ليس من السهل أن تفقد عائلة أحد أفرادها خصوصا وأن هذا الفقيد يتعلق برب الأسرة الذي جاء غيابه على حين غرة وبين عشية وضحاها، يتحول هذا الشخص الذي ضحى من أجل وطنه ونداء الواجب بأغلى ما يملك من أعضاء جسده كلفته عجزا أدخله قائمة المعوقين من بابها الواسع إلى سجين يقبع داخل مؤسسة التربية رفقة المتهمين والمجرمين الذين ارتكبوا مخالفات ضد القانون العام وأضروا العباد والبلاد على حد سواء، كان هو واحدا من أكبر رجال الشرطة المكافحين لها رغم أن التهم الموجهة إليه لا تخرج عن نطاق الكلمة التي ضحى من أجلها الكثير ودفعوا حياتهم ثمنا من أجل حرية التعبير، هذه الحرية التي إذا قلبنا صفحات التاريخ الإنساني نجد أنها كائن يتعرض إلى الخنق والإعدام والاقصاء من طرف الذين يريدون إخفاء شمس الحقيقة بغربال الباطل من الزمن الذي سبق الحلاج والسهر وردي إلى زمننا، هذا الذي يتسم بقشرة الحداثة والتقدم وحقوق الإنسان وحرية التعبير التي تبقى مجرد حلم بعيد المنال ينشده كل من يحمل رسالة الكتابة، ليس في الدول المتخلفة أو التي هي في طريق النمو فقط، بل حتى المتقدمة أيضا، رغم أنه وكما يقال أن الكتاب لا يمكنهم تغيير مجرى التاريخ، هذا الأخير الذي يحمل مزبلة، وحده من يصنف الجديرين بأن تبقى بصماتهم الذهبية وشما باديا على لوحاته الخالدة، ومع كل ذلك فإن ممارسي فعل الكتابة يتعرضون دائما، وكأنه قدر محتوم، إلى المضايقات المستمرة التي تختلف أنواعها وأشكالها بدء من الابتزاز والإغراء والتهديد والوعيد إلى تكميم الأفواه والزج بهم في غياهب السجون أو حتى التصفية الجسدية. عمي رابح الذي رفع شعار التحدي في وجه الألم والمعاناة والعجز وبالعودة إلى الاعتداء الذي تعرض له منتصف التسعينات من القرن الماضي من طرف الإرهابيين أثناء مواجهة دامية ألحقت به أضرارا جسيمة ونفسية لا يمكن لأي أحد ولو كان من أقرب المقربين إليه أن يقوم بوصفها أو يحدد معالمها، ومع كل المعاناة التي يشعر بها ويعيشها، العجز والألم الذي حولته الإرادة التي يتسلح بها عمي رابح كما يحلو لسكان مدينة تبسة الذين يعلمون قيمة ومدى التضحيات التي دفعها خلال ربع قرن قضاها في صفوف الشرطة بين مكافحة الجريمة بأنواعها وردع مرتكبيها وبين مكافحة الإرهاب الهمجي الذي اكتسح المنطقة على غرار جميع مناطق الوطن، إلى نوع من التحدي، فهذا الشخص الذي يحمل بطاقة عجز تقدر ب140 %، اندمج من جديد داخل المجتمع على عكس الكثيرين الذين فضلوا الاستسلام لواقع العزلة والتخفي، وراح يتجند مرة أخرى من أجل هذا الوطن الأبي على طريقة الكبار، هذه المرة ليس بحمل السلاح، ولكن بحمل القلم، والتقرب من شرائح المجتمع المعدومة التي راح ينقل انشغالاتها بكل حزم ودون رهبة ولا حتى طمعا في المال الذي يقول بشأنه دائما أنه لا يحتاجه، وفعلا فإن عمي رابح كان مولعا بالمطالعة فهو يحمل من الزاد المعرفي والتراكمات الناتجة عن اطلاعاته لسيما فيما يتعلق بقوانين الجمهورية الشيء الكثير، كان حريصا على ضرورة نقل الواقع كما هو، وفي ذات الوقت فإنه لا يخفي على أحد حبه للجزائر وعشقه اللامتناهي