو وجماعة من أهل بيته". وقال المناوي في فيض القدير: "لما مات معاوية أتته أي الحسين كتب أهل العراق إلى المدينة أنهم بايعوه بعد موته أي معاوية فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل، فبايعوه، وأرسل إليهم فتوجه إليهم فخذلوه وقتلوه بها يوم الجمعة عاشر محرم سنة إحدى وستين. إلى أن قال: وتفصيل قصة قتله تمزق الأكباد وتذيب الأجساد". فيا أسفاً على المصائب مرة كما قال العلامة ابن العربي المالكي ويا أسفاً على مصيبة الحسين ألف مرة، وإن بوله يجري على صدر النبي صلى الله عليه وسلم، ودمه يُراق على البوغاء ولا يحقن، يا لله ويا للمسلمين. وقع خلاف بين المؤرخين في موضع دفن رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما في كربلاء، أم دمشق، أم القاهرة.. أم غيرها؟ ولعل السبب في حيرتهم أن الأُمويين أمروا بأن يطاف برؤوس شهداء كربلاء في البلدان، وفي كل موضع وضع فيه الرأس اتخذ الناس مكانه مقاما يرمز إلى التضحية والجهاد وإلى الجرائم التي وقعت في حق آل البيت. فهناك من يقول إن الرأس دفن مع الجسد بكربلاء، وهذا ما قاله ابن حجر العسقلاني في كتابه (الإصابة في تمييز الصحابة) وعلق بقوله: ولهذا السبب يعبر البعض عن يوم الأربعين ب "يوم مرد الرأس" في العراق، وفي رواية "أن غلاما من خاصة يزيد اشترى رأس الحسين بمئة ألف دينار، ورده إلى كربلاء". أما ابن طاووس، فيؤكد عودة الرأس إلى البدن بكربلاء، حيث يقول: فأما رأس الحسين فروي أنه أُعيد فدفن بكربلاء مع جسده الشريف. والقول الثاني: أنّ مدفن الرأس في النجف الأشرف، على ضوء خبرٍ يفيد أن واحدا من أهل البيت سرق الرأس ودفنه في النجف بموضع يدعى اليوم "مسجد الحنانة"، حتى اشتهر لدى العوام أنه موضع رأس سيد الشهداء. القول الثالث: أن مدفن رأس الحسين في القاهرة بمصر، وأصحاب هذا الرأي يقولون: بعد مسيره الرأس إلى الشام، أمر يزيد أن يطاف به في البلاد، فطيف به حتى انتهى إلى "عسقلان"، فدفنه أميرها بها. فلما احتل الإفرنج عسقلان، افتداه منهم الصالح طلائع بن رزيك وزير الفاطميّين بمصر بمالٍ فدفنه وبنى عليه المشهد الحسيني المعروف بالقاهرة والقريب من خان الخليلي. إذن، ما حكاية القبر الموجود في دمشق؟ يقول بعض العلماء إن المكان الذي استقر به الرأس بعد رحلة الطواف، هو ذلك الموجود في ضاحية الجامع الأموي بدمشق، لكنهم يضيفون أن الفاطميين نبشوا هذا القبر وأخرجوا محتواه، ليدفنوه في المشهد الحسيني الموجود في القاهرة الآن. وأمام هذا الخلط واختلاف الآراء، يبقى قبر الحسين مجهولا، بينما تنعم الروح برضى ونعيم الله في جنات الخلد.