تتخبط غالبية عائلات المساجين على مستوى الوطن في دوامة معاناة واحدة تكتبها أخطاء الآباء أو الأبناء أو حتى الأزواج وتدفع ثمنها أسر كاملة وإن فرّقتها الإنتماءات والمواطن فقد وحدتها "القفة" التي تكون عنوان زياراتهم لذويهم المحبوسين، وللاقتراب من عالمهم ورصد ولو قدر قليل من معاناتهم قاسمناهم مرارة الانتظار والترقب لخمس ساعات كاملة في مؤسسة إعادة التربية بالحراش. وصولنا إلى هناك تزامن ولحظة الضغط في حدود العاشرة صباح، القاعتين المخصصتين للانتظار ممتلئتين على الآخر والباقون في الخارج يعلم عددهم الله، سيارات تحمل ترقيم ولايات كثيرة، نساء، شابات، شباب، شيوخ، وحتى أطفال ورضع الكل شد الرحال نحو هذه المؤسسة مكرهين في غالبية الأحيان لأنهم لو خيروا لما وطأت أقدامهم أبواب سجن الأربع قطارات كما يعرف اصطلاحا وهذا لشساعته ولو أنه التهم هكتارات أخرى على أيامنا هذه. الساعة كانت تشير إلى تمام التاسعة والنصف ساعة الذروة كما جرت العادة، فخلف هذه الجدران الشاهقة يقبع آلاف المحبوسين الذين يتهيؤون لرؤية ذويهم، ترددنا في الدخول مخافة من أن يطالبنا عونا حفظ النظام المرابطين عند البوابة الرئيسية برخصة الزيارة وبعد لحظات استجمعنا قوانا واندفعنا نحوهم بابتسامة ملغمة وسرعان ما وجدنا أنفسنا قبالة بوابتين فرعيتين، إحداهما تقود إلى قاعة الانتظار الخاصة بالنساء وفي آخر الرواق تقع تلك الخاصة بالرجال، دخلنا القاعة التي وجدناها تشبه كل شيء إلا أن تكون مكاننا نظيفا، الابواب مرت عليها سنين طويلة دون أن تطلى أو حتى تغسل، وفي الزاوية الخلفية للقاعة التي وزعت بداخلها قرابة ال150 كرسي حديدي يوجد مرحاض لا يتوفر ولا على قطرة ماء، ولكم تصور الروائح المنفرة المنبعثة منه، الأمر الذي ساعد البعوض والذباب على التواجد في المكان بقوة، ولا يمكن للداخل إلى هذه القاعة إغفال وجود العناكب التي غطّت أنسجتها الفوضوية المكان، وفي المقدمة نصبت شاشة تلفاز كبيرة ضبطت تردداتها على قناة"آنترناشينل جيوغرافيك"، ولو أن وجودها مثل عدمهم بل ساعدت كثيرا في مضاعفة الضوضاء التي تحول المكان إلى شبه سوق بالنظر إلى صراخ الرضع و مشاغبات الأطفال التي تخرج في الكثير من الأحيان عن القواعد العامة، وعلى جنبات القاعة نصبت مكبرات صوت، عددها ثلاثة، موضوعة داخل صناديق فولاذية مشبكة ربما لحمايتها من غضب الضيوف(..)، والجدير ذكره أن الكراسي وضعت قبالة باب أكل عليه الدهر وشرب والذي يقع خلفه عون أمن واستقبال، يفتح كل 15 دقيقة تقريبا للسماح للعائلات الزائرة بالمرور، لكن ليس بسهولة تامة كون الباب المعني ينتهي بحواجز حديدية تقودك للتفكير في المناطق الحدودية، خصوصا وأن المطلوب هنا هو استظهار بطاقة التعريف الوطنية أو رخصة السياقة وحتى جوازات السفر وفي أحيان كثيرة الدفتر العائلي كونكم داخلون إلى مملكة المساجين في أحد أشهر سجون العاصمة. الكل يتساوى عند أبواب حبس الربع قطارات هي حقيقة وقفنا عليها فالعائلات التي تقاسمت كراسي القاعة وجنباتها كانت من كل طبقات المجتمع، أغنياء، إطارات دولة، مثقفين، ربات بيوت، عاملات، جامعيات، ثانويات والسواد الأعظم من الفقراء وسكان المناطق النائية من الولايات الداخلية، واستطعنا تحديد الفئات التي ينتمون إليها من خلال هناديمهم وكذا طرائق كلامهم، إذ كانت هنالك فئة ترتدي أي شيء، المهم شيء يستر الجسد والذي يتمثل في غالبية الأحيان في سيدات في العقدين الرابع والخامس يرتدين حجابات قاتمة اللون وينتعلن أحذية بالية ورخيصة في غالبية الأحيان"صابو"أو نعال من البلاستيك بألوان مختلفة، وجدت التجاعيد طريقها بسهولة إلى وجوهن بالنظر إلى حجم المشاكل التي وقعت