في واحد من أهم المواقع الجغرافية على نهر الدانوب يقف المركز الإسلامي في فيينا مطلاً بشموخ على القسم الشمالي من المدينة. الصلاة في مسجد المركز تبعث على الراحة والسكينة، كيف لا ونوافذ المركز الواسعة تأخذك إلى نهر متدفق بانسياب، وحدائق غناء، ومدينة رشيقة، وصمت مهيب لا يقطعه سوى تغريد الطيور. لماذا تجول بخاطري الآن ذكريات الصلاة في ذلك المسجد الفقير في مدينة أغرا بالهند، حين كان المصلون يجاهدون في كل فريضة ونافلة أن يطردوا الهائمات والبعوض من على وجوههم في حي إسلامي معتق بعطر القرون الماضية. انتزع نفسي من ذكريات الهند فأعود إلى مسجد فيينا، فالتقي في أحد جنباته بشيخ من علماء الأزهر من الذين أمضوا في العمل الدعوي نحو ربع قرن متنقلا بين ألمانيا والنمسا. بابتسامة نقية بادرني الشيخ بالقول: "هل تعلم أن أوربا ستتحول إلى قارة مسلمة في غضون عشرين عاما؟ بعد يومين وفيما يشبه المصادفة، نشرت وسائل إعلام غربية تقريرا عن الإسلام مفاده أن حركات اليمين الأوروبي والمؤمنين من المسيحيين يخشون أن تتحول أوربا إلى قارة مسلمة في أقل من عقدين حين ستقترب نسبة المسلمين من نصف سكان القارة بحلول عام 2025. السر في تلك الزيادة يأتي من تقارير صحفية تقول إن المسلمين يتمتعون بقوة ديموغرافية تتميز بمعدلات إنجاب عالية فضلا عن نسب شبه ثابتة من التدفق على القارة الأوروبية بوسائل عدة (مشروعة وغير مشروعة). تستند تلك التقارير إلى إحصائيات علمية تقول إن معدل النمو السكاني لدى المسلمين يراوح بين 2.5% و3% سنويا في مقابل معدل لا يتجاوز 1.5% لدى الأوروبيين نتيجة تناقص معدلات الإنجاب المرتبط بالحياة العلمانية العصرية القائمة على تأجيل الإنجاب حتى الشبع تماما من الحياة الجنسية في سن الشباب، وحين يبدأ الإنجاب يتم الاكتفاء بطفل أو طفلين. يحمل إليك التجوال بين المدن الأوروبية الكبرى مثل فيينا وبرلين وفرانكفورت شعورا متفائلا بحجم تفاؤل الشيخ الأزهري. فالمحجبات في كل مكان، يمشين على مهل، يشترين الخضر والفاكهة، أو يتنزهن مع أطفالهن وأزواجهن، المساجد والمراكز الإسلامية في نمو وازدياد، واللغتان العربية والتركية حاضرتان في المراكز التجارية، لا شيء ينتقص من آمال المسلمين المتفائلين أو يلطف من مخاوف القوميين والمسيحيين. لكن فيما وراء هذه المشاهد المفردة، وفيما وراء التقارير الصحفية يتساءل المرء ماذا تقول الحالة الحقيقية للمسلمين في أوروبا؟ حين تراجع التقارير الصحفية الأوروبية يدهشك كيف يقبل هؤلاء الصحفيون تمرير تلك المعلومة التي تقول إن أوروبا ستتحول خلال عقدين إلى قارة مسلمة، حين يصل المسلمون فيها إلى نسبة 40%، هذا على الرغم من أنهم اليوم لا يمثلون سوى 0.04% من إجمالي سكان القارة. فعدد المسلمين في أوروبا يبلغ نحو عشرين مليونا وعدد سكان الاتحاد الأوروبي يتجاوز خمسمائة مليون. تأتي الخدعة من مقارنة نسبة الأجانب والمسلمين إلى سكان بعض المدن الكبرى. فمدينة مثل فرانكفورت يصل عدد السكان الوافدين فيها إلى 30%، ولأن المسلمين مميزون في ملبسهم (خاصة الحجاب) ينتقل للمراقب/الصحفي شعور مفاده أن المدينة تتجه نحو "الأسلمة"، هذا في الوقت الذي لا يزيد فيه عدد المسلمين في ألمانيا عند أعلى التقديرات عن خمسة ملايين مسلم يشكلون في أقصى تقدير نحو 7% من إجمالي عدد السكان. توجهت في الشهر الماضي لزيارة مدينة برلين وكنت حريصا على زيارة الحي "الإسلامي" في تلك المدينة، أقصد منطقة "نيوكولن" التي يتركز فيها المهاجرون العرب والأتراك وتكاد تكون منطقة مغلقة عليهم. نيوكولن هي المنطقة الثانية التي دوما ما يحذر الألمان بعضهم من التوجه إليها إلى جانب برلينالشرقية التي تحولت (رغم توحيد المدينة) إلى منطقة متأخرة