وولعه الزائد عن كل لزوم بجهاز الشرطة، كما أنه كان بحكم عضويته في جمعية ضحايا الإرهاب وذوي الحقوق التي يعتبر من أبرز مؤسسيها على المستوى الوطني، يندد جهارا نهارا بكل عملية دموية، ويوقع بيانات الشجب والاستنكار ضد مرتكبيها، ومعروف عنه أيضا قوله لكلمة الحق التي لا يخاف فيها لومة لائم، كما أنه كان كثيرا ما يردد مقولة كلمته الحرة المقتنع بها سواء أرضت الآخرين أو أسخطتهم، أما الكاتب الذي يجامل بكلماته ويجاري التيار ويماشي الظروف، فهو كاتب دجال لأنه لا يصدر عن عقيدة واقتناع، فهو إذن كاتب انتهازي أو مأجور أو جبان. هكذا كانت قناعات عمي رابح الذي ترك فراغا رهيبا وسط عائلته الصغيرة المتكونة من زوجته وابنته وابنيه محمد ولقمان، وكذلك وسط الأسرة الإعلامية المتكونة من أصدقائه الذين يمثلون مختلف وسائل الإعلام الوطنية، بالإضافة إلى مقعده الذي ألفه فيه المجتمع داخل محل الهاتف العمومي بوسط المدينة التي يلتقي فيه هو وزملاؤه كل يوم في محاولة منهم لكسر روتين ورتابة الأيام التي كان يواجهها بابتسامة عريضة. "النهار" تدخل مسكن عمي رابح وتلتقي بأفراد عائلته.. الحزن الكبير والصمت الرهيب سيدا المكان كانت الساعة العاشرة صباحا من يوم الجمعة، عندما طرقنا باب مسكن عمي رابح الواقع بإحدى العمارات على مستوى حي الجرف أعالي مدينة تبسة، فتح لنا الباب ابنه محمد صاحب الثامنة عشر ربيعا، وبعد تقديمنا لأنفسنا رحب بنا وبعد استئذان والدته قام بإدخالنا، أول ما لفت انتباهنا، الشرود الذي كان يبدو على ملامح محمد ولقمان الابن الأصغر الذي خرج من غرفة مقابلة وهو الذي نجح في شهادة التعليم المتوسط لهذه السنة، وبعد حديث قصير دار بيننا اتضح أن والدتهما نائمة بفعل المرض الذي سكنها من يوم إيداع عمي رابح السجن والذي زادت وطأته يوم الثلاثاء الفارط عندما حكم عليه بالسجن لمدة 6 أشهر نافذة، وبعد فترة التحقت بنا ابنته الكبرى التي تخرجت هي الأخرى هذه السنة من الجامعة إثر حصولها على شهادة ليسانس في الحقوق من جامعة تبسة، كان جو البيت الصغير حزينا يكتسيه صمت رهيب، وجوه الأبناء شاحبة لا أثر للبسمة، وفي محاولة منا لكسر جدار الصمت، ارتأينا أن تكون البداية بتهنئتهم على النجاحات الدراسية المحققة إلا أن الأمور لم تزد إلا تعقيدا عندما أخفض الثلاثة رؤوسهم بعد أن ارتسمت حيرة كبيرة على وجوههم، وبعد برهة قالت ابنته إن أفراح الدنيا بكاملها لا تهمهم ما دام والدهم وراء القضبان، حتى أنها انفجرت باكية مما زادت من تراجيدية المكان، وبعينين دامعتين، واصلت "كان حلم أبي الذي سهر وتعب من أجلنا وضحى بنفسه وبسنوات عمره وبجسده أن يكون حاضرا يوم إنهائي الدراسة الجامعية ويقيم لي حفلا كبيرا، كان دائما يقول لي أنه يراني محامية تدافع عن المظلومين، إلا أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فقد أنهيت دراستي وكأن شيئا لم يكن"، نفس الشيء بالنسبة لابنه لقمان الذي قال أيضا "كان أبي قد وعدنا كعادته كل سنة بأن يأخذنا في رحلة استجمامية إلى إحدى المدن الساحلية، لكنهم أدخلوه السجن وحرمونا منه