على كاهلهم ومن بينهم خالتي فتيحة، 56 سنة والتي دأبت منذ أكثر من ثلاث سنوات على التردد على السجن لزيارة فلذة كبدها"حسين"الذي تورط في شجار انتهى بجريمة قتل في حي بوروبة الشعبي والتي أخبرتنا أنها تجمع مكونات القفة بشق الأنفس خاصة وأن بقية أفراد عائلتها سئموا التكفل بملئها دائما، كما كانت هناك سيدة دخلت القاعة بخطى متثاقلة، مرتدية ملاءة سوداء بشعر لونته بالأصفر الفاقع، وهي تجر صغيرها باكيا جرا، وكانت تصرخ وتشتم فيه وفي والده وجميع عائلته، وأمام استغرابنا اقتربت منا إحداهن وأخبرتنا أن زوج المعنية ضيف دائم على سجن الحراش وأنه مدمن مخدرات وحشيش. وغير بعيد عنهما كانت تجلس سيدة بدى عليها أنها في قمة الخجل، كانت تلتفت يمنة ويسرى وتتأمل وجوه الجالسات داخل القاعة، الأمر الذي شجعنا على الاقتراب منها وتحججنا أننا نحن كذلك قصدنا المكان لأول مرة ونريد التقاء صديقتنا التي جاءت لزيارة والدها، وكانت الفرصة للدخول في حديث حميمي معها، عرفنا من خلاله أنها تدير شركة مصغرة في ولاية تيزي وزو رفقة أبنائها وأنها هنا لزيارة ابنها الذي يقضي عقوبة 5 سنوات اثر تورطه في قضية سب وشتم وضرب في حق رجل قوة عمومية وأن الأمر أثّر سلبا على سمعتها وسمعة عائلتها كونها تعيش في دشرة"مغلقة"، كما اكتشفنا من خلال حديثها أنها سيدة مثقفة وانه تندب حضها الذي قادها إلى هنا، كما كانت هناك بعض السيدات ممن جئن في قمة أناقتهن كما لو أنهن متوجهات إلى عرس أو ما شابه لكن تشديدات عون الأمن بتخفيف الحلي الذهبية وإبقائه رفقة الهواتف النقالة في الأمانات قطع أمامهن الطريق فاتحا الباب لبعض التعليقات الساخرة التي تصب في ذات الباب، إضافة إلى شلة من الشابات والمراهقات اللواتي جئن في قمة أناقتهن لغاية ما في نفس يعقوب. القفة: واش جبت..واش يسوى وليدك هي قاعدة متعارف عليها لدى العائلات التي الفت المكان والفت الزيارات التي تكون بمعدل زيارة واحدة أسبوعيا إلا في حالة محددة كأن يتوفى شخص للمحبوس أو يرزق بمولود جديد، ولا غنى عن القفة التي تكون محور الزيارة وأساسها، قفف بألوان مختلفة ولكن بنفس الحجم ، بعضها ممتلئ والآخر شبه فارغ ومغطى، فضولنا جعلنا نسأل عما يمكن جلبه للمسجونين وهناك علمنا بوجود قائمة طويلة عريضة للممنوعات تبدأ باللحوم الباردة، المواد الغذائية سريعة التلف، مواد التنظيف السائلة، المشروبات الغازية، السكر المبلور، بعض أصناف السجائر، الشكولاطة، الفواكه الجافة، المكسرات بكافة أنواعها، أما المسموح به فيتمثل في 10شكاير شمة" أو 10 علب سجائر لا أكثر ويشترط أن تكون تحمل علامة:آفراز، نسيم، ريم فقط، إضافة إلى سكر القطع والتمر منزوع اللب،بعض أنواع الحلويات البسيطة"الطابع"أما الفاكهة فتقشر قبل إدخالها إلى السجين وتقطع إلى قطع صغيرة وتوضع في علب، على أن يزيد وزن القفة عن 10 كيلوغرامات، كما اكتشفنا الدور الكبير الذي القفة وما فيها وما يجب أن يكون، فهي مظهر للتباهي للبعض والذين يحضرون لنزلائهم بعض أنواع الحلويات الفاخرة، فيما لا تضم أخرى غير بعض الأشياء الضرورية، وأخرى تأتي خاوية وتملئ من حسنات المحسنين والذين غالبا ما يكونون من العائلات الزائرة مثلما حدث مع عائلة جاءت لزيارة سجين خاوية اليدين، فتكفلت إحدى الشابات بشراء القفة من دكان مقابل للسجن، وتطوعت كل واحدة من الحضور بشيء مما جلبته وهكذا ملئت القفة والأكيد أنها ستبهج صاحبها مثلما أبهجت والدته التي لم تكف عن البكاء والدعاء لمن ساعدوها. زواج..كراء..تجارة..