لا تتوفر كوريا على أي مصدر ريعي للثراء ماعدا شركات الصناعات الإلكترونية والمقاولات الكبرى وشركات الأشغال العمومية وبناء السفن وصناعة السيارات والصيد البحري، حيث تمثل الشركات التي تنتج أشباه الموصلات قوة الدفع الرئيسية للاقتصاد الكوري الذي تمكن في أقل من ربع قرن أن يرتقي إلى مصاف أهم 11 إقتصادات في العالم، بعد أن كانت منتصف ستينات القرن الماضي من أفقر الدول على الإطلاق. كما أن كوريا الجنوبية لا تمتلك سوى رقعة صغيرة من الأرض مساحتها 98.480 كم2. مقابل عدد سكان بلغ نهاية السنة الفارطة، 49.044.790 نسمة، يعتنق 26% منهم الديانة المسيحية على مذهب "البروتستانت والرومان الكاثوليك" ، والبوذية 23.3%، وعدد من الديانات والمعتقدات الأخرى، وبلغ عدد المسلمين في كوريا الجنوبية 140 ألف مسلم. كما أن 67 % منها جبال وعرة، ولكنها عوضًا عن ذلك تمتلك إرادة بلا حدود، جعلتها تصنع مصيرها بيدها، واستطاعت أن تحقق معجزتين في زمن قياسي: المعجزة الاقتصادية، ثم الديمقراطية.لم يثني البرد الشديد والثلوج التي تتساقط على العاصمة سيول في هذا الفصل الشديد البرودة، الكوريين على الاستمرار في حياتهم بالشكل الذي اعتادوا عليه، فالكوريون على خلافنا نحن العرب سكان المناطق الحارة الكسالى، شعب مضياف حيوي ممتلئ حيوية ونشاط، فلا البرد يثنيه عن الجري ولا الحرارة تعيقه أيضا، فأربعين سنة من الجهد سمحت بالقضاء على الفقر وتحقيق محيط معيشي راق جدا، صنعته أياد شعب لا يجلس للمقاهي أكثر من لحظات، يقدس الوقت والعمل وينبذ الكسل. عندما جاءتني الدعوة من مجموعة "أل،جي،إلكترونيك" لزيارة كوريا الجنوبية الواقعة في أقصى الشرق الآسيوي بالقرب من التنين الصيني، تسارعت إلى ذهني صورة واحدة وهي أن هذه البلاد لا تمتلك مؤهلات غير صناعة الإلكترونيات والسيارات وبناء السفن، خاصة أن الفكرة السائدة، لمن لم يذهب لزيارتها، تشير إلى أن اهتماماتها لا تتعدى صناعة الإلكترونيات ، كما أن تقدمها وتطورها محصور في هذا المجال، ولكن ولأن الإنسان عدو ما جهل، فإن زيارة العاصمة الكورية الجنوبية سيول إلى جانب المدن الكورية الأخرى، يشكل مفاجأة لزائرها سواء أكان للسياحة أو لأغراض أخرى ، ويتأكد بعيني رأسه بأن هذا البلد القابع على أطراف القارة الآسيوية، يستحق عناء الزيارة، ليس بهدف التجارة أو العمل فحسب، بل ليتعلم أهم درس في الحياة وهو تقديس الوقت واحترام الأخر. عندما حطت بنا الطائرة التابعة للخطوط الجوية الكورية القادمة من باريس الفرنسية على الرحلة رقم " KE 902"، بعد 12 ساعة طيران بمطار إنشون الدولي، كان في دهني شيء واحد، وهو البحث عن جواب لسر هذا التقدم التكنولوجي الذي عم كل المدن الكورية التي تتباهى بمصانع التقنية الحديثة وناطحات السحاب التي تعد من الأعلى في العالم إلى جانب الشوارع الواسعة جدا التي يصر الكوريون على التأكيد أنها علامة على أن مدنهم صممت بامتياز لتكون مدن المستقبل.تقع جزيرة إنتشون في قلب شمال شرق آسيا ، وهي المنطقة التي تتطور بسرعة لتكون واحدة من بين أكبر ثلاث مناطق تجارية في العالم إلى جانب أوروبا وأمريكا الشمالية، ولهذا ، فإنه يقيم على بعد نحو ثلاث ساعات ونصف الساعة بالطائرة من إنتشون مليارا نسمة أو ما يعادل 32% من إجمالي سكان العالم ، ومع افتتاح مطار إنتشون الدولي، تحولت المدينة إلى مركز عالمي حقيقي .وتعتبر إنتشون جزيرة في منطقة ساحلية قريبة من سيول ، وتبلغ مساحة المدينة 986,45 كيلومتر مربع ، وعدد سكانها 2,6 مليون نسمة ، وتعمل فيها أكثر من 7535 شركة ، وهي أول منطقة كورية تنفتح على العالم الخارجي ، ومنذ نهاية عهد أسرة جوسون ، لعبت هذه المنطقة دورا رائدا في تحديث البلاد سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا واقتصاديا، وهي حاليا مركزا للتجارة الدولية والتصنيع ، وهي في الوقت نفسه ، مدينة تقوم بتحويل نفسها لتكون في المستقبل مدينة صديقة للبيئة. عندما نزلنا في مطار إنتشون الدولي تغير مفهوم التطور لدينا، فهو مطار ضخم ، ذكي ومتطور وجميل بكل المقاييس، بالشكل الذي يكشف عن عبقرية خارقة للعادة للرجل الكوري، وبمجرد أن أنهينا إجراءات الجمارك التي لم تدم سوى دقائق نزلنا إلى صالة استلام الأمتعة التي لم ننتظرها لأزيد من دقائق فقط، ثم خرجنا لنجد في انتظارنا عند البوابة شاب ظريف جدا عرفنا بعدما قدم لنا نفسه أن اسمه: هويا يونغ، يحمل في يده لوحة كتب عليها "وفد أل جي الجزائر 2008" وبالقرب منه حافلة كتب عليها نفس الشعار حملتنا إلى العاصمة سيول التي وصلناها بعد 45 دقيقة من السير على طريق سريع مزدوج واسع جدا، لم نجد فيه الزحمة كما تمنينا أن نجد فيه حفرة واحدة ، وعلى حافتي الطريق السريع بدأنا نكتشف ناطحات السحاب التي تعد من بين الأجمل في العالم وعددها 63 في العاصمة سيول وحدها، والتي تعتبر أجملها ناطحة السحاب الذهبية وهذا هو اسمها المستمد من لونها الذهبي بطوابقها ال63 وتأوي مكاتب أكبر المجموعات المالية في كوريا وجنوب شرق أسيا إلى جانب مكاتب لكبريات الشركات الكورية، وتقع البناية على حافة نهر "هان كانغ" البالغ طوله (514 كم) وهو نهر يلعب دورًا مهمًا كشريان لعاصمة كوريا الحديثة التي تتميز بالكثافة السكانية العالية حيث بلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة، وهو نهر يقسم المدينة إلى قسمين تقعان على ضفتيه المدينة المترامية الأطراف، ويصل بين الضفتين 24 جسرا معلقا، لكل جسر 12 رواق مما يعني على زحمة السير في العاصمة السلام، على الرغم من أن عدد السيارات المسجلة في كوريا بلغ 16 مليون سيارة إلى نهاية فيفري الماضي، إلا أن كوريا لا تعاني شيء اسمه زحمة السير بالشكل الذي نعانيه في الجزائر ، والفضل في ذلك يعود إلى نوعية وكفاءة نظام حركة المرور الكوري ونوعية الطرقات الجيدة جدا، حيث يستحيل أن تجد حفرة واحدة على شبكة الطرق الكورية كلها، وهذا من باب الاحترام لدافع الضرائب الكوري الذي يدفع مقابل استخدام الطريق، كما يستحيل أن تجد بمسارين أو ثلاث مسارات فقط، حيث يتوفر أضيق طريق مزدوج على 4 أروقة من كل جهة، أما داخل المدن الرئيسية مثل سيول أو ديجو، فتصل الطرق إلى 6 أروقة في كل اتجاه، بمعنى 12 رواقا داخل المدينة وهو السر في شساعة المدن التي صممت لتكون فعلا مدنا مستقبلية. وتوجد على نهر هان 9 جسور أخرى قيد الإنشاء، حسب ما أكده مرافقنا هويا يونغ وهو شاب مليء بالحيوية والنشاط، يتحدث إنجليزية ممتازة بلكنة كورية جميلة جدا. من المهم أيضا، أن نؤكد أن نهر هان كانغ لا تنبعث منه الروائح الكريهة مثل نهر الحراش، بل إن الحكومة أنشأت على ضفافه ملاعب للغولف ومتنزهات وحدائق للعائلات وأروقة لرياضة الدرجات ومرافق لرياضة الصيد. على الرغم من أن العاصمة سيول هي المركز السياسي والاقتصادي الرئيسي لكوريا، إلا أن الكوريون وهم بالمناسبة شعب مضياف جدا وخدوم وبدون كلل أو ملل، اشد حرصا على أن يزور أي أجنبي يزور البلاد أكبر عدد ممكن من متاحفهم وأبراج العاصمة ومراكز تسوقهم ومعالمهم السياحية، كما يحب الكوريون أيضا أن يزور أي أجنبي الأبراج الكثيرة الموجودة في مدنهم لأنها الفرصة الأمثل للإطلاع على مدنهم الرائعة المتقنة البناء والواسعة والنظيفة جدا، ويحرص مضيفوك الكوريون على تناول العشاء في قمة تلك الأبراج لأنها الفرصة الأمثل للاستمتاع بجمال مدنهم، ففي مدينة ديغو استقبلنا رئيس البلدية للعشاء في أعلى قمة برج ديغو الذي يتوسط حديقة التسلية، وهو برج دوار يسحر الناظرين يفوق ارتفاعه 157 م. لكن الحديث عن الأكل في كوريا الجنوبية ، هو حديث دو شجون، لأن الطعام الكوري يسبب مشكلة للأجنبي، خاصة عندما يكون هذا الأجنبي مسلما ملتزما، فهو سيجد صعوبة في إيجاد شيء يناسبه من طعام، وهذه ليست مبالغة ولكنها حقيقة، فلا يوجد إلا الطعام الكوري فقط، وحتى الطعام الآخر مثل الصيني أو الأميركي وغيره من التخصصات العالمية، إن وجدت على قلتها فإنها تطبخ على الطريقة الكورية، بما في ذلك المطبخ التركي في العاصمة سيول الذي زرناه للعشاء بعد زيارتنا إلى مسجد سيول المركزي وأدائنا لصلاتي المغرب والعشاء جمعا وقصرا في المسجد المتواجد في منطقة إيتايوون الواقعة في يونغ سان غر ب سيول التي تعتبر منطقة