ومن عطلة هنيئة ككامل العائلات"، ليأتي دور محمد الذي بدا عليه عدم التصديق بأن والده الذين كان يتتبع خطواته ويناقشه في كل الأمور، وراء القضبان تاركا له حملا ثقيلا، حمل عائلة برعايتها إلى حين عودته، لم يستطع حتى الحديث فلم نصبر عليه أكثر. تقول ابنته عن آخر زيارة لوالدها في السجن أنه كان غير متفائل لليوم الذي سينطق فيه الحكم "صحيح لقد قال والدي أنه كشف للقاضي رفقة دفاعه المتكون من أربعة محامين كل الظروف المحيطة بقضيته خلال الجلسة التي سبقت النطق بالحكم بأسبوع، إلا أنه صرح لي بأن أمله في الخروج لا يتجاوز نسبته ال50 %، في إشارة إلى أن الأشخاص الذين أرسلوه إليه مصممون على إدانته بأي طريقة"، وأضافت تقول "إن والدي أثبت للقضاء أنه بريء خصوصا بعد استخراج محاميه لأوامر بمهمة صادرة عن المؤسسة الإعلامية التي يتعامل معها، كما شرح العبارة التي توبع على إثرها بتهمة إهانة هيئة نظامية"، كما كشفت أن والدها أرسل إليها رسالة تتضمن كل الحيثيات المحيطة بالقضية التي زج به على إثرها في السجن، وقالت أنها سوف تناشد من خلالها رئيس الجمهورية ووزير العدل حافظ الأختام وتطالب بضرورة فتح تحقيق لأن والدها سجن بطريقة تعسفية، مشيرة إلى أن والدها ليس لصا أو إرهابيا حتى يرمى في السجن بهذه الطريقة، على الرغم من أنه ضحية إرهاب وعاجز عن الحركة ويحتاج إلى مساعدة كبيرة في كل لحظة، وهذه المساعدة لا يستطيع أحد تقديمها إليه إلا عائلته، مشددة في ذات الوقت على أن والدها لن يصمت أمام الظلم الذي تعرض إليه وسيواصل المطالبة بحقوقه المشروعة وسيتابع كل من نصب له فخ السجن، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما قالت "حتى لو يمت والدي داخل السجن فسأكمل مسيرته وأكشف الحقيقة وأسترد حقه، حتى لو أنني قد أفشل بسبب الموت مثلا فكل أفراد عائلتي سيتولون البحث عن الحقيقة والمطالبة باسترجاع حق والدنا المظلوم لقد أصبحت قضية سجن والدنا قضية حياتنا"، واستفسرت عن ممثلي حقوق الإنسان واللجان التي يشرفون عليها الذين لم يتحركوا لحد الساعة رغم أن وضعيته لا تنتظر أكثر من المدة التي قضاها في السجن، شأنهم شأن بقية زملاء المهنة في مختلف الصحف، "فعدا جريدتين فإن البقية التزموا الصمت حيال والدي من المفروض على الجرائد الأخرى أن يتخذوا موقفا بغض النظر عن الجريدة التي ينتمي إليها خاصة وأن هناك بيانات استغاثة وصلت إليهم منذ بداية الحبس". المراسلون الصحفيون بصدد الدخول في إضراب مفتوح عن الطعام وإلصاق أفواههم بالشريط اللاصق وفي سياق الموضوع، علمت "النهار" أن مجموعة من المراسلين بولاية تبسة سيتخذون في الساعات القادمة موقفا تضامنيا مع الزميل سواء بتبسة أو بالعاصمة قد يكون إضرابا عن الطعام وغلق الأفواه بالشريط اللاصق والتوقف عن مراسلة كل الصحف التي ينتمون إليها إلى غاية اتخاذ موقف اتجاه زميلهم واتجاه ما يتعرضون له هذه الأيام من دعاوى قضائية من عدة جهات مختلفة على خلفية تطرقهم لمواضع ذات شأن محلي بتبسة بغرض تضييق الخناق عليهم وردعهم عن تعرية الواقع والكتابة عن انشغالات المواطنين.