والمزيد تتحول قاعة الانتظار إلى غرفة استماع كبيرة، فالكل هنا يفرغ قلبه وما فيه، الحال واحدة ولا أحد أحسن من الآخر ووجودهم أصدق تعبير عن مقولة أن المصيبة إذا عمت خفت،مواضيع كثيرة تتناولها النسوة الجالسات تصب غالبيتها في الإطار الاجتماعي من شكاوي حول غلاء المعيشة وصعاب التوفيق في جمع القيمة المالية للقفة ومحتوياتها ومشقة التنقل إلى الحراش بالنسبة للعائلات المقيمة خارج حدود العاصمة، إضافة إلى تناول تهم وجرائم ذويهم بالتحليل والنقاش بنوع من العفوية وكثير من السخرية، ليتحول الأمر إلى شبه مباهات ومثال من أمثلة"الرجلة"و"النيف" بالنظر إلى مدى خطورة الجريمة وترتيبها، كما لمسنا بعضا من الحميمية بين بعض الزائرات اللواتي اعتدن التواجد معا في نفس مواقيت الزيارات فتجدهن يسألن بعضهن عن أحوالهن وعن أمورهن الشخصية وأمور عائلاتهن، وأخريات شغلهن المنتخب الوطني عن كل شيء فصرن محللات رياضيات وداعمات للخضر أو معجبات بوسامة زياني أو مهوسات بالحديث عن قامة بوغرة ومطمور، وأخريات يتحدثن عن مشاريعهن التجارية ولو كانت تجارة بسيطة بالتجول بين البيوت أو الدلالة في أسواق الذهب، كما كانت هنالك فئة قدمت خصيصا لاختيار عروس لأحد أبنائها طالما أن الحال نفسه، فتجدها تتنقل بين الصفوف باحثة عن صاحبة الحظ السعيد، وتصادف أن وجدنا إحدى هته العرائس والتي كانت برفقة حماتها وجاءت لزيارة شقيقها الموقوف وشقيق زوجها والتي حكت لنا أن حماتها خطبتها داخل حدود قاعة الانتظار هذه، وأنها سعيدة في زواجها، وقد أسالت هذه الظاهرة الجديدة لعاب الكثير من العازبات اللواتي صرن يأتين إلى هذه البقعة في قمة أناقتهن لاصطياد شريك ما يلفتن انتباهه، والطريف في الأمر أنه حتى الشباب غايتهم واحدة، فبين الفينة والأخرى يدخل أحدهم بحجة مكالمة والدته ليغتنم تلك اللحظات ويسبح بنظره بين الموجودات عليه يصطاد واحدة، يسلمها رقم هاتفه الخلوي للاتصال بها فيما بعد، كما اكتشفنا أنهم يستعملون الأطفال الصغار لإيصال أرقام الهواتف بعد رشوتهن بمبلغ من النقود أو ببعض الحلوى. تنظيف في حدود ال11.15 وعائلات مثلما تأتي ترجع ونحن ننتظر برفقة العائلات المرابطة هناك تفاجأنا بحملة تنظيف يقودها عون حفظ النظام رفقة مجموعة من المساجين صغار السن والذي أمر جميع النسوة بالتوجه إلى القاعة الأخرى المخصصة للرجال بعدما أخرج هؤلاء طبعا إلى حين استكمال عملية التنظيف، وهذا ما حدث ولا فرق يذكر بين القاعتين عدى أن القاعة الأخيرة مزودة بسلة مهملات كبيرة، ومباشرة بعد عودة الأمور إلى نصابها تفاجأ الحضور مرة أخرى بذات الشخص وهو يخبرهم بأن فترة الزيارة الصباحية قد انتهت وما عليهم إلا الانتظار إلى المساء،الأمر الذي أحدث جلبة في المكان غذتها نقمة البعض وغضب البعض الآخر الذين سيجدون صعوبة في الالتحاق بمنازلهم مساء، كما لاحظنا خلال تواجدنا هنالك نوعا من الفوضى، فالعائلات التي يحول أبناؤها لا تعلم مسبقا وإنما تصطدم بالواقع في عين المكان، فتجد النسوة يبكين والوالدات يولولن خصوصا أولئك اللواتي يصعب عليهن تأمين"الزيارة"في المرة المقبلة عائلات كما تأتي تعود إما لأن أبناءها حولوا دون إعلامها، فتجدهن يفتشن فوق الأعمدة الإسمنتية المدعمة للقاعة عن أي ورقة قد تحمل وجهة التحويل،وحالة أخرى وقفنا عليها وهي إلغاء بعض الزيارات لسبب من الأسباب التي تبقى مجهولة لدي العائلات والتي أسر لنا بعضهم أنها مرتبطة أساسا بسلوك المسجون الذي قد يكون معاقبا أو مريض أو شيء من هذا القبيل، كما اكتشفنا أن النساء المسجونات حظهن قليل من الزيارات ونادرا ما تحظى إحداهن بزيارة وكذلك المثليين الذين عادة ما يسال عليهم رفاقهم، أما نوع الزيارات فيختلف باختلاف الأيام، فمثلا المحكوم عليهم بالإعدام زياراتهم يوم الخميس وكل سجين لديه الحق في زيارة واحدة أسبوعيا لا أكثر.