ذات نكهة أمريكية لأن القاعدة العسكرية الأمريكية تقع في طرفها الشرقي. لكنها أصبحت الآن منطقة متوازنة بفضل تدفق العمال المهاجرين والتجار من آسيا وأفريقيا. وتأتي إلى مسجد سيول المركزي الجالية المسلمة. لتأدية الصلاة في المسجد وهي جالية مسلمة من باكستان وبنغلادش واندونيسيا وتركيا ونيجيريا وغيرها من البلدان الأخرى على جانب المسلمون الكوريون كل يوم الجمعة يأتون لتأدية الصلاة ، ويوجد في كوريا 140 ألف مسلم و12 مسجدا وهم مسجد العاصمة سيول ومسجد بوسان ومسجد كوانغ جو، مسجد جيون جي، مسجد أني أنغ، مسجد جوجي، مسجد بيبي يونغ، مسجد باجو، مسجد أنصان، مسجد داي جي، مسجد كوانغ جو، مسجد داي جيون ومسجد بوشين. لقد كانت تجربة تناول وجبة كورية بالنسبة لي على الأقل تجربة بائسة، على الرغم من أنها معلما من معالم زيارة كوريا الجنوبية، وهو ما دفعنا إلى التريث وتغيير الطلبات إلى طلبات تشمل وجبة اسماك، لأن الشعب الكوري من أكثر شعوب العالم التهاما للأسماك، ففي سيول وكل المدن التي زرناها في كوريا يأكل الناس الأسماك بمختلف أنواعها بالقدر الذي يأكل الجزائريون الخبز، وربما أكثر، فلا تستغرب عندما تجد الجمبري في كل الأطباق التي لا تخلو من سيدها وهو الكمتشي الذي يعد بمثابة الأكلة الرئيسية على المائدة الكورية في أيام الفقر والمصاعب كان هو الطعام الأساسي وربما الأوحد، أما الآن فهو طبق مشهيات حار ولاذع، مكون من أوراق الملفوف أو الكرنب المتبل بالفلفل الأحمر وقطع الفجل والثوم والملح. يقول مرافقنا هويا يونغ ، زمان كان أهل كوريا يحضرون (الكمشي) في الشتاء ويحفظونه في أوانٍ كبيرة من الفخار، ثم يدفنونها في الأرض وتبقى فوهاتها ظاهرة، ويتم استهلاك الطعام منها طوال العام، وفي هذه الأيام لا يسأل أحد عن صحة الآخر، أو عن أحوال محصوله، يكتفي فقط بسؤاله: (كيف حال الكمشي هذا العام ؟). ورغم ثقافتهم الخاصة جدا في الأكل، فهم يجهدون أنفسهم لإرضائك مهما كان الثمن، رغم أنهم لا يتحدثون اللغة الإنجليزية ، وحتى أولئك الذين يتحدثون بها فإنه لا يمكن فهم كل الكلمات التي ينطقونها بسبب صعوبة نطق كافة حروف اللغة الانجليزية مقارنة بحروفهم التي تزيد على 300 حرف، ومع ذلك فهم شعب يستحق أن يطلق عليه اسم "مدرسة الأخلاق والاحترام"، ولو لم يجد زائر كوريا الجنوبية من زيارته إلا الاستمتاع بالطريقة التي يحترم بها الكوريون زوارهم والطريقة التي يخدمونهم بها فيكون قد حقق من خلال ذلك كل حلمه ، فالكوري يبذل أقصى إمكانياته من أجل أن يشعرك أنه يكن لك كل الاحترام، وطريقتهم هذه لا تقتصر على الابتسامة التي لا تنقطع، ولا على الانحناء الذي يستقبلونك ويودعونك به في المصنع والمطعم والحافلة وسيارة الأجرة والمقهى، ولكن الكوريين يحرصون كل الحرص على مساعدة الغرباء بأقصى ما يمكن لهم أن يفعلوه، وليس من سبيل المبالغة أن طريقة الترحيب التي يستخدمها الكوريون ربما تكون فريدة من نوعها في العالم. بعد عودتنا من العشاء في مطعم ماكينو شايا الفخم في قلب العاصمة سيول والخاص بالأسماك، سارعنا إلى الراحة لأن في الغد برنامج عمل مكثف يقودنا إلى مقاطعة بيونغ تاك مقر مصنع "أل،جي" للثلاجات ، وهي مدينة تبعد عن العاصمة بحوالي 400 كم توجهنا إليها بالطائرة من مطار الخطوط الداخلية في العاصمة سيول وهو بالمناسبة لا يقل روعة وجمالا عن مطار إنتشون الدولي. عندما وصلنا إلى المطار اقتطعنا تذاكر إلكترونية، من الشباك، ويمكن أن تقتطع تذكرة بنفسك من الموزع الإلكتروني بمجرد تمرير بطاقة الائتمان وتحديد الوجهة التي تقصدها. من الطائرة يمكن أن ترى مدنا وكأنها رسمت بريشة فنان عالمي موهوب، لا مكان في المدن الكورية التي شاهدناها جميعها لبنايات فوضوية، كما لم نجد في كل المدن التي زرناها بناية غير منتهية الأشغال كما نراه في مدننا، حيث يعد ذلك من سابع المستحيلات مثله في ذلك استحالة أن تجد حفرة في الطريق أو ورقة أو عقب سجارة ملقاة في الشارع. لقد راهنت زميلي فريد من يومية المجاهد أن أعطيه ورقة 100 دولار إن وجد حفرة في الطريق ولسوء حظه والحمد لله كسبت الرهان. "أل،جي، إليكترونيك" معجزة كورية بكل المقاييس لا تكاد توجد شركة لصناعة المنتجات الإلكترونية من اليابان إلى الشيلي مرورا بألمانيا إلا وتستخدم أشباه الموصلات الكورية التي تمكنت من أن تصبح من أهم مصادر الدخل لكوريا الجنوبية التي أحتفلت السنة الماضية بعشر تقنيات مستجدة في عالم الصناعة والتكنولوجيا والتي تمثلت في تطوير ناقلة الغاز الطبيعي المسال وجهازا ضوئيا دقيقا من شركة الاتصالات الكورية الجنوبية ونظام تكييف هواء لمحولات التيار الطردي من شركة أل جي إليكترونك، ومن هذه المستجدات، ست تقنيات دخلت مضمار التكنولوجيا في العالم لأول مرة على الإطلاق، وأربع تقنيات من فئة التكنولوجيا الأكثر تقدما، وجميعها ساهم إيجابيا في الاقتصاد الكوري الجنوبي، كما ساهمت في تطوير كافة قطاعات التكنولوجيا في مجال الصناعات الجوية والهندسة البحرية والتكنولوجيا الحيوية والطاقة والبيئة في العالم، إن السر في المعجزة الكورية هو العمل، ثم العمل، ثم العمل.لقد تزامنت زيارتنا إلى المقر الرئيسي لمجموعة "أل،جي" بالعاصمة سيول، والمقر عبارة عن برجين توأمين شاهقين جدا، بمحاذاة مقر البرلمان الكوري، مع حفل تنصيب رئيس الجمهورية الكوري الجدي يوم الاثنين 25 فيفري الماضي بحضور 60000 مدعو يتقدمهم رئيس حكومة اليابان ياسو فوكودا ووزيرة الخارجية الأمريكية رايس، ورغم ذلك الحشد الضخم لم تتوقف حركة المرور وكان يمكن أن لا ننتبه إلى ذلك لولا كثرة الأعلام التي زينت بها الشوارع مما دفعنا لمداعبة مرافقنا بالقول هل سيزور رئيس كوريا هذا البلد اليوم؟ فرد علينا باسما، لا اليوم حفل تنصيب الرئيس الجديد ليي ميونغ باك، الفائز فى الانتخابات بنسبة 48،7 في المائة برفعه شعار "الاقتصاد أولا"، مضيفا أن الصحافة الكورية أبرزت أنه أرتقى من فقير إلى رئيس مجلس إدارة شركة "هيونداى" العملاقة للهندسة والبناء. ووعد هو نفسه بأن يكون "رئيس مجلس إدارة" كوريا الجنوبية، وكان له ذلك. لقد ساهمت في صناعة هذه المعجزة شركات كورية جنوبية وفي مقدمتها عملاق صناعة الإلكترونيات "أل.جي" الذي يمثل جزء مهم من رئة الاقتصاد الكوري القوي والذي احتفل السنة الماضية بدخول جهاز تلفزيونه 100 بوصة كتاب غينيس للأرقام القياسية، وواحدة من أهم المجموعات التي يفخر بها الشعب الكوري، ففي العاصمة سيول وبقية المدن التي زرناها خلال زيارتنا إلى كوريا، لا تكاد تغيب عن عينيك علامة "أل.جي" من المصاعد إلى أجهزة تكييف الهواء إلى آلات الغسيل ومنها إلى أجهزة التلفاز وشاشات البلازما، مرورا بأجهزة النقال. فليس من الغرابة أن يقول لك أي مواطن كوري أن "أل،جي" هي علامة الشعب الكوري بامتياز، فهي تشغل 82000 موظف في مصانعها حول العالم بحجم مبيعات بلغ 38,5 مليار دولار، بفضل ثلاث قطاعات نشاط رئيسية تتمثل في الأجهزة الرقمية والتجهيزات وأجهزة الاتصالات المختلفة و الأجهزة الكهرومنزلية العالية الجودة ومنها أجهزة الطبخ الغسالات والثلاجات الذكية، حيث تعد "أل،جي" في شركة في العالم تسوق منتجات مطبخ ذكي متكاملة، تتضمن ثلاجة وجهاز ميكروويف وألة غسيل وألة طبخ ومكيف هواء، وكلها يمكن التحكم فيها عن طريق شبكة الانترنت.كما أن شركة "أل،جي" استبقت خطاب الرئيس الجديد الذي نصب يوم 25 فيفري الماضي، والذي تحدث عن نقطتين وهما بعث الاقتصاد الكوري والمضي قدما بموضوع الوحدة مع الجارة الشمالية، حيث قررت الشركة بناء أكبر مصنع للشاشات المسطحة في العالم بالقرب من المنطقة الحدودية المنزوعة السلاح بالشراكة مع مجموعة فليبس، وسيتم إنتاج الشاشات المسطحة من البلور السائل من الجيل السابع والتي تصل مساحتها إلى 4م2، بجودة عالية جدا حيث تصل نسبة التباين إلى أكثر من 6 مليون نقطة و1.1 مليار لون. ثلاجة كل 90 دقيقة ومصانع تشتغل بدون مخازن لا يخلو أي مصنع في الجزائر من مساحة للتخزين وهذه حقيقة مطلقة، غير أن ما كان يبدوا بديهيا عندنا، أصبح من المحرمات في مصانع "أل،جي" لصناعة الثلاجات في مدينة بيونغ تاك، الواقعة في الجنوب الشرقي على بعد 45 دقيقة بالطائرة من سيول. في المصنع الذي زاره الفريق الإعلامي