تسكنها فئة من أصحاب الدخول المنخفضة ويعيشون حياة متدنية مقارنة ببرلينالجنوبية والغربية. مهما قرأت من تقارير عن حال المهاجرين العرب في ألمانيا لن تشعر بصدق الكلمات وقسوة الحال كما ستنقله إليك كلمات المهاجرين في ذلك الحي. ربما تسوقك الأقدار للتعرف على أسر هاجرت من لبنان من منطقة نهر البارد بعد الاشتباكات الدموية التي دارت عام 2007 يعيشون على منحة من الحكومة الألمانية تكفيهم للبقاء فقط عند خط الفقر، آخرون جاؤوا من المغرب العربي بحثا عن فرصة عمل، شاب مصري تزوج ألمانية لكنها طردته من عش الزوجية بعد أن فشل في الحصول على عمل. صحيح أن هناك أسرا مستقرة ونماذج ناجحة ومشاركة في المجتمع الألماني لكنها لا تشكل الصورة العامة ولا يمكنها التغطية على المشكلات التي يعانيها هؤلاء اللاجئون. تتعجب حقا كيف يمكن تحويل ألمانيا أو أوروبا إلى قارة مسلمة بحلول عقدين. حسبك فقط أن تأمل في أن ينصلح حال هؤلاء المسلمين عند الحد الأدنى من متطلبات الحياة. حين تنهي زيارتك في نيوكولن سيسهل عليك التفريق بين المسلمين العرب والمسلمين الأتراك، العرب أنفسهم يحسدون الأتراك على تغلغلهم في قطاعات عمل أكثر تأثيرا مثل البناء والتشييد والصناعة إلى جانب التجارة. يتكاتف الأتراك معا بدرجة أكثر تنظيما من العرب، ويبدون استعدادا أكبر للاندماج في المجتمع الأوروبي وأغلبهم يعيش من دخل عمله وليس من إعانات البطالة واللجوء. في عددها الصادر في 20 يوليو/تموز 2009 وضعت مجلة النيوزويك غلافا يحمل عنوان أسطورة يوريبيا Eurabia، وكان العنوان الفرعي هو "المخاوف الزائفة لاستيلاء المسلمين على أوروبا". مصطلح Eurabia نوع من اللعب بالكلمات، فبدلا من كتابة الاسم الكامل لأوروبا Europe تم حذف النصف الثاني من الكلمة لصالح كلمة "شبه الجزيرة العربية" Arabia في إشارة إلى غزو الأيديولوجيا السلفية للقارة الأوروبية. ظهر المصطلح لأول مرة عام 2005 وصكته جيزل ليتمان الباحثة اليهودية البريطانية (من يهود مصر قبل الثورة) التي كرست وقتا طويلا من حياتها البحثية في التخويف من الإسلام في أوروبا والأخطار التي ستصيب الحضارة الأوروبية من تنامي "الفاشية الإسلامية"، وقد نشرت في سبيل ذلك عدة مؤلفات تتناول حياة المسيحيين واليهود في العالم الإسلامي (وخاصة كتاب عن أهل الذمة) وحياة المسلمين في العالم المسيحي (وخاصة كتابها الذي يحمل عنوان يوريبيا). التقرير الذي قدمته النيوزويك من إعداد وليام أندرهل يسبح ضد التيار ويفند المخاوف المفتعلة التي تستحضر من تاريخ الغزو الإسلامي لأوروبا في كل من معركة بواتيه (بلاط الشهداء) عام 732 م حين كانت الجيوش الإسلامية على أعتاب باريس، وحصار فيينا عام 1683 حين كان الأتراك يهيمنون على مصير جنوب شرق ووسط أوروبا. يكذب التقرير الادعاء بأن ما يحدث الآن من "غزو صامت" للمهاجرين المسلمين سيحيل القارة إلى سيطرة الإسلاميين خلال نصف القرن المقبل. نجحت تلك المخاوف في تغذية الحركات والأحزاب اليمينية المتطرفة التي تستهدف المسلمين. وأفادت استطلاعات الرأي بأن أكثر من 50% من سكان إسبانياوألمانيا يحتفظون بمشاعر سلبية ضد المسلمين، ونجح الحزب اليميني الهولندي في اقتناص 17% من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بفضل تسلحه بشعارات معادية للأجانب، كما ضاعف الحزب النمساوي القومي مقاعده البرلمانية بعد الشعارات المعادية للإسلام التي روجها بين الناخبين. النتيجة التي وصلت إليها الحكومات الأوروبية بعد هذه التغيرات في الخريطة الانتخابية هو التشديد على وقف الهجرة من العالم الإسلامي وعرقلة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. يعود وليام أندرهل في تقريره إلى الدراسات التي يعدها مجلس الاستخبارات القومي بالولاياتالمتحدة، ينشغل هذا المجلس بحالة المسلمين في أوروبا اعتقادًا بأن تطورات هذه الحالة ستنعكس حتما على الولاياتالمتحدة، على غرار ما تم ترويجه من أن أحداث سبتمبر تم التخطيط لها في ألمانيا. يشير التقرير الاستخباراتي إلى أن أقصى زيادة يمكن أن يحققها المسلمون في أوروبا خلال العقدين المقبلين لن تتجاوز ضعف وزنهم الحالي، حيث سيبلغ عددهم 38 مليون نسمة عام 2025 وحينها لن تتجاوز نسبتهم 8% من سكان القارة الأوروبية. صحيح أن الرقم يبدو مع ذلك كبيرًا، فنحو أربعين مليون نسمة يمكن أن يشكلوا وزنًا ديموغرافيًا وسياسيًا بالغ التأثير، لكن المفتاح الأساسي في تحريك هذه الكتلة هو درجة التنظيم السياسي، والائتلاف في اتحادات فاعلة، والاتفاق على موقف إسلامي موحد. وهذه كلها اعتبارات بعيدة عما يعيشه المسلمون اليوم في أوروبا منقسمين إلى انتماءات طائفية وعرقية. فضلا عن أن الرموز الإسلامية في قطاعات الاقتصاد والسياسة والفن والصناعة تكاد تكون معدومة. نعود إلى المركز الإسلامي في فيينا فنلتقي إمرأة أميركية تأتي كي تعتنق الإسلام بصحبة زوجها التركي، قبل أن تنطق بالشهادتين توجهت الزوجة الشابة بعدد كبير من الأسئلة إلى المسؤولين في المركز عن الحياة الدنيا والآخرة، ولباس المرأة المسلمة، وكيف يكون المرء مسلما أوروبيا ملتزما؟ حين سألها بعض القائمين على المركز لماذا لم تتوجه بداية بهذه الأسئلة إلى زوجها المسلم، فأجابت إنه اعترف لها أنه لا يعرف عن الإسلام شيئا؟ حين تتكرر المواقف السابقة يعثر بعض المراقبين على ما يسمونه "أوربة الإسلام" أو صبغه بصبغة العلمانية الأوروبية في إشارة إلى تراجع ارتباط المسلمين في أوروبا بدينهم خاصة من أبناء الجيل الثالث نتيجة الانخراط في الحياة الأوروبية و"امتصاص" العلمانية الأوروبية لهويتهم. الإعلام إذن يركز على طرفي النقيض: المتحررين من المسلمين الذين "ذابوا" في العلمانية الأوروبية، والمتشددين الذين يحلمون بتحويل أوروبا إلى خلافة إسلامية جديدة حيث تمثل برلين وباريس "دار هجرة" مثلها مثل "يثرب" قبل أن تصبح نقطة انطلاق دولة الإسلام العظمى. الطريق الثالث بين طرفي النقيض يسميها بعض الباحثين من أمثال بسام طيبي "الإسلام الأوروبي" ذلك الإسلام الذي يزاوج بين الحفاظ على "أسس" الدين لكنه "يتمثل" منجزات العلمانية الأوروبية ويتخلص من تلك المفاهيم "الصحراوية" المرتبطة بإقامة الحدود وشحن الناس نحو الجهاد. يحاجج بسام طيبي بأن مصطلح "الإسلام الأوروبي" قد نشأ على يديه في العقدين الأخيرين، غير أن المتابعة التاريخية لهذا المصطلح تؤكد ظهوره قبل أكثر من قرن من الزمن حين حاول المسلمون التتر في القيصرية الروسية صياغة حالة من التعايش بين الإسلام والمسيحية الروسية تحت عنوان "الإسلام الروسي" التي تطورت على يد إسماعيل كسبرالي إلى "الإسلام الأوروبي". المصطلح منذ البداية يفترض أننا إزاء "نسخ" مختلفة من الإسلام: مصري ولبناني وهندي وماليزي ومغربي وأميركي... إلخ. ويستمد المصطلح حجته من القول بأن التاريخ الثقافي لكل إقليم يؤثر على طريقة تعاطي الشعوب مع مبادئ الإسلام وطرق ممارسته والاستجابة لأطيافه الفكرية ضمن ما يعرف باسم "رواسب المعتقدات السالفة". في الختام لا يمكن القول إن حالة المسلمين في أوروبا اليوم يمكن اختزالها في صورة واحدة: إيجابية أو سلبية، ولا يمكن القطع بأنهم أقلية مهمشة أو قوة ضاربة، إذ إن كافة هذه التوصيفات متداخلة، بعض منها يخالف الحقيقة وبعض منها على صواب. الذي سيفيد المسلمين حقا هو أن يتحولوا من كونهم "ظاهرة تستحق الدراسة" إلى "لاعب أساسي" في الحياة الأوروبية، على المستوى العلمي والثقافي والمواطنة، ولهذا حديث آخر.