الجزائري وفي صالات العرض الرئيسية لا يمكنك سوى أن تقف على معجزات في الإبداع الإنساني، ثلاجات أخر إبداع تكنولوجي مجهزة بتلفزيون وكمبيوتر للتحكم ، وغسالات تعمل بالبخار ضد كل أنواع البكتيريا وبدون ضجيج بحجم يصل إلى 16 كغ بالنسبة لتلك الموجهة للسوق الأمريكية، وروبوطات وأجهزة تكييف هواء صممت لتكون بمثابة لوحات فنية على الجدران من دون أن تلفت أدنى انتباه من أصحاب البيت أو الضيوف، وهو ما جعله أول منتج لأجهزة التكييف في العالم، بعدما تمكن من ابتكار تقنية تكييف حديثة جدا جعلته أهم متعامل في المجال على الصعيد العالمي من حيث حصة السوق أو النمو أو العائد على المساهمين، وهو ما شجع مجموعة "ال،جي" على المضي قدما في قطاعات أخرى ومنها أجهزة الاتصالات النقالة وتلفزيون البلازما والبلورات السائلة وأجهزة الكمبيوتر . لقد تمكنت مجموعة "أل،جي" أيضا، من ابتكار تقنية الحركة المباشرة لمحركات الغسالات، وهو محرك لا يستعمل البكرات لنقل الحركة، وهي براءة اختراع مسجلة ومحمية للعشر سنوات القادمة.ولم يكتفي العملاق الكوري بدرجة الابتكار التي بلغها ، فقد انتقل إلى مرحلة متقدمة جدا تتمثل في إطلاق حملة صحية من خلال إنتاج تجهيزات منزلية محافظة على الصحة والبيئة معا، بفضل أحدث التقنيات الرقمية والحلول المدمجة في البيوت بالاعتماد على الكمبيوتر والانترنت وفق وصلات يتم التحكم فيها مباشرة أو عن بعد من مكان العمل أو الجلوس بفضل شبكة الانترنت. في مصنع بيونغ تيك، تم الاحتفاظ بثلاث خطوط للإنتاج، كل خط ينتج 2100 وحدة يوميا او ما يعادل 600000 وحدة سنويا، ويشتغل المصنع 10 ساعات يوميا، و أوضح لنا ممثل المصنع أن معدل سن العمال يقدر ب30 سنة ، ويستلزم إنتاج ثلاجة واحدة 90 دقيقة من البداية إلى النهاية ويتدخل 150 عامل في سلسلة الإنتاج، فالعمال لا يختلفون عن الرجل الآلي في شيء تقريبا، فمن شدة الجدية في عملهم لا يضيعون مجرد ثواني لتحية أي كان، هناك لا مكان للمجاملة ، وأغرب ما وقفنا عليه في مصنع الثلاجات هو تخصيص خط لإنتاج ثلاجات خاصة بحفظ " الكمشي" الذي يعد أشهر أكلة في كوريا الجنوبية على الإطلاق، النقطة الثانية التي استرعت إعجابنا هي العبارة التي كتبت مرات عديدة على جدران المصنع وهي" شركة قوية، شعب قادر"، وهو ما يتأكد لك بمجرد خروجك من الباب الخلفية للمصنع أي عند نهاية خط الإنتاج، سألت مرافقنا، لماذا يتم تحميل الثلاجات في حاويات مباشرة عند باب المصنع؟ فكانت الإجابة بمثابة الصفعة، إن 70 بالمائة من الإنتاج يذهب مباشرة إلى الميناء ومن تم إلى السوق الأمريكية والأوروبية، أما 30 بالمائة من الإنتاج فيتم استهلاكه محليا. وبعبارة أوضح، المصنع لا يتوفر على مخزن، بل لا يوجد في قاموس الشركات الكورية شيء اسمه المخزن، وهذا سر من أسرار القوة. عند نهاية جولتنا للمصنع والتي تمت في ساعة واحدة ونصف، زرنا خلالها المعرض والمصنع، كانت وجهتنا مدينة ديغو، وهي مدينة جميلة جدا ونظيفة جدا وشوارعها شاسعة وطرقها كأنها أسطح طاولات من شدة الاعتناء بها وإتقان إنجازها رغم أن كوريا دولة تستورد 100 بالمائة من البترول الذي تستهلكه. تعد مقاطعة ديغو من بين أهم 5 مقاطعات في كوريا، فهي قطب اقتصادي ضخم جدا وعدد سكانها يقدر ب2.5 مليون نسمة، وتأتي في المرتبة الرابعة بعد كل من سيول وبوسان التي تمثل ثاني اقتصاد في كوريا الجنوبية وإنشون.وتعتبر بوسان التي تبعد عن العاصمة ب400كم مدينة كبيرة وحيوية ، يقطنها نحو 3,7 مليون نسمة ، وتم بناء الطريق السريع إليها في عام 1968من طرف الرئيس الكوري بارك شانج على الرغم من اعتبار الجميع للمشروع مضيعة للأموال وثارت ضده المظاهرات والاعتصام ولكنه كان يرى في هذا الطريق خلاصا لبلاده، وحصل على قرض من اليابان ب500 مليون دولار ونجح في بناء الطريق نحو المدينة التي تقع على الحافة الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة الكورية ، تبلغ مساحتها 763,3 كم مربع ، وهي ثاني أكبر مدينة في كوريا ، والميناء الذي تضمه بمياهه العميقة وأمواجها البحرية الهادئة سمحت لها بالنمو لكي تصبح ميناءً لاستقبال الحاويات في كوريا الجنوبية وخامس أكبر ميناء في العالم .كما تمثل مدينة بوسان عنوان النهضة الحديثة التي تعيشها كوريا الآن، فهي واحدة من أهم الموانئ، وتحتل المرتبة الثانية في تجارة الحاويات بعد سنغافورة، وشهدت أكبر صناعة للسفن في العالم، وكانت مفتاحها على العالم الخارجي وخاصة اليابان، حيث جاءت التكنولوجيا والاستثمارات، ومنها خرجت المنتجات الكورية للعالم بعد أن أصبحت أكثر أصالة وابتكارا.ويعمل حاليا نائب رئيس مقاطعة ديغو السيد بارك بون كي المكلف بالشؤون الاقتصادية الذي نظم على شرف الوفد الإعلامي الجزائري، حفل غذاء رسمي، تحدث خلاله عن الجوانب الاقتصادية للمدينة، على تنفيذ خطة مستقبلية تهدف لجعل المقاطعة في صدارة الاقتصاد الكوري خلال السنوات القادمة، مضيفا أن المقاطعة تشتهر بتنظيمها للمعرض الدولي السنوي للنسيج، كما أنها مركزا لصناعة السيارات، كما تطرق نائب رئيس المقاطعة إلى العلاقات الاقتصادية الكورية الجزائرية مشيرا إلى أن الجزائر بإمكانها الاستفادة بقوة من التطور الذي حققته الشركات الكورية، ولكن مع ضرورة" العمل، والعمل وبقوة وجدية لأنهما السر الوحيد في النجاح". زيارة مستشفى دونغ سان أنهينا جولتنا إلى مصانع مجموعة "أل،جي" في مدينة بيونغ تيك الساحرة وتوجهنا مباشرة إلى فندق راق جدا بوسط مدينة ديغو، وبمجرد دخولنا الفندق أستلمنا بطاقات غرفنا، لأن مرافقنا أجرى الحجز من قبل، لا مكان هنا لتضييع الوقت، وبعد الاتفاق على أن ساعة العشاء حددت عند السابعة والنصف، صعد كل إلى غرفته، وبعد العشاء، طلب منا مرافقنا بأن لا نأكل شيئا في صبيحة اليوم الموالي، تفاجئ الجميع، ولكنه سارع للقول أن المجموعة العملاقة "أل،جي. إلكترونيك"وفي إطار سياستها الجديدة المتمثلة في إطلاق منتجات صحية وصديقة للبيئة، قررت تقديم مفاجئة للوفد الجزائري، تتمثل في فحل وتحاليل شاملة 100 بالمائة لكل أعضاء الفريق، في مستشفى دونغ سان الواقع بمدينة ديغو، وهو مستشفى تابع لجامعة كيم يونغ، وأسسته البعثة الأمريكية سنة 1899 ، وهو الآن ثاني أهم مستشفى في كوريا على الإطلاق وواحد من أهم المستشفيات الجامعية في العالم بالنظر إلى نوعية الأطباء الذين يشتغلون فيه والتجهيزات التي يتوفر عليها والتي تعد أخر صيحة في عالم الابتكارات التي وصلت إليها مجموعة "أل،جي". وصلنا إلى المستشفى، وجدنا مديره شخصيا في انتظار الوفد وفي يده باقة ورد جميلة جدا، وبعد جولة في أجنحة المستشفى، وصلنا إلى الطابق الثاني، أين يوجد مركز التحاليل والفحوصات الشاملة، بمجرد دخولنا سلمت لنا ملابس خاصة بالفحوصات الشاملة، وضعنا ملابسنا في خزائن خاصة، ثم تقدمنا إلى الفحص، الذي يبدأ من الوزن والطول إلى فحص العيون والسمع، ثم الرئة والقلب والتصوير الداخلي إلى الفحوصات الباطنية باستخدام مختلف أنواع الأشعة ومنها الليزر، ثم تحليل الذم والبحث عن السل الرئوي والبحث عن فيروس السيدا ومختلف الأمراض المتنقلة عن طريق الجنس، ثم البحث عن أمراض السرطان عفاكم الله، وبعدها تحليل عينات البول، وكل ذلك يحدث في 45 دقيقة فقط ولا يمكن أن يتخلى الشخص عن أي من مراحل العملية بسبب التنظيم المحكم للأقسام الطبية الموجودة في طابق واحد وله مدخل واحد ومخرج واحد، وبمجرد انتهاء كل المراحل، يتم الخروج إلى قاعة الأكل. لقد سلمت إلى أحد أصدقائي وهو طبيب الحصيلة بمجرد عودتي من سيول، فأمسك برأسه وقال إن بعض التحاليل التي أجريت لنا هناك في وقت قياسي، لا نستطيع نحن في الجزائر إلى اليوم إجرائها. الطريق إلى محطة التزحلق لقد تواصل رهاني لأصدقائي في طريقنا هذه المرة نحو محطة التزحلق على الثلج الواقعة بمنطقة كونغ وون الجبلية المرتفعة التي تمتاز بتساقط كميات من الثلوج خلال فصل الشتاء مما جعلها من أهم منتجعات التزحلق في على الثلج في كوريا والعالم، فهي منتجع ضخم جدا يتوفر على حوالي 40 فندقا مصنف 5 و4 نجوم وعدد كبير من الكازينوهات وملاعب الغولف، غير أن الوصول إلى منتجع "هاي 1" وهو اسم المكان، ليس بالبيسير بسبب المنعرجات الكثيرة على الطريق وكذا الأنفاق المتعددة التي يفوق عددها ال50 نفقا والتي يتراوح طولها بين 100 متر و10 كم، غير أنه يستحيل أن تجد حفرة واحدة في الطريق الذي يتوسط سلسلة من الجبال تكسوها غابات ومساحات زراعية لا يمكن لمن يمر من هناك سوى أن يقف رغم أنفه بسبب سحر النظام، لا توجد مساحة صالحة للزراعة مهما كانت مساحتها، ولم تزرع بطريقة علمية مدروسة. يستحيل أن ترى أرض بور ولو كانت في قمة جبل، فالكوريون يستغلون كل متر مربع من أرضهم، مما جعلهم يحققون اكتفاء في مجال أمنهم الغذائي. قبل الوصول إلى محطة التزحلق، أعلن مرافقنا في الرحلة السيد هويا يونغ، أن المنطقة شديدة البرودة وأن درجة الحرارة تصل إلى 7 درجات تحت الصفر ، وهي درجة عادية بالنسبة للكوريين، أما بالنسبة لنا القادمين من منطقة المتوسط، فلا مجال للصمود بدون مضاعفة ملابسنا، ولا خيار لنا سوى التزام الفندق الذي كان ممتلئا على أخره كون وصولنا تزامن مع عطلة نهاية الأسبوع والكوريون شعب يحب التنزه وخاصة التزحلق، فصبيحة الأحد تعرف المحطة اكتظاظا شديدا بعد وصول العشرات من الحافلات تحمل المئات من هواة التزحلق من نساء وشباب وأطفال ورجال، أما نحن فذهبنا لأخذ حصة دراسية حول تقنيات التزحلق، وهي خطوة ضرورية قبل السماح لك بالدخول إلى ميدان التزحلق الذي يبلغ طوله 4كم، لكنها مغامرة لا يجب تفويتها بالنسبة لأمثالنا القادمين من إفريقيا، وبمجرد دخولي إلى المحطة تأكدت لماذا نسبة الانتحار تكاد تكون منعدمة في كوريا ، ولماذا لا ينحرف الأطفال الكوريون. عند الساعة الرابعة، ينادي السيد هويا يونغ، على الجميع الكل يرتدي ملابسه العادية، لقد حان وقت العودة إلى مدينة الحلم، العاصمة سيول، على الطريق نحو العاصمة سيول، يمكن الجزم أنه طريق للأحلام وليس طريقا كبقية الطرق، لا يمكن للإنسان أن يرى إنجازات بتلك الطريقة سوى في كوريا الجنوبية، عندما تتوقف في محطات الربط على الطريق السريع، يمكنك أن تقف على درجة النظام والدقة التي وصلها هذا الشعب. لا يمكنك أن تجد مراحيض عامة متهرئة أو قذرة، لقد بدا لي من شدة أنها ناصعة، إنني في دولة من الدول التي تدين بالإسلام. وصلنا إلى مدينة سيول عند الساعة الثامنة ليلا، متجهين مباشرة إلى فندق فخم مقابل للمقر الرئيسي للمديرية العامة لشرطة كوريا، بالمناسبة سيول هي مدينة الفنادق الراقية بامتياز، بعدها خرجنا للعشاء في مطعم تركي، وضع على مدخله شهادة للذبح الحلال، وهو مطعم يقصده رجال الأعمال القادمين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وباكستان وتركيا. طلبنا الأكل وشددنا على صاحبنا أن يكثر من الخبز، فهي المرة الأولى التي نأكل فيها خبزا مشابها لخبزنا منذ وصولنا إلى كوريا. وبالمناسبة فسيول مدينة على برودتها الشديدة لا تنام، ومن العادي جدا أن تجد فتاة تسير في الشارع لوحدها على الساعة الرابعة صباحا، ولا يعترض طريقها سوى البرد الشديد. وعلى ذكر النساء الكوريات، فمن النادر أن تجد واحدة منهن تدخن، أما بعض الشابات من المعتنقات للنموذج الأمريكي، فتفضلن الاختفاء عن الأنظار للتدخين، بسبب رفض المجتمع الكوري المحافظ للتدخين. لا يمكن زيارة سيول من دون زيارة "إن سا دونغ" وهو حي الهدايا والتحف التقليدية الكورية، ولكن سيول كما في كل المدن الكورية، لا يمكن أن تخلو واجهة محل من لوحات إشهارية اغلبها بالكورية وبعضها يضيف الانجليزية، كما لا يمكن أن تخلو تلك الأسواق الشعبية من طبق دودة القز التي يتناولها الكوريون مثل الكاوكاو في الجزائر. قال لي السيد هويا أن الكوريون يسلقون الدودة ويأكلونها بعدما تشيخ وتتوقف عن إنتاج الحرير. مباشرة بعد جولة الصباح وزيارة الحي التقليدي، جاء موعد زيارة حي يونغ سان وهو المكان الذي لا يمكن أن يتجاهله أي زائر لكوريا ولو كان قادما من نيويورك، لأن أفضل مكان لشراء التجهيزات الإلكترونية المختلفة التي تخطر على البال أو التي لا يمكن تصورها وبأسعار في المتناول، حيث يوجد 5000 محل يستحيل زيارتها كلها في اقل من أسبوع كامل، لكن الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن تجده هو أمك وأبوك. "عفوا .. هل هذا هو هاتفك؟ في كوريا لا يجيد سائقي الأجرة اللغة الانجليزية، ويفضل أن يتم كتابة عنوان المكان المراد الذهاب إليه مسبقا وتسليمه للسائق، غير أن الإبداع لا تقف أمامه الحواجز، فقد تم ابتداع مترجم ألي يترجم العديد من لغات العالم إلى اللغة الكورية، بمجرد أن يصعد الزبون يتكلم بلغته خاصة إذا كانت انجليزية أو صينية أو اسياوية عموما فيقوم المترجم الآلي بالترجمة إلى الكورية، وهو أمر أكثر من ضروري لمن يريد أن يزور الأسواق أو المجمعات التجارية الكبرى والأسواق الشعبية المتنوعة في العاصمة سيول التي تعرض فيها منتجات تتنوع من المجوهرات، والفراء، والحرير، والسيراميك، والمطرزات إلى أخر صيحة في عالم أجهزة الكومبيوتر والمنتجات الإلكترونية ومواد الكهرومنزلية، وطبعا منتج الجينسينج الذي يشتهر جدا في العالم بسبب منافعه الطبية الكثيرة وهناك العديد من المتاجر الكبرى التي تقع في قلب العاصمة سيئول ومنها: "شينسي جاى" و"هيونداى"، وبرج "دونج بانج"، وهي مراكز ضخمة جدا في شكل أبراج يصل عدد طوابق بعضها إلى أزيد من 20 طابقا وبعضها يعمل 24 ساعة في اليوم بدون توقف، ويستحيل أن تسمع أن الذين يترددون عليها يتعرضون إلى عمليات سرقة أو اختطاف هواتفهم النقالة، حيث لا يوجد شحاذون ولا لصوص، على الرغم من أنه من النادر أن ترى شرطيا في شوارع كوريا، حيث يخيل للزائر أنه في مدينة أفلاطون. ومن بين التصرفات الرائعة التي تحسب للكوريين أن تقريرا لمجلة "ريدرز دايجيست" تحت عنوان "عفوا .. هل هذا هو هاتفك؟ أكد أن العاصمة الكورية الجنوبية سيول تأتي في المركز الثالث عالميا من ناحية استعداد الأفراد لإعادة الهواتف المحمولة المفقودة إلى أصحابها، وأظهرت التجربة أن 27 هاتفا ضائعا في سيول تمت إعادتهم ، بنسبة استرداد بلغت 90% ، لتحصل سيول على المركز الثالث عالميا في هذا المجال بعد كل من ليوبليانا عاصمة سلوفينيا ومدينة تورنتو الكندية ، بمحصلة استرداد بلغت في كل منهما 29 هاتفا و28 هاتفا على التوالي.وقامت الدراسة على أساس «اختبارا للضمير" تم إجراؤه في عدة مدن في أنحاء متفرقة من العالم، وكانت التجربة عبارة عن إلقاء 30 هاتفا محمولا في كل مدينة من إجمالي 32 مدينة، ثم إحصاء عدد الهواتف التي تمت إعادتها إلى أصحابها...المؤسف أنه عندنا لا نكتفي بالاحتفاظ بالهواتف الضائعة بل أصبحت مهنة اختطاف الهواتف باستعمال السلاح الأبيض مهنة رائجة جدا. الأسعار في سيول مرتفعة، كما في كل المدن الأخرى التي زرناها، وتوجد في العاصمة شوارع كبيرة للتسوق ، ولمن لا يملك وقتا أثناء النهار هناك منطقة كبيرة جدا يفتح معظم المحلات فيها (بين 11 ليلا والسابعة صباحا في بعض الحالات)، لكن أصحاب كثير من تلك المحلات لا يعرف الانكليزية ويجري التفاهم مع المشتري عن طريق كتابة الرقم المطلوب بالعملة الكورية الوان Won والتي تساوي حوالي 930 وان للدولار الأمريكي، على لوحة الآلة الحاسبة وعرضها في وجه الزبون، ومن الممكن أن تقترح على البائع تخفيض السعر، لكن الغالب أنه يجابهك برفض تصاحبه ابتسامة حلوة جدا على وجه البائع أو البائعة، مما يشدك أكثر ويدفعك إلى مبادلة هذا الشعب كل الود والاحترام. انتهت زيارتنا إلى كوريا وحل موعد العودة على متن رحلة طائرة بوينغ 777 تابعة لشركة الخطوط الجوية الكورية، التي عبرت أجواء الصين ومنغوليا ثم سيبيريا الغربية فموسكو وسان بترسبورغ، ثم فنلندا وإيسلاندا وألمانيا ثم بلجيكا ففرنسا. عندما حطت بنا الطائرة في مطار شارل دوغول انتابنا الإحساس بأننا في قلب العالم الثالث. لقد تمنيت أن ندير أنظارنا ناحية هذا البلد الذي قبل التحدي واستطاع أن يحول التخلف إلى طاقة هائلة للبقاء، وتمنيت أن يقوم مسؤولينا بزيارة كوريا الجنوبية، كما تمنيت أن تكون غاية واضعي السياسة الاقتصادية في الجزائر هي دراسة هذه التجربة التي نهضت وسط ظروف صعبة وبإمكانات ضعيفة لتخلق اقتصادًا منتجًا وحديثًا حتى من دون بترول. إن التجربة الكورية تستحق الدراسة لعلها تنقذنا من حلقة التخلف التي ندور فيها، لقد فعلت كوريا الشيء الصحيح في الوقت الصحيح وبالطريقة